الى الصديق رضا الاعرجي


وافق اعضاء الجمعية الوطنية العراقية بالاجماع بتاريخ السادس من نيسان الحالي، على الانتقال الى مبنى "مجلس الامة"، بدلا من عقد اجتماعاتها في "قصر المؤتمرات". وبهذا القرار فان الجمعية الوطنية تعيد "الانوار" الى مبنى "مجلس الامة" الذي شيد في الخمسينات، بمنطقة كرادة مريم في الكرخ بالعاصمة العراقية، ذلك المبنى الذي لم يقم بوظيفته اطلاقا، منذ ان اتتهت اعمال التشيد فية في نهاية الخمسينات ولحين الوقت الحاضر.
وعمارة ذلك المبنى، كما هي حال كثير من المباني الاخرى لم يتطرق احد اليها، وباتت عمارتها تمثل صفحات منسية في تاريخ العراق المعماري، بسبب سياسات النظام الديكتاتوري البائد، الذي اسدل ستارا كثيفا من الاهمال والتجاهل والالغاء، لكل ما تم، او تحقق او انجز، قبل "اختصابه" للسلطة في تموز سنة 1968، فضلا على "ولعه" في التخفي، و"افتنانه" بالسرية، اللذين يحاول ان يلف بهما جميع تحركاته واماكن تواجده ومقراته الرسمية.. و" الحزبية " ايضا ً!
يستحضر الكلام، عن عمارة مبنى " مجلس الامة "، استذكار بقية الامكنة والمباني التى شغلها " مجلس الامة " – وهو التعبير الشائع لاسم " البرلمان " العراقي، الذي انشأ عام 1922، بُعيد تأسيس الدولة العراقية الحديثة في آب عام 1921، والتى سارعت في الاهتمام غب تأسيسها الى انشاء مؤسسات حكومية جديدة، لم تكن معروفة سابقا ً.
وكما كان متوقعا ً، فان غالبية المباني التى امست بين يوم وضحاها، مقرات لمؤسسات الدولة الفتية، لم تكن عمارتها ملائمة بالقطع مع خصوصية وظائف تلك المؤسسات، لا من ناحية طبيعة الاحياز المطلوبة، ولا من ناحية نوعية " فورماتها "؛ فمجمل تلك المباني كانت سكنية، ذات احياز تناسب بشكل وبآخر وظيفتها، ومنفذه بمواد انشائية متواضعة، ولم يدر في خلد " معماريها " و " اسطواتها "، انها سوف تؤدي يوما ما، مثل تلك الوظائف!.
لقد كانت تركة الحكم العثماني على البلد ثقيلة، وثقيلة جدا ً امتدت لقرون، وافضت الى خراب تام، وتدمير كامل لكل مقومات الحياة العصرية في مدن العراق العثماني. وتكمن المفارقة " الطريفة " بان نظام الحكم الجديد الذي أ ُختير للعراق عام 1921، كان لدرجة متطورا ً وحديثا ً، بحيث عجزت احيازمنشاءات البيئة المبنية وقتذاك، ان تلبي ولو قسطاً يسيرا ً من متطلباته الفضائية!؛ فما عدا " القشلة " ومشتملاتها البنائية، لم تكن ثمة مبان ٍ اخرى في بغداد، قادرة على استيعاب متطلبات الوزارات المختلفة، ومؤسساتها الكثيرة التى استحدثت بشكل مفاجئ وعلى عجل.
