(1/2):
لم يكن في مهرجان تطوان السينمائي 12(في الفترة من 25 مارس الي 1 أبريل) فنا سينمائيا جيدا فقط . كان فيه ايضا حلقات دراسية لمناقشة السينما في المدرسة، والاستفادة من الخبرات العربية والاجنبية في هذا الشأن، ولقاءات انسانية وعاطفية، من كافة انحاء المتوسط، بالاضافة الي شحنة كبيرة من الموسيقي الاندلسية، من عزف جوق تطوان في حفل افتتاح المهرجان، اعادت الينا صلتنا بذلك الموروث الاندلسي الاصيل، وجعلتنا اثناء تطوافنا في افلام المهرجان، وافلام الشوارع والساحات في المدينة، ونحن مسكونين بغبطة اللقاء والنغم،نتخيلها تهب احيانا من البحر في الليل مع النسيم، وتتسلل الي احلامنا، فتجعلنا بفرح اللقاء مع تلك " الحمامة البيضاء " مدينة تطوان العريقة، نتصالح مع انفسنا والعالم.كما كان في تطوان عودة استرجاعية، الي ذكريات ايام السينما الجميلة في السبعينيات، التي عاشها ابناء جيلنا، من خلال تكريم المخرج المصري الكبيرمحمد خان، صاحب افلام " الحريف " و" أحلام هند وكاميليا " و" طائر علي الطريق " و" زوجة رجل مهم "، بعد أن اختفت هذه السينما كما نعرف تحت اطنان من التلوث والتدهور والفساد، الذي مس حياتنا من كل ناحية، في التعليم وفي الصحة، وفي الاخلاق والسينما، وكل شييء تقريبا، و كان ان تلاشت ذكريات تلك الايام، ونضب حسنها وسحرها. وكم كان رائعا ان يعيد الينا مهرجان تطوان، " الحمامة البيضاء "، يعيد الينا صلتنا بتلك السينما الجميلة، ويجدد فينا الامل في عودة قريبة مأمولة اليها، من خلال الافلام العربية الجديدة التي تألقت في المهرجان، واعجبتنا كثيرا، ودخلت قلوبنا من أوسع باب، بسحر السينما والفن، مثل فيلم " باب لبحر " للمغربي داود اولاد سياد، و" الذاكرة المعتقلة " للمغربي جيلالي فرحاتي و" أحلي الاوقات " للمصرية هالة خليل، و" بحب السيما " للمخرج المصري اسامة فوزي، وقد تأكد لنا بداية، وقبل ان نعرج علي هذه الافلام، عدة اشياء في تطوان..
فن كبير بتفاصيل صغيرة
اولا: ان مهرجان تطوان السينمائي الذي يعقد هنا مرة كل سنتين، والذي احتفل في هذه الدورة12 بمرور 20 عاما علي تأسيسه، وانتقل من عالم الهواية الي الاحتراف، هو مهرجان أساسي و " ضروري " في مناخات الترويج الاعلامي الرسمي للصور الاستهلاكية، والمسلسلات الرديئة، والبرامج السريعة التافهة، وافلام المنوعات والفيديو كليبات، من اجل الاصرار علي اكتشاف وتشجيع، ودعم السينما العربية الحقيقية، التي تطور من هذا الفن، بابتكارات الخيال المدهشة، وتقدم صورا تشبهنا، ومطرزة بهمومنا ومشاكلنا واحلامنا، ضد ذلك الوباء، الممثل بالشاشة السحرية الصغيرة " التلفزيون الرسمي "، الذي يحافظ من خلالها علي بقاء واستمرار الاوضاع.بل اننا نعتبر مهرجان تطوان السينمائي، قياسا الي، اومقارنة بالمهرجانات المخصصة لبلدان حوض البحر الابيض المتوسط، ومن واقع متابعاتنا لاعمالها في الاسكندرية ومونبلييه وباستيا منذ زمن، نعتبره أهم مهرجان سينمائي متوسطي علي الاطلاق، حيث لم تتغير ادارته كل سنة كما في مهرجان الاسكندرية، ولم يعتمد علي التمويل الحكومي، وتبني وجهة النظر الرسمية السينمائية كما في باستيا، أوالاكتفاء عند اختيار الافلام بجنسيتها، كما يحدث احيانا في مهرجان مونبلييه، الذي يشكل وهنا تكمن خطورته، بوابة عبور لتمريرالافلام الاسرائيلية الي فرنسا..
