بعد كلّ موضوع أنشره في "إيلاف" أتلقّى رسالة ألكترونيّة أو إثنتين أو ثلاثاً من قرّاء أفاضل. أمّا أكثر ما تلقيت من رسائل كان ذلك حين ترجمتُ قصائد لشعراء أستراليين يندِّدون بسياسة أستراليا العنصريّة اتِّجاه اللاّجئين وخصوصاً العراقيين والأفغانيين. وكانت هذه القصائد قد نُشِرت في أنطولوجيا ضمّت قصائد لخمسين شاعراً وشاعرة موسومة بـ "مراكب مفتوحة \ فضاء الأسلاك الشائكة". وكان عدد ما تلقّيت حينها من رسائل الكترونيّة بلغ تسع رسائل منها واحدة من الشاعرة سوزان عليوان وأخرى من الشاعرة منى كريم. لكن الرسالة الأخيرة التي تلقّيتها من صديق الغربة الطويلة شربل بعيني عقيب نشر مادّة في إيلاف عن إصدار الشاعر عيسى مخلوف الجديد وهو بعنوان "رسالة إلى الأختين" أكثر ما استوقفتني لملاحظة فيها تفيد أن مقالتي قد خلت رغم أنّها " رائعة، خفيفة الظلّ، وحلوة كبريجيت باردو أيّام شبابها" من "استشهادات ... لنتعرّف على أسلوب الكاتب وطريقة تفكيره وكيفيّة صياغته للجملة العربيّة"، فكتبت على الفور للصديق شربل أشكره على ملاحظته ووعدته خيراً . وهكذا عدتُ إلى الشاعر عيسى مخلوف و"رسالة إلى الأختين" التي
هي سلسلة من الخواطر، ومقتطفات رسائل، وأحلام وآمال ورؤى وهوامش وأجنحة شعريّة وصوَر وملامح وفكر وأسئلة تؤلّف معاً قصّة طويلة غاية في الشفافيّة والإنفعال الصادق والعقل الجامح الرصين. فماذا أقتطع لأقدِّمه إلى الصديق شربل وللقرّاء الكرام من "رسالة إلى الأختين" الصادرة عن دار النهار ـ بيروت والتي "اقترضتها" من الصديق الشاعر وديع سعادة بشرط أن أعيدها إليه في اليوم التالي، فهو نفسه لم يقرأها بعد. وهي، وإن توزّعت على أكثر من أربعين فصلاً وهامشاً، وحدة موحّدة تكتسب جماليّاتها من تواليها الرقراق وبوحها الخاصّ وماسها المشعّ هنا وهناك على هيئة نظر حاد يخترق الأشياء ويمسحها من الداخل ويسأل دائماً عن المعنى الذي رغم بهائه هو إلى امّحاء. ولذلك كان صعباً علي فصل وليد عن أمِّه وتقديم مقتطفات من الكلّ. ولكن أريد أن أفي بوعدي لشربل فماذا أفعل؟.
إليكم في ما يلي مكرهاً لا بطلاً مقتطفات من "رسالة إلى الأختين":
" ... خارج العزاء. خارج الخلاص والوعد المخلّص. كل شيء يمضي. الجبال والبحار، معاً. خارج ما يأتي من الحياة والموت. خارج عشبة الخلود التي تنبت على حافّة الحلم. خارج البقاء والرحيل. خارج ما نعرف وما لا نعرف. خارج الأمل واليأس. خارج المراثي والمدائح. أرافق الغيمة إلى مصيرها وضوءَ النجمة بعد أن ينتهي الليل. أرافق النسمة الطالعة من الحقل ولا أسألها أين تمضي.

أرافق نبض قلبي، هذا المجذاف الذي يضرب في قاع غامض. ص34


**

" ... البصر يجعلنا نرى، لكن ما أن نرى حتّى يقوم فاصلٌ بيننا وبين ما نراه". ص55

**

" ... في هذا الفضاء الفاتن، المذهول بنفسه، انطلقت رصاصات ثلاث.
ما كان القتيل يفكِّر في جروحه. كان يعرف في قلبه أن القاتل لم يفرغ بعد من مهمّته وأنّه سيأتي لإتمامها. وهو، في تلك اللحظة، لم يكن خائفاً من الرصاصات الأولى التي اخترقت جسده، بل من الرصاصة التي ستأتي حاملةً إليه الموت.
كان خائفاً من رؤية عيني القاتل، وممّا يحوم حول هاتين العينين، في تلك اللحظة بالذات.