ويمكن ان يبيّن المثال التالي مقدار النقص الكبيرفي نوعية المباني التى واجهتها بغداد، كعاصمة للدولة الحديثة، فلم يكن في بداية العشرينات، بطول المدينة وعرضها، مبنى تليق عمارته، على سبيل المثال، بمقام وعمل " الملك " الذي نُصّب توا ً؛ مما حدا باحد اثرياء بغداد المعروفين، وهو السيد " شعشوع " ان يخلي داره، ليكون " بلاطا ً " للامير الاتي من الحجاز!. و" قصر شعشوع " الواقع في منطقة الكسرة، الذي فاخر البغداديون بهيئته طويلا، لا ينطوي على اي حدث ممّيز، لا من ناحية العمارة، ولا الانشاء، ولا حتى من ناحية المواد. وعندما قمنا انا وطلابي من قسم العمارة في جامعة بغداد، باجراء " مسح " توثيقي معماري في الثمانينات، لتلك الدارالمشهورة في تاريخ العراق، دهشت لبساطة لغتها المعمارية الغارقة في تقليديتها، ذات الاحياز المتواضعة، والمنطوية على سذاجة انشائية صريحة؛ وظل الملك مقيما ً في تلك " الدارة " لحين تنفيذ مبنى " البلاط الملكي " في المنطقة ذاتها عام 1925، ذلك المبنى الذي انجزته " دائرة المباني العمومية " الشهيرة، التى اضطلعت بمهام تصميم وتنفيذ اكثرية المباني الحكومية الجديدة في العشرينات والثلاثينات.
واذا كان هذا هو حال بناء " المقر الملكي "، فان قضية ايجاد مبنى ملائم لمجلس الامة، الذي يجهل العراق واهله اصلا، وجود مثل هذه المؤسسة التشريعية، تبدو عملية شاقة ومربكة وملتبسة بالنسبة الى اولئك الذين كلفوا تأمين او تأهيل مثل هذا المبنى. وباقتراح من احد البغداديين الظرفاء، تم اجراء انتخاب اعضاء المجلس التأسيسي في " بناية سينما رويال "!، في حين تم ّ افتتاح المجلس يوم الخميس، بتاريخ 7 اذار (مارس) عام 1924، في بناية مستشفى في جانب الكرخ! (ولم يشر المصدر، الذي اقتبس منه هذه المعلومة عن اسم المستشفي العتيد، لكن " معلوماتي " المعمارية، تشيرالى وجود مستشفي وحيد آنذاك في تلك الانحاء،هو مستشفى.. العزل!؛ وطرافة المفارقة، هنا، واضحة : انعقاد مجلس تشريعي في.. مستشفى عزل!، وهو نفس المستشفى الذي سمي لاحقا " بمستشفى الامراض المتوطنة "، وغُير اسمة في السبعينات الى "مستشفى الكرامة "!)
عندما اغلقت " جامعة آل البيت " في سنة 1929، التى شيدت في 1922-24، انتقل اليها " مجلس الامة " في تشرين الثاني سنة 1930، مستخدما قاعتها الفسيحة التى يصل عرضها الى حوالى 9 امتار، وكانت في حينها، من اوسع قاعات بغداد طرا ً. ثم انتقل " المجلس " بعد ذلك الى مبنى" مدرسة الصنائع " الواقعة في منطقة القلعة بباب المعظم مجاورا لوزارة الدفاع، وبالقرب من " القصر العباسي " الذي تعود اثاره الى فترة القرن الثالث عشر الميلادي. وهذه " المدرسة " اسسها الوالي العثماني " مدحت باشا " في سبعينات القرن التاسع عشر. واستمر " المجلس " شاغلا هذا المبنى بعد اجراء تحويرات مناسبة عليه لحين قيام ثورة 14 تموز (يوليو) عام 1958، التى اوقفت نشاطه اولا، ثم الغته فيما بعد.

في الخمسينات، اقبلت البلاد في الشروع لتنفيذ اجراءات تحديثية جذرية وواسعة، شملت نواحي الانشطة الحياتية كافة، ومن ضمن تلك الاجراءات البدء في تنفيذ مبان مختلفة المضامين والمقاسات، تفي بالمتطلبات الجديدة التى افرزها الحراك السياسي والاقتصادي الموار بعد الحرب العالمية الثانية اثر ارتفاع معدلات حصص الحكومة العراقية من موارد النفط، الامر الذي ادى الى تأسيس مجلس الاعمار ووزارة الاعمار، من اجل تخطيط ومتابعة وتمويل مشاريع الاعمار المتنوعة وتنفيذها.