اذ اعتمد مهرجان تطوان ومنذ تأسيسه علي مجهودات جمعية اهلية فقيرة، هي جمعية " اصدقاء السينما في تطوان "، ظلت تحارب وتجاهد وتكافح، وتخوض المعارك تلو المعارك، لفترة عشرين عاما، من اجل تأسيس ثقافية سينمائية حقيقية علي أرضية " الحمامة البيضاء " تطوان، ودعم " مشروع " السينما العربية الواقعية البديلة المستقلة، خارج التيار التجاري الرسمي وافلامه التقليدية، مشروع صنع صور تشبهنا، وافلام عكس التيار، تقدم وتعبر عن مشاكل ومتناقضات مجتمعاتنا العربية تحت الشمس، ولذلك كان في تطوان السينمائي الثاني عشر استكشافا لما جاءت به هذه الافلام عكس التيار، وموضوعاتها المهمة : القمع الفكري والحبس السياسي في " الذاكرة المعتقلة "، والخروج من عتمة أوطان تلفظنا، الي ضوء الحياة والحرية والعيش الكريم، حتي لو كان في آخر الدنيا، علي الطرف الآخر من الحياة، ورحلة عبور البحر التي قد تنتهي بمأساة الموت، كما في فيلم " باب لبحر "، وموضوع الانعتاق من اسر الجاذبية الارضية، والتحليق في حرية مثل النسور، كما في فيلم " باحب السيما " العذب، او البحث عن حبيب وصدر حنون واب، والانتصار لقيم الصداقة، في قلب المرارة والحزن والمعاناة واليأس، وتجاوزهم جميعا، فقط عندما نتصالح مع انفسنا والعالم من حولنا في اوطاننا، كما في فيلم " أحلي الاوقات " للمصرية هالة خليل الذي يجعلنا نقبل علي حب الحياة. ولذلك كان تطوان السينمائي 12 استشرافا لما سوف تكون عليه سينما المستقبل في بلادنا، في صنع " صورة " تشبهنا من خلال تلك الافلام التي ذكرناها، والتي لم تخلو بالطبع من بعض عيوب في السيناريو، ومشكلات السينما التجارية التقليدية السائدة، مثل الترهل في النسيج الدرامي للفيلم، والثرثرة والإطالة في شرح وتفسير أحداثه، كما في " بحب السيما" و"احلي الاوقات " لكنها يقينا، من خلال " شموليتها " الفنية، يقينا نجحت في امتحان السينما..او" صورة " تخيفنا وترعبنا، نرفضها وننبذها، من خلال بعض نماذج الأفلام الرديئة التي عرضها المهرجان، مثل فيلم " الطفل النائم " او الراقد الفيلم الاول للمغربية ياسمين قصاري البطيء الممل، الذي يقدم صورة لهيمنة الفكر الديني السلفي علي عقول اهل الريف في المغرب بالخرافات والخزعبلات، ويعرض لطقوس حياتهم وتخلفهم، وحال نسائه وحدتهم وشقائهم بعد رحيل الرجال الي اسبانيا للبحث عن أي عمل، ولايقدم الفيلم جديدا، علي الرغم من انه يدعي طرح " رؤية " امرأة لمأساة الهجرة، الا في صنع صورة مشابهة لتلك الافلام الكولونيالية الغرائبية الاستعمارية التي كرست عبر صورها لفولكلورنا وتخلفنا، لانها الصورة التي ترضي الغرب فقط عنا، وتذكر دوما بان حال المغرب، كان افضل تحت الاستعمار الفرنسي والاسباني والبرتغالي، وخرب حاله بعد الاستقلال." الطفل النائم " الذي حصل علي دعم مالي من قبل مؤسسات فرنسية وفرانكوفونية، وحصد العديد من الجوائز في مهرجاناتها، صنع لجمهور غربي، وهويعكس تلك الصورة، صورة تخلفنا وبؤسنا، وغربتنا داخل مجتمعاتنا الاصلية، الصورة الاكزوتيكية الغرائبية، التي تجعل اوطاننا، كما يذكر المفكر ادوار سعيد في دراسته عن الاستشراق، مباحة للنهب والغزو، وهي الصورة التي يصفق لها الغربيون في قاعاتهم، قبل ان يشدوا الرحال الي المغرب، ليجعلونه بمشروعاتهم الجديدة، مثل مهرجان مراكش، اكثر وعيا وثقافة وتحضرا، ويخلصونه من عوالم الغيبوبة والخرافة التي يعيش فيها. وقد