المرأة السبعينيّة التي مرّت من هناك في اليوم التالي، وهي في طريقها إلى الكنيسة المجاورة، لحضور قدّاس الفجر، شاهدتْ بقعة الدماء. شاهدتْها واستغربت. تساءلتْ عمّا أصاب الجزّارين الذين تعوّدوا أن يذبحوا الماعز والعجول والأكباش على عتبات حوانيتهم، وما الذي دفعهم إلى ذبحها، فجر هذا اليوم، وسط الطريق العام.

بتهذيب كامل وبصوت خفيض يعترف القاتل بالقتل. يحرّك المسدّس بين يديه. يتلمّسه ويحتضنه كطفل رضيع. الإحساس بثقل المسدّس وبحجمه شيء رائع بالنسبة إليه. يملأ اليد بالعنفوان والنفس بالقدرة على القتل. القادر القدير. متى شاء أقفل المكان، ومتى أمر افتتح المهرجان. مسدّس المآتم والأعراس. مسدّس البطولات المزيّفة والغرائز الصاحية والدماء التي لم تجف. المسدّس الذي يمتدّ خلسة كحيّة في الظلام، وذاك الذي يُشهر في وَضَح النهار ويصهل متوهّجاً ملتمعاً.
هذه الكتلة الحديديّة المصقولة باتّقان. الفاعلة، النابضة، القابضة على الروح حين تعانق قبضة القاتل. حين يتمسّك القاتل بجبروت مقبضها ويضعط على الزناد، فيفرغ من حوله الهواء، ولا تعرف الروح من أين تهرب. من أيّ مسارب أو مسامّ.
يتساءل العابر: هل كان ماء الينابيع الغائرة يختلط في باطن الأرض بالدماء. بهذا العرس الدموي الذي لا تغيب شمسه.

على بعد خطوات من هنا، سقط القتيل أرضاً. وعلى بعد أمتار منه، تحلّق الجزّارون حول عجل مسمّن فذبحوه أمام الجمع، وسلخوا جلده عن لحمه بسكاكينهم وأيديهم الغليظة، بعثروا عظامه على الطريق العام. أمّا رأسه المقطوع فعلّقوه كراية على رافعة حديديّة.

أنا هنا، كما في كلّ مكان في العالم، مسكون بما يشعر به الحيوان لحظة اقترابه من النهاية، وأمامي، أمام عينيّ الفانيتين، رأسُ العجل المذبوح ولسانه المتدلّي من شدقيه.


أمامي عضّة الوجع الأخيرة". ص110 ـ ص111.

**
"... تلك الظهيرة، وقفتِ على شاطئ البحر. أرخيتِ رأسكِ إلى الوراء والتفتّ إلى أعلى حيث تحوم النوارس. ذلك النورس بالذات، وكان يحاول الإقتراب منكِ. يقترب ويصيح ولا يجرؤ على الإقتراب أكثر. كأنّه لا يجرؤ على اختراق حدود غير مرئيّة. وأنتِ جامدة في موضعك. كنتِ تصرّين في وقفتك على معرفة ما يريد إيصاله إليك. على علوّ منخفض يطير مترنّحاً منسكباً، ثمّ فجأة يجمد في مكانه، فوق رأسك تماماً، ومنقاره مصوّب نحوك.
بعد أن أطلتِ التحديق به، تلتفتين إليّ وتقولين: "الطير الذي في عليائه هو أنتَ. لكن لماذا لا تتقدّم؟ لماذا تنظر إليّ كأنّك لا تعرفني. تشتهيني من بعيد كمن يشتهي إمرأة غيره. تقدّم. تعالَ وخذني ..." ص144 .

[email protected]