كان من ضمن الابنية التى ادخلت في قائمة المشاريع مستعجلة التنفيذ، تشييد مبنيّين : احدهما مبنى " البلاط الملكي " في كرادة مريم، عوضا عن المبنى المتواضع المنفذ عام 1925 في الكسرة، والمصمم من قبل الميجور ويلسون – رئيس دائرة الاشغال العمومية انذاك؛ والمبنى الاخر، مخصص الى" مجلس الامة " في ذات المنطقة بالكرخ بالقرب من جسر الملكة عالية (1957)، الذي سيدعى " جسر الجمهورية " (1958)؛ بدلا من مقره الحالي غير الملائم، في منطقة باب المعظم.
عهد في عام 1954، الى المعمار البريطاني “ جيمس بريان كوبر James Brian Cooper " بتصميم ذينيك المبنيين ّ. و " كوبر " سبق وان عمل في العراق بين 1934- 1936، وشغل آنذاك منصب GA، اي " معمار الحكومة Government Architect "، وهو منصب مهني رفيع، يراس شاغله دائرة من اهم دوائر تشكيلات مديرية الاشغال العومية، ومن ضمن صلاحيات هذه الدائرة منح الموافقات الخاصة لتنفيذ مشاريع الدولة الكبرى، والاشراف الفني علي تنفيذ تلك المشاريع. والمؤسف ان هذه الدائرة الغيت اداريا في نهاية الثلاينات، وخسر العراق، كما اعتقد، مؤسسة فنية، كان بمقدورها كبح جماح فوضي التصميم والتنفيذ العشوائيين.
واثناء وجود وعمل " كوبر " في العراق بالثلاثينات،شاغلا منصب " معمار الحكومة "، صمم مبنى " الضريح الملكي " في الاعظمية (1934-37)، وصمم " مدرسة الهندسة (1935) التى شغلتها طويلا كلية الهندسة في باب المعظم، وقبلها صمم "دار المعلمين الابتدائية " في الاعظمية (1934)، كما انه صمم كثير من الابنية الصحية والمدارس في عموم العراق، وقام باعداد تصاميم ابنية سكنية عديدة في بغداد، منها " بيت نوري السعيد " في الوزيرية، الذي تشغله الان " كلية الفنون الجميلة "، و بيت السياسي العراقي " نصرت الفارسي " في الوزيرية ايضا،وكذلك صمم " قصرا " الى الامير عبد الاله، الوصي على عرش العراق وقتذاك، لكن التصميم لم ينفذ في حينه. ويقال ان من ضمن اسباب تكليف " كوبر " للمبنيين المشارين اعلاه، معرفة الوصي "عبد الاله " به معرفة شخصية، (ويراد، الان، لنا ان نصدق بان " المحسوبية " حالة طارئة على.. التقاليد العراقية!!).
وايا ً يكن الامر، فان " جميس بريان كوبر " قام باعداد تصاميم ذينيك المبنيين : مبنى " البلاط الملكي " الذي ستؤول تسميته الى " القصر الجمهوري "، ومبنى " مجلس الامة "، الذي سيدعى " المجلس الوطني ". وسنتناول عمارة المبنى الاخير في الاسطر القادمة.

تتسم لغة عمارة مبنى " مجلس الامة " على كلاسيكية مفرطة، تتجلى تصميما ً في التأكيد على محورية حادة وصريحة للفضاءات المصممة، مع اظهار التماثلية، كاحد مقومات التكوين، فضلا على استخدام مفردات تصميمة محددة، يشي حضورها الى مرجعيتها الكلاسيكية، كالرواق المعمد عند المدخل " البورتكو " Portico، واستخدام مقياس معين بغية تضخيم الاحساس بالرسمانية، فضلا على التأكيد لعنصر السلالم العريضة التى تقود الى المدخل، وغير ذلك من العناصر الاخرى.