استغربت حين عرض الفيلم – مصحوبا باللعنات- في حفل افتتاح المهرجان، وتعجبت كيف ان تطوان السينمائي العريق، الذي يعرض لفورة وصحوة الابداع السينمائي العربي في المغرب في اعمال جيلالي فرحاتي، و داود اولاد سيد، ونبيل عيوش، وفوزي بن سعيدي، وعبد القادر لقطع -الذي تم تكريمه في المهرجان- لم يجد الا هذا الفيلم الكولونيالي الممل الحقير لعرضه في الحفل، بعد ان اتحفنا المنتج البلجيكي للفيلم قبل العرض، اتحفنا بخطبة عن موهبة صاحبته، واعتمادها في صنع فيلمها علي عدد كبير من الممثلين من غير المحترفين، مع وجود ممثلة محترفة فقط هي رشيدة براكني، كانت للأسف أسوأ الجميع تمثيلا، وكانت النتيجة ان الجمهور المغربي الذي مل وقرف من مشاهدة تلك " التحفة " السينمائية الفرانكوفونية، التي تروج لتخلفنا، غادر قاعة " اسبانيول " عند عرضه، معبرا عن سخطه وغضبه ونقمته علي الفيلم، وصاحبته، وكانت ياسمين قصاري،لحسن حظها، تخلفت عن الحضور في حفل افتتاح المهرجان، وحسنا فعلت.
كما عرض المهرجان، استشرافا ايضا لسينما المستقبل و" الصورة " البشعة التي يمكن ان تطرحها، عرض فيلما رديئا بعنوان " حالة حب " للمخرج المصري سعد هنداوي، جعلنا نخرج ونحن نصرخ من منتصفه، ونشاهده بقية الفيلم من الوضع وقوفا داخل الصالة، فقد كان " حالة حب " ليس مجرد حالة " غم " فقط، بل قل "حالات " من المرارة والاسي والاحباط والحزن، لخضوع واستسلام مخرجه لشروط الانتاج السينمائي المصري في السوق، التي تنزع من كل فيلم اية محاولة طموحة في تغيير السائد، والارتفاع بمستوي وجماليات الفيلم المصري، واهمية ان يقول أي شييء عن حياتنا، فكان ان سقط المخرج الشاب الواعد سعد هندواي في الامتحان، وطلع علينا بهذا الفيلم الرديء، الذي صنعه تحت وصاية المنتجين، علي امل ان يدلف الي داخل حلقة السوق الضيقة، ويغير السينما المصرية – كما ذكر لي - من الداخل، في فيلمه القادم ان شاء الله، ونحن اذن في انتظار ذلك الفيلم، ربما بعد خمس او عشر سنوات، ويكون هنداوي تجاوز الخمسين، واقنع اباطرة وغبلان السوق في مصربموهبته، واستطاع فرض شروطه الخاصة، وصنع فيلم فني "معقول" غير هذه التحفة "الاستعراضية" السوقية الرديئة، التي ازعجتنا، وسببت لنا باغانيها، مثل خبط الحلل، وتفاهاتها ورقصها الصداع..
السينما صراع مع الوحوش
صنع هندواي، تقنيا، فيلما كرتونيا جميلا، لكنه لايقول سينمائيا أي شييء بالمرة، بل يعلق فقط يافطة الهجرة والغربة، كمبرر لصنع الفيلم، وينحط بموهبة مخرجه، الذي كنا راهنا منذ زمن، ومن خلال مشاهدة افلامه الروائية القصيرة، ومن ضمنها " يوم أحد عادي "، راهنا علي موهبته، واعتبرناه مخرجا واعدا، وانتظرنا فيلمه الروائي الطويل الاول، فاذا به يأتي الي تطوان ملفوفا مثل " البضاعة " في ورق سوليفان، وهي " بضاعة " جميلة قد تعجب البعض، وقد تنجح في التواصل مع الشباب، كما يقول البعض مدافعا عن الفيلم، لكنها تظل مجرد بضاعة استهلاكية، ترضي فقط بعض اذواق الناس والمنتجين لها. بضاعة تخلو من حس المخاطرة، وترفض النزال والمجابهة، و لاتطرح ذوقا اونظرة خاصة. بضاعة لاعلاقة لها بالسينما، والفن الجميل الذي نعرفه، بل بشطائر الاكل السريع، والاستهلاك السريع، علي الطريقة الامريكية. انها تبرق في الخارج مثل لوحة كيتش، وتبهرك بمتبلات فنيةهندية ومكسيكية وامريكية، وتلعب لك حواجبها، ثم عندما تهزها لايسقط منها أي شييء البتة..