يتألف مبنى المجلس من ثلاثة طوابق : منها طابقين اساسين مع طابق شبه السرداب lt; التسوية gt; Simi – basement، يعتمد المصمم شكلا ً مألوفا لمساقط مخططاته، شكلا ًسبق وان شاهدنا مثيلاً له مرارا في مبانٍ عديدة، وهو شكل المخطط الذي يأخذ هيئة حرف (H) اللاتيني، الاثير لدى انصار التوجهات الكلاسيكية، ثم يشرع بمهارة مهنية، لا يمكن تجاهلها، في " املاء " هيئة كتلته بفضاءات متنوعة، يقتضيها برنامج المبنى التصميمي. فثمة قاعة رئيسية مخصصة لمجلس النواب، واخرى اصغر منها لمجلس الاعيان، ومكاتب اللجان الفرعية وعددها تسعة، واخرى مخصصة الى الوزراء بالاضافة الى وجود مكتبة، ومطعم، وغرف المناقشة، والارشيف، ومكاتب رئيسي المجلس والسكرتارية، ومكاتب خاصة بالصحافة، مع توفير فضاءات خدمية كافية تضمن تشغيل المبنى بصورة مريحة وكفوءة.
تنطوي فكرة المعالجات الواجهية على تكرار مفردة تصميمية، مكونة من عقد مدبب يستند على عمودين مزدوجين، وتحيط هذه المفردة التصميمية الرئيسية باروقة الطابقين الاساسين.من جميع الجهات تقريبا ً. ولا يكترث المعمار لطبيعة وخصوصية توجيهات Orientation المبنى باتجاه الجهات الاربع؛ ذلك لان المهم لدية هو الالتزام الصارم بالنظام التكويني الكلاسيكي، اكثر بكثير من مراعاة نوعية الفضاءات التى تقع خلف تلك الاروقة او اتجاهاتها. ويجاري المصمم تصورات كثير من اقرانه الغربيين ذوي الاتجاه الكلاسيكي، في ايمانهم بان الاسلوب التصميمي المسمى " بالاندلسي "، بامكانه، ولوحده التعبير عن الهوية الشرقية. وطبقا لتلك التصورات فان توظيف مفردة العقد المدبب المرفوع بواسطة عمودين قصيرين، مع شرائط افقية ملونة، بمقدورهما استحضار ذلك الاسلوب، واستدعاء " ايقونته " المتخيلة، من هنا يمكن تفسير " ولع " المعمار في طريقة توظيفاته المكررة لتلك المفردة.
يشير " كوبر " الى مكونات منهجية التصميم التي يهتدي بها في عملية خلق عمارة المبنى، فيحددها بالعناصر التالية : الزمان، والوظيفة، والمكان، والمناخ، والمواد؛ وكلها عناصرتكوينية لا غبار عليها، انها مكونات صائبة ومقنعة جدا ً.
لكن المسألة المهمة، هنا، في اعتقادنا، ليست مقتصرة على تسمية او تعداد تلك المكونات، بقدر كيفية التعاطي معها، وتحديدا كيف يمكن ادراكها او تأويلها. وتلوح لنا، بان فعالية الادراك " الكوبرويه " تلك التى عرضها المعمار، حافلة بفهم خاص ومتفرد، فهم لا يجاري، كما نرى، سياق معاني تلك المكونات ودلالاتها المرتهنة دائما بسياقها الزمني؛ وانما تتبدى الفعالية التصميمية المعروضة، وكأنها تطمح الى عكس تأثيرات الزمن الحاضر على اسلوب تكويناتها، لكن نتائج وحقائق معطى المنجز المرئي تحيلنا بوضوح الى...خارج الزمن : في الاقل خارج زمننا الراهن. ذلك لان نوعية المنهاج التكويني المقترح من قبل المعمار، والمغلف بقيم المقاربات الماضوية، الكلاسيكية تحديدا، ً قد تجاوزته الممارسة المعمارية الحديثة منذ امد طويل، وامسى جزءا ً من ذاكرة معمارية راجت قيمها في القرن التاسع عشر!
واذ يولي المصمم قدرا ً من الاهتمام للناحية المناخية، فانه لا يفتأ يظل متمسكا ً في معالجاته في تكرارنصوصية الحلول المناخية المألوفة في تقاليد المنطقة البنائية، من دون ادنى مسعى لتوظيف نتائج نجاحات الاستعمالات الحديثة في هذا المجال. ويمكن للمرء ان يجادل، فيما يخص المكان والمواد، كمكونيّن يحرص المعمار الى ايلاءهما اهتماما خاصا؛ فلا نرى في التكوين المقترح محاولة ما، جادة لتأويل عناصر الارث البنائي الاقليمي المرموق، كما ان المصمم لا يولي البته لاهمية حضور المادة الانشائية المحلية : الطابوق lt; الآجر gt; في مبناه، تلك المادة التقليدية والمألوفة في المنجز البنائي المحلي، والمفضلة لدى معماري العراق، منذ مباني بابل الغارقة في قدمها، مرورا " بآجريات " مباني العهد العباسي الفخمة، وصولا الى طريقة استخدام الطابوق في عمارة " جامعة آل البيت " المؤثرة!
ولا اعتراض لدينا قطعا ً، لمسعى المعمار في اختبار، واختيار مواد انشائية بديلة عن الطابوق، لكن ملاحظتنا اتت في سياق تأكيدات المعمار المزعومة بمراعاة استخدام المادة الانشائية المحلية، للتعبير عن خصوصية المكان. ونرى في محاولته ادخال تقنيات " الحجر " غير المألوفة في الممارسة البنائية المحلية لتنفيذ جدران مبناه (وليس اكسائها!)، محاولة جريئة ونافعة في آن، لجهة التنوع " المادوي " الذي يحسن ان تتعرض له منظومة البناء المحلية. ويتحلى " الحجر " المستخدم في الجدران الخارجية لمبنى " مجلس الامة"،على مواصفات جيدة، كما ان الوانه الطبيعية المختارة، تلائم على نحو كبير خصوصية الجو البغدادي المترب، والمسرف بسطوعه وشدة انارته. وتجدر الاشارة بان قطع الحجر المستخدم في مبنى " مجلس الامة " استخرجت من مقالع تقع في ضواحي مدينة " اريحا " بفلسطين، ونقلت برا ً الى بغداد عبر الاردن!. وما دمنا قد ذكرنا " حجر اريحا " فاننا نشير، والشئ بالشئ يذكر، بان الحجر المستخدم في مبنى " البلاط الملكي " (القصر الجمهوري حاليا ً)، والمصمم من قبل نفس المعمار، والمنفذ من قبل نفس الشركة اللبنانية، هو من منطقة " بيت لحم " في فلسطين ايضا ً.

ورغم ان شكل مخطط المبنى منتقى مسبقا ً، كما اشير الى ذلك، فان المعمار استطاع ان يجعل جميع فضاءات مبنى المجلس تعمل بكفاءة عالية. وافضى " افتنان " كوبر – كاحد معماري الاتجاه الكلاسيكي، وولعه بلزوم وجود فضاءات عديدة وفسيحة، سواء كانت وظيفية ام خدمية في التصميم المعد، افضى الى جعل احياز المبنى المختلفة مؤهلة وظيفيا ً لتلاءم كثير من المتغيرات، التى قد تفرضها المتطلبات والاستخدامات المستقبلية. بعبارة اخرى، تغدو فضاءات المبنى " الخادمة، والمخدومة " (وفقا ً لتعبير " لويس كان ") متكافئة، هنا في القيمة التصميمية، ويمكن بسهولة تحويرها طبقاً للمستلزمات الجديدة، التى ستطرا لاحقاً على نوعية فضاءات المبنى. وبالامكان اعتبار هذا المعيار، معيارا ً تكوينيا ً مقبولا ً، رغم كلفته التصميمية العالية، سيما وانه يتعلق في عمارة مبنى عام، تتسم وظائفه على متغيرات سريعة في النواحي الادارية والتنظيمية. ويحرص المعمار الى تأكيد هذا الجانب التكويني كأحد اوجه خصوصية التصميم، فيقرر استخدام منظومة انشائية مركبة، قوامها نظام الجدران الحاملة، مع مزجها مع النظام الهيكلي. ويتمتع النظام الاخير، كما هو معروف، على امكانات واسعة لجهة حرية اجراءات تقطيعات فضائية متنوعة.