و ثانيا : كشف المهرجان من خلال تلك الافلام التي اعجبتنا مثل " طرفاية " أو " باب لبحر"، و " بحب السيما " و" الذاكرة المعتقلة " ان فن السينما الكبير، تصنعه التفاصيل الصغيرة، مثل آثار سير بطلة الفيلم " مريم " علي الرمال في " باب لبحر "، وان التخمة الاستعراضية التي يمكن ان يقدمها الفيلم، ومهما كان جمال صورها وزهوها علي الشاشة، كما في فيلم " حالة حب " مثلا، تقتل روح الفن الاصيلة، وتحيل السينما من سلوك حضاري الي عدم، كما تهمش ايضا من دور السينما، في ان تكون اداة تفكير في مشاكل عصرنا، ومتناقضات مجتمعاتنا الانسانية، ضد صورة هذا الجلف الوحش داخل اعماقنا. كشف تطوان ان وظيفة السينما الصراع مع الوحوش، وحش الارهاب الديني والفكر السلفي، وحش السلطة العسكرية، وحش التجار الحقراء الذين خربوا السينما المصرية، مع بعض الموظفين في وزارات الثقافة، الذين استغلوا مناصبهم، لعرقلة تطورها، وحرموها من اكسجين الحياة والحرية، حتي صارت مسخا في بلادنا، ولم نعد نتعرف في جل اعمالها علي صورتنا، وغربتنا عن واقعنا بافلامها العقيمة التافهة..
في تطوان : خلف كل حجر حكاية وشجرة برتقال
غير ان المدينة الاندلسية العريقة تطوان، بتاريخها وحكايات أهلها، وخلف كل حجر في تطوان حكاية، تصلح موضوعا لفيلم سينمائي، وشجرة برتقال، استولت ثالثا علي كل شييء، حتي غطت علي وقائع واحتفالات، وندوات ومحاضرات المهرجان السينمائي المتوسطي الكبير، ومن ضمنها محاضرة للناقد المصري أمير العمري المقيم في لندن، عن واقع النقد السينمائي العربي المعاصر، كانت امتدادا لمحاضرة القاها في المهرجان منذ عشر سنوات خلت، وحضرتها الفنانة الممثلة المصرية "بطلة الممنوعات" والمتألقة دوما ليلي علوي، وسنعود الي تلك المحاضرة المهمة لاحقا في حوار طويل اجريناه ل" ايلاف " مع صاحبها، الذي تحدي ان تستطيع أي دولة عربية، تزعم انها تهتم بالسينما، ان تكشف له عن اي مشروع او حتي أي تخطيط علي ورق، لبناء " سينماتيك" او دار للافلام علي ارضها مستقبلا، للحفاظ علي تراثنا السينمائي، وكان من ضمن الحكايات التي استمعت اليها في تطوان، ان الناس يجزمون بانهم شاهدوا رجلا يطير من دون جناحين، يطير بدراجة الي الاراضي المقدسة، كما عرض في المهرجان فيلم مصري إنساني ورقيق وحميم، بعنوان " أحلي الاوقات " اول فيلم للمخرجة هالة خليل وسيناريو وسام سليمان، معبرا باسمه ذاك ومن دون قصد، عن اجواء المهرجان، ومتعة المدة التي قضيناها هناك، وهويصالح في رأينا السينما المصرية مع جمهورها، ويعيد اليهم الامل، في ان تنهض مصر من كبوتها السينمائية، كي تصنع لنا افلاما علي شاكلتنا، افلاما تشبهنا، حتي لوكنا اصبنا في مصر، بسبب امراض التلوث والفقر والفساد، ومسلسل التخريب العام، اصبنا بالصرع او الجرب. افلام لاتخجل ان تمشي مع الناس في الشارع، وتركب معهم وسط الزحام في الاتوبيس، وتستمتع باكلة كشري او كوب عصير قصب في الهواء الطلق، كما في ذلك الفيلم، وهي تعكس هموم الناس في مجتمعاتنا، وتحارب كل الممنوعات والظلم، وبها تستعيد السينما المصرية تألقها القديم الذي خبا..وحريتها.
يتبع..
التعليقات