ولئن صمم المعمار سعة قاعة مجلس النواب، كي تستوعب 220 نائبا ً (وهو عدد نواب مجلس الامة في الخمسينات)، فانه يراعي تصميميا ً امكانية اسيعاب فضاء القاعة الزيادة المتوقعة في عدد النواب مستقبلا ً، طبقا لزيادة سكان البلد المنتظرة. كما يقترح المصمم العزوف عن استخدام نظام ترتيب صفوف المقاعد " المتقابلة "، المتبعة في قاعات مجلس الامة العراقي منذ انشائه في العشرينات، والذي يحاكي نظام ترتيب مقاعد مجلس العموم البريطاني؛ ويقترح ان يكون نظام توزيع المقاعد ضمن قاعة مدرجة، على شكل حدوة الحصان " الامفيثياتروي "، المألوف في البرلمانات الاوربية، او كما يسميها المعمار بـ " برلمانات القارة! ". ويدعو الى وجوب وجود منبر خطابي رئيسي امام مقاعد النواب، ويليه صف اعلى من المقاعد المخصصة الى رئيس المجلس ونوابه، واسفلهما صف آخر من المقاعد مخصص الى الوزراء يجلسون قبالة النواب، وجها ً لوجه. ولا ينسى المعمار تصميم شرفات خاصة الى الصحافة، ومقاعد الى " العامة " التى تود متابعة المناقشات.

يتميز مبنى مجلس الامة حاله حال جميع المباني ذات الاتجاه الكلاسيكي، باعتناء نادر في التفاصيل، التى اتت جميعها على قدر كبير من الاتقان والبراعة والحرفية العالية. وسعى المصمم ان تكون الخدمات الميكانيكية والكهرائية والصحية فيه مماثلة لاحدث المنظومات الخدمية في حينها. ويركز المعمار على وجوب استخدام منظومة كهربائية-الكترونية، تحصي وتؤشر عمليات التصويت.(وفي هذا الصدد، فاننا نتوقع ان تكون منظومة احصاء التصويتات القادمة في المجلس التشريعي الحالي " احدث " من النظام البدائي والساذج وغير الحضاري، الذي جرى " تفعيله " اثناء إحصاء اصوات المشرعيين في الجلسات الاخيرة للمجلس، والمعتمدة على رسم مجاميع من " الواحدات " الافقية المؤشرة بخط قطرى – " دياغينالي " على خشية " سبورة "، تتماشى طبيعة استخدامها مع حالة " اطفال " غض، في صفوف اولى من مدرسة ابتدائية!).

يُأخذ على عمارة المبنى كونها اعتمدت اساسا ً على مقاربة معمارية، تقع عادة، كما اشير سابقا ً، ضمن الاتجاهات الكلاسيكية، تلك الاتجاهات التى لم تعد تثير اهتماما ً كثيرا ً لدى المعماريين، نظرا ً لتشابهه اشكال مخططاتها المشوبة بتكرار ممل لمفردات معمارية بعينها، بالاضافة الى عدم اكنراث تلك الاتجاهات واهمالها الفاضح في التعاطي مع الفروقات " التايبولوجية " للمباني المصممة، الامر الذي افضى الى انحسارها سريعا ً من مقاربات الخطاب المعماري العالمي الحديث.
بيد ان التقييم الموضوعي لعمارة " مجلس الامة " البغدادي، تحتم الاقرار، بان الجهد التصميمي الجاد والمبذول في اعداد مخططات المبنى، ماانفك يعتبر جهدا ً معماريا ً مميزا ً، بل ويمكن تقييمه كأضافة نوعية لمفردات البيئة المبنية المحلية. فنحن ازاء درس معماري تثقيفي مركز، يطمح لتأثيث فضاء تلك البيئة الفقيرة بمرجعية مغايرة، مرجعية تجد اصولها في ينابيع الاتجاه الكلاسيكي، من هنا، يمكن ادراك محاولة المعمار الرفع من شأن هذا الاتجاه، والتركيز عليه كاتجاه غير مألوف في التاريخ العمراني المحلي. وفي هذا السياق، لا يمكن للمرء، الا وان يتفق مع ملاحظات المعمار العراقي " جعفر علاوي "، التى ابداها في حديث سابق معي، من ان مجرد رؤية مبنى عمارة " مجلس الامة " بتفاصيله المتأنقة، الذكية، عالية المهنية يستحضر المتلقي في وعيه مفهوم معنى " العمارة " الحقيقي : العمارة، الجادة والرصينة؛ دعك من انها.. كلاسيكية!!.
ظلّ مبنى مجلس الامة، منذ نهاية الخمسينات، مبنا ًمهملا ومهجورا، ولم ينهض بوظيفته التى من اجلها تم ّ تصميمه وتشييده؛ ثم شغلته وزارة الخارجية في الستينات لفترة قصيرة، قبل أن يستولي عليه " صدام " ليجعله مقرا ً له، عندما كان " نائبا ً " للبكر، الذي اقام هو الاخر في مبنى البلاط الملكي، الذي دعى بالقصر الجمهوري، والواقع بالقرب منه. واثناء " تنصيب " صدام لنفسه " رئيسا ً " للجمهورية، استولى على المبنيين معا ً، دون ان يسمح " لنائبه " عزت الدوري (المطلوب من قبل الشعب العراقي، والفار من وجه العدالة حاليا ً)، ان يستخدم هذا المبنى، المخصص " لنائب " رئيس مجلس قيادة الثورة!.
وعندما اجرى النظام الديكتاتوري مهازل الانتخابات، (التى زعم منظموها بضمنهم عزت الدوري، بتبجح مثير حافل بالكذب والتزييف والوقاحة، بان المشاركة الشعبية فيها وصلت الى نسبة 100% في احد الدورات الانتخابية)؛ " تمخضت " تلك الانتخابات عن تأسيس " مجلس وطني "؛ لكن هذا المجلس لم يسمح له النظام البعثي الصدامي استخدام المبنى القديم " كمقر " الى المجلس " المنتخب ". وبدلا عن ذلك فقد جرى " حشر " اعضاءه في مبنى آخر، بالقرب من المحطة العالمية، كان قد شيّد في منتصف السبعينات، وصمم اصلا ليكون مقرا لفرع تنظيمات الحزب العنصري، بالكرخ.
اما مبنى " قصر المؤتمرات " الذي عقدت فيها الجمعية الوطنية الحالية جلساتها الاولى، فقد صممه المعمار الفنلندي " هيكي سيرين " Heikki Siren، بالاشتراك مع زوجته “ كايا “، بعد ان فاز تصميمهما بالمسابقة المعمارية الدولية التى نظمت عام 1978. واستغرق تنفيذ المبنى اياه، مدة اربع سنوات (1978-1982).

ويرى الكثيرون، الان، في قرار عودة اشغال مبنى " مجلس الامة " واداءه لوظيفته الاساسية، يرون فيه قرارا صائبا ً وحصيفا ً؛ متطلعين، في الوقت ذاته، بان تتكرس " صورة " مبنى المجلس في مخيلة العراقيين كـ " أميج Image " ينوب استذكاره عن حضور دائم لمؤسسة تشريعية منتخبة، يسهم نشاطها وعملها في دمقرطة الحياة السياسية بالبلاد، التي عانت الامرين من حكم النظام الديكتاتوري البائد؛ وان تكون هذه العودة ايضا ً، حافزا ً لقراءة جديدة، ليس فقط لصفحات معمارية منسية، وانما اعادة قراءة تاريخ شعب باكمله، سعت الديكتاتورية ونظامها الاستبدادي الى تجاهله واهماله، والتنكيل به، طيلة حكمها الجائر والظالم والتعسفي!

مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون