(1) : عشتار

انهمر الربيع على أوتاوا دفعةً واحدةً مع إطلالة أبريل، فتفتحت حشود من زهور التولِب في جميع المنازل. ألوانها الساطعة، وأشكالها الشبيهة بقلوب مفتوحة تبعث في النفس بهجةً غريبةً بعد إدمانها على رتابة اللون الأبيض طوال فصل الشتاء المثلج، الذي يمتد من نوفمبر إلى أواخر مارس محولاً الطبيعة الى سجادة بيضاء كبيرة ذات إيقاع واحد. مكثتَ ساعةً أو أكثر في تقليم أضافر العشب التي استطالت في الحديقة الخلفية، وحين أطفأتَ الماكنة، وسكن هديرها المزعج كان طنينها لا يزال في أذني. استلقيتَ على ظهري لأرتاح قليلاً فوقعت عيناي على غراب ضخم في أعلى الشجرة، فتذكرت على الفور قصيدة أدجار ألن بو الشهيرة، ورحت أردد ذلك المقطع الذي يقول قيه:
أيهاالطائر، أوأيها الشيطان
ارجع من حيث جئت، إلى العاصفة
أو إلى شواطئ الظلام..
لا تترك منك في هذا المكان أثراً،
ولا ريشة سوداء تذكر بإفكك المفترى ..
عد ودعني لوحدتي، اترك التمثال فوق باب حجرتي
انتزع منقارك الذي غرسته في قلبي، وابتعد عني..

كان الغراب يركز بصره على بيتنا ويحرك منقاره في حركة دائرية، فانتابني شعور بالقلق رغم عدم إيماني ببشارة الشؤم التي يجلبها هذا الطائر النحس. التقطت حجراً ورميته به فلم أصبه، ولكنه طار بعيداً وهو ينعق بصوت مبحوح.
عدت إلى المطبخ، فوجدت سومر، على غير عادته في مثل هذا الوقت من النهار، قد ترك مكتبه الذي يقضي فيه بضع ساعات مع الانترنيت، وجلس في الصالة. راقبته من خلل النافذة المفتوحة فإذا به يحدق بذهول إلى التلفزيون. قلت لنفسي: "لابد أن ثمة تطوراً مهماً في أخبار الحرب... ولكنه لماذا لم ينادني؟". دفعني الفضول الى الوقوف أمام الباب الذي يفضي إلى الصالة فسمعت مراسل الفضائية يتحدث بصوت ملعلع " ... وأخيراً دخلت الدبابات والناقلات العسكرية الأميركية ساحة الفردوس في بغداد من دون مقاومة تذكر، ووجه الجنود الأميركيون رسائل باللغة العربية عبر مكبرات الصوت تنصح الناس بعدم إطلاق النار عليهم. ومن جهة أخرى أعلن الجيش الأميركي أن قوات المارينز انتهت من القتال في المناطق الواقعة شرقي بغداد, لكنه أشار إلى أن القناصة العراقيين مازالوا يتسببون في إحداث بعض المتاعب. وقد تقدمت قوات التحالف داخل بغداد من كافة الاتجاهات اليوم التاسع من أبريل... " . لم أتمالك نفسي فصحت مخاطبة سومر:
- هل يعقل هذا يا سومر؟ ماذا حدث؟ أين ادعاءاتهم بجعلها ستالينغراد ثانية؟ لماذا فروا كالجرذان؟
- ستالينغراد ثانية؟ كلام فارغ ...
اكتفى سومر بهذا التعليق وواصل تحديقه الى التلفزيون، بذهول، محنياً ظهره قليلاً مثل طفل هاله منظر حيوان أسطوري يتهاوى تحت ضربات متلاحقة. كانت الكاميرا تقترب من التمثال الضخم تارةً، وتبتعد عنه تارةً أخرى لتكشف عن تدفق العشرات من أبناء المدينة، والمراسلين الصحفيين والجنود الأميركيين المدججين بالسلاح إلى محيط الساحة ليشاهدوا الحدث التاريخي. وكانت عينا سومر اللتين اعتدت على هدوئهما، وهما تغوران في محجريهما المائلين إلى السواد، قد برزتا إلى الأمام كعيني باز وقعتا من علٍ على فريسة. لم يطلب مني الحضور إلى الصالة حين أعلن مذيع الفضائية بأنهم سينتقلون إلى مراسلهم في ساحة الفردوس ببغداد لنقل وقائع الحدث المفاجئ، كما كان يفعل دائماً حينما يعرض التلفزيون برنامجاً أو تقريراً يهمني. لقد أنساه انشداده وتركيزه عليه كل شيء، حتى كأس الشاي على الطاولة وموعد ذهابه إلى طبيب العائلة لإجراء الفحص السنوي، فانسللت على رؤوس أصابعي، وتوجهت إلى غرفة النوم، وتناولت الهاتف لتأجيل الموعد. بعد لحظات سمعته يخاطبني بصوت مرتعش:

- أين ذهبت؟ اتصلي بالطبيب واطلبي لي منه موعداً آخر وتعالي إلى هنا... إنه يوم أشبه بيوم القيامة.
فأجبته وأنا أغادر الغرفة:
- لقد اتصلت من دون أن تطلب مني ذلك... هل سحلوه؟
- تقصدين هل أسقطوه؟
- لا يكفى.. عليهم أن يسحلوه في كل شوارع بغداد وأزقتها... إبن العاهرة.
- من؟ التمثال أم صاحبه؟
- لا فرق.. اليوم التمثال وغداً صاحبه..
- لن يحدث ذلك.. زمن السحل قد ولى، وسيكون مصيره إما القتل أو الإعدام.
- هذا لن يشفي غليل أحد.
- فرحة الناس بزواله ستتغلب على مشاعر الانتقام.. دعينا نتابع الحدث.. اليوم سأشتري لك زجاجة شمبانيا ونشرب نخب سقوطه.
بعد مرور ساعة على سقوط التمثال رأيت سومر يخرج بعض الأوراق، ويشرع في الكتابة، لقد أثارته تفاصيل العملية، وفتحت شهيته للكتابة عنها: اختيار هذا التمثال بالذات لإسقاطه من بين عشرات التماثيل للطاغية، تسلق الشباب الغاضبين الى قمة قاعدة التمثال وضربه بالفؤوس والمعاول، ربطه من رقبته بسلك طويل وسحبه بعجلة رافعة عسكرية وتهشمه إلى أجزاء متناثرة أسفل القاعدة، وهجوم الناس عليها لركلها بالأحذية كنوع من الانتقام الرمزي.
قال لي، وهو يتوقف عن الكتابة ليدخن سيجارةً، إنه يريد أن يحلل عملية إسقاط التمثال تحليلاً سيميائياً لأنه وجد فيها مجموعة من العلامات الرمزية التي توحي له بمدلولات معينة، وما أن انتهى من الكتابة حتى عرضها علي لقراءتها، فذهبت إلى المطبخ لإعداد فنجان قهوة يعيد إلى رأسي توازنه الذي أفقده هدير الماكنة وسقوط الطاغية المدوي. وبعد أن احتسيت القهوة شرعت في القراءة، وفي داخلي تساؤل يكاد يقفز الى طرف لساني: ما جدوى الكتابة عن حدث صاعق، مثير، مزلزل، شاهده العالم كله حياً، مباشراً بكل تفاصيله؟ ولكني لم أشأ أن أسأله هذا السؤال لكي لا أثبط من عزيمته. وبعد بضعة أيام نشر المقال في زاويته الثقافية الأسبوعبة بالجريدة تحت عنوان (قراءة سيميائية في سقوط تمثال الطاغية)، وفاتني أن أنبهه إلى ضرورة استبدال كلمة (سقوط) بـ (إسقاط) لأنه لم يسقط من تلقاء نفسه، بل أسقطوه بالقوة!
في الليلة التي أعقبت دخول المارينز الى بغداد انهالت علينا المكالمات التلفونية. أصدقاء سومر وصديقاتي في غرب كندا وشرقها وجنوبها..فانكوفر.. أدمنتون..هاليفاكس..مونتريال..سانت جوزيف..تورونتو..هاملتون.. وفي أمريكا واستراليا والسويد وهولندا وألمانيا... وحيث توجد بلاد في قارات الأرض يقيم فيها عراقيون لاجؤون ومهاجرون، إضافة إلى أصدقائنا في أوتاوا. كلهم أمطرونا بنفس الأسئلة وكأننا من جنرالات الحرب: ماذا حدث؟ هل احتل المارينز بغداد كلها أم جزءاً منها؟ هل قبضوا على الطاغية؟ أين المقاومة التي توعدوا بها؟ أين أكاذيب صاحب العلوج وعنترياته؟ أين الحرس الجمهوري وجيش القدس وفدائيي الطاغية؟ هل نحن في حلم أم يقظة؟ هل ستعودون الى الوطن قريباً؟ وهل... وهل... وهل...؟ وكانت الوحيدة التي تكلمت معنا في موضوع مختلف تماماً هي صديقتنا الكندية كرستينا، الصحفية في جريدة (أوتاوا ستزن). كانت تتحدث بحزن عميق وتكاد تختنق بعبراتها وهي تنقل إلينا خبر مقتل أخيها جون في بغداد الذي غامر بالذهاب إلى هناك مع فريق من المتطوعين الكنديين في الدروع البشرية قبل بدء الحرب ببضعة أيام من دون أن يخبر أهله. قالت كرستينا إن قذيفة طائشة أصابت غرفته في الفندق الذي يقيم فيه فجعلته أشلاءً، وهي تحمل مسؤولية موته الى شخص لبناني الأصل ينتمي إلى حزب ديني، فهو الذي أقنعه بأن ذهابه الى العراق سيحول دون ارتكاب أمريكا وبريطانيا جريمة ضد الإنسانية، وأنه سيكون رسول سلام ينقذ أرواح آلاف الأطفال والنساء والشيوخ . وحين سألتها كيف عرفت ذلك قالت إن صديق جون الذي سافر معه ونجا من الموت هو الذي اتصل بها من بغداد وأخبرها بكل شيء، وطلب منها أن ترفع شكوى ضد هذا الشخص الذي رافقهم إلى بغداد، ثم اختفى فجأةً بعد أن قبض عمولته من أحد ضباط المخابرات في بغداد. وأضافت كرستينا، وهي تجهش بالبكاء: - لقد أحب بلدكم من كثرة حبه لكم، فانطلت عليه اللعبة... يا إلهي هل كان ضرورياً أن نتعرف عليكم؟
فقلت لها بلطف، مقدرةً فجيعتها:
- لو لم يكن ضرورياً لما اتصلت بنا الآن يا عزيزتي كرستينا لتنقلي إلينا هذا الخبر المؤلم.. وأنت تعلمين جيداً كم نحبكم أنا وسومر..

- إعذريني عشتار على تعبيري السيء..ولكنك تعرفين مقدار الحب الذي أكنه لأخي. نحن أشبه بأسرة شرقية في علاقة بعضنا ببعض .. تصوري أن عمره اثنان وعشرون عاماً ولم يكن يدخن أمام والدي ..يا إلهي
كيف سأخبرهما وهما في رحلة استجمام إلى دبلن؟ المسكينة أمي ستصاب بصدمة شديدة أخشى عليها من نتائجها.. يا إلهي ما كان عليه أن يصدق ذلك العميل اللبناني الحقير ويسافر إلى الجحيم من دون أن يخبرني .. كان يعد نفسه ليكون عالماً أثرياً بعد تخرجه من الجامعة، ولذا كان يعشق مغامرات السفر والاكتشاف.
- ربما اعتقد أنه بسفرته هذه سيطلع على آثارنا القديمة ..يا له من وهم.
أحال خبر موت جون سهرتنا إلى ما يشبه المأتم، وقد تذكرت وأنا أسمعه ذلك الغراب اللعين، وظل سومر يشرب كأساً تلو أخرى من الويسكي بعد أن أتينا على زجاجة الشمبانيا، وهو يفكر كيف سينقلون جنازته إلى أوتاوا ولا يوجد طيران من بغداد إلى أي مكان في العالم، وهل سيتولى أصدقاؤه، أو الصليب الأحمر نقلها براً إلى الأردن،
ومن ثم إلى مطار عمان؟ إنها مهمة شاقة حقاً. وقبل أن يأوي إلى النوم في الثالثة فجراً قال متثائباً وقد بدت على عينيه علامات التعب والاحمرار:
- يا له من يوم حافل بالأحداث!
فأجبته:

أتساءل: عن سر طائر الشؤم هذا ؟
الطائر العجوز المنكود القاسي، ماذا يعني
وهو ينعب فوق رأسي: لا عود..؟

كان علي أن أستيقظ في الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي لإيصال الأطفال إلى المدرسة، ولكن نومي
المضطرب والمتقطع بسبب الأحلام المزعجة التي سقطت على رأسي منعني من الاستيقاظ قبل العاشرة، ولم أستطع أن أتذكر إلاّ حلماً واحداً، ربما كان الأخير في ترتيبه. لقد رأيت السماء ذات يوم، وأنا في سن صغيرة، مجللة بغيوم سود قاتمة، تتجه بسرعة فائقة صوب الشرق، في حين تتجه ظلالها على الأرض عكس اتجاهها إلى الغرب، فتعجبت من الأمر وناديت أبي لرؤيتها، وما أن خرج من غرفته ووقع بصره عليها حتى أصيب بالعمى فجأةً، فطلب مني أن أقوده إلى سطح الدار ودموعه تنهمر على شعري كأنها حبيبات مطر تشريني ناعم، ولكنها لزجة كالصمغ. وقفنا على السطح، وظل أبي ممسكاً بكتفي وأنا أتطلع إلى الأفق، وبعد دقائق فوجئت بعربة ضخمة جداً في السماء تسحبها عشرات الجياد المجنحة، وعلى ظهرها رجل كهل يحمل سوطاً يمتد إلى عشرات الأمتار، وهو يسوط كتل الغيوم التي تفر أمامه مذعورةً مخلفةً وراءها فحيحاً يملأ الفضاء الشاسع أشبه بفحيح الأفاعي. وحين عادت الشمس إلى سطوعها اتضح أن تلك الغيوم لم تكن إلاّ خفافيش ضخمة تداخلت أجنحتها بعضها ببعض فبدت كأنها كتل من الغيم الأسود. ذلك ما عرفته من أبي الذي عاد إليه بصره مع اختفاء آخر خفاش من سماء المدينة.
لم أقصص حلمي على سومر في ذلك اليوم، رغم القلق الشديد الذي أصابني، خشية أن يقول لي، كعادته، " أحلامك السريالية لا تنتهي يا عشتار ... بالله عليك ألا تشبه لوحات سلفادور دالي؟ . ودفعني قلقي إلى محاولة الاتصال مراراً بالهاتف بمن تبقى من أهلي في البصرة لأطمئن عليهم، إلاّ أن شبكة الاتصال الدولي في العراق كانت مقطوعة بسسب القصف، فاضطررت إلى الاتصال بأمي المقيمة في الكويت لعل قربها إلى البصرة قد مكنها من الحصول على بعض الأخبار عنهم، ولكني وجدتها أكثر قلقاً مني، وزادتني هموماً ببكائها، وطلبت مني أن أحث سومر لإيجاد وسيلة ما للاستفسار عن أخي وأطفاله، فقلت لها إن سومر قلق أيضاً على أهله في كركوك، فقد مضى أسبوعان على آخر اتصال له بهم ... فأخذت تصب لعناتها على الطاغية، وتشتمه حتى سابع أجداده، وتختمها بلازمتها التقليدية المسجوعة: " ابن الكلب .. ألم يكن من الأفضل لو أنه ترك البلاد ووفر الدمار على العباد؟ ".
حملت إلينا القنوات الفضائية في مساء ذلك اليوم أنباءً مختلفةً عن الأوضاع في البلد بعد إسقاط الطاغية:

ذهول في عواصم عربية وفرح في بغداد وتدمير التماثيل ونهب المؤسسات الرسمية، دخول قوات
أمريكية ومسلحون أكراد مدينة كركوك من دون مقاومة، ترجيح تهريب الرئيس المخلوع ومساعديه في غواصة للأسطول الروسي في البحر المتوسط.اغتيال عبد المجيد الخوئي في النجف على يد جماعة محرضة من الخارج.غموض يحيط تكريت واقتراب الدخول إلى الموصل. واشنطن علقت إعلان وقف الحرب بانتظار القبض على الرئيس المخلوع. أنقرة تلوح بالتحرك إذا هيمن الأكراد على كركوك. قصة مثيرة : طاقم الطائرة التي أطلقت 4 قنابل على مبنى في حي المنصور ببغداد يقول: أبلغنا بأننا سنهاجم شخصية كبيرة وأطلقنا ضربتنا من ارتفاع 30 ألف قدم. عراقيون ينكتون: المشكلة ليست في سقوط الطاغية، بل في لملمة صوره وتماثيله ونصبه التذكارية!
أخبار متضاربة بعضها صحيح وبعضها الآخر مفبرك، أو وليد الإشاعات التي تجد لها أجواءً خصبةً للانتشار في مثل هذه الظروف. ولكن أكثر ما أثار خوفنا، أنا وسومر، هو خبر اغتيال الخوئي الذي سيفتح باباً، يصعب إغلاقه، لتصفية الحسابات الشخصية وعمليات الانتقام الهمجية، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى مداواة جروحنا، وترميم النفوس والحياة التي هدمتها سنوات القهر والإذلال الفاشية. ولأن سومر كان يعرف الخوئي شخصياً، إذ سبق له أن التقاه في عمان وحاوره حول دعوته التي اشتهر بها للتقارب بين الطوائف الدينية والاجتماعية في البلد، ومعارضته لمبدأ ولاية الفقيه، فقد تألم كثيراً لاغتياله، ولذلك راح يبحث في الانترنيت عن تفاصيل الهجوم الذي أودى بحياته، فعثر في اليوم التالي على تقرير صحفي كتبه صديق له، كان يرافق الخوئي في زيارته إلى ضريح الإمام علي، وقد نجا من الموت بأعجوبة، حسب روايته، فاستنسخ سومر التقرير، الذي نشرته إحدى الصحف العربية الصادرة في لندن، ليستخدمه في كتابة رواية فكر في كتابتها عن الأيام العصيبة التي سيعيشها البلد، ثم أخذ يقرأه لي بصوت شابته نبرة حزن. وما أن انتهى من قراءته حتى أمطرني بهذه التساؤلات الغاضبة:
- هل أعجبك ذلك؟ أبهذه الروح الشريرة يريدون أن يبنوا بلداً ديمقراطياً؟ مالفرق إذن بينهم وبين الأجهزة القمعية السابقة؟ هل كان يجرؤ واحد من عناصرها على اغتيال انسان عادي في هذا المكان الذي يقدسونه؟
صمت قليلاً ثم أضاف:
- أنا رجل علماني، ورغم ذلك أشعر بالرهبة حين أقف في حضرة إمام أو ولي من أولياء الله.. أوأي قديس بغض النظر عن ديانته أو مذهبه.. فكيف تأتى لهؤلاء ارتكاب مثل هذه الجريمة البشعة؟ ألا تذكرك بمذبحة الجمعة الحزينة التي ارتكبها الإسرائيليون في باحة المسجد الأقصى قبل ثلاث سنوات؟
- فتش عن الأصابع التي تحركها خلف الحدود.. إنها بداية لمآسٍ مقبلة لا يعلم إلاّ الله مداها.
علقت على تساؤلات سومر، ورحت أفكر بكتابة قصيدة لمعت فكرتها في رأسي، فخرجت الى الحديقة، وشرعت في صياغة مقطعها الأول:

كأني أحلم:
أن بابلَ ترحل صوب عيلام َ
وأن الفراتَ يجري في طرقات مهاباد َ
ودجلة َغارق في سكينته ِ
ليس يعرف أين يمضي
هل إلى حانة ٍ في الكرخ ِ
أم إلى جامع ٍ في الرصافة ْ ؟

عرضت هذا المقطع على سومر، فأعجب به كثيراً، وحثني على إكمال القصيدة، فعدت ثانيةً إلى مكاني، وواصلت الكتابة:

كأني أحلمُ :
أن عيلام تفيض على بابلَ من عتمتها
و مهابادَ جدار حجري بين فراتين قتيلين
ودجلةَ َغارق في فجيعته
ليس يعرف أين يمضي
هل إلى مأتم ٍفي الكرخ ِ
أم إلى مقبرة ٍفي الرصافة ْ ؟


*****
كأني أحلم:
أن عيلامَ خرزة ٌ في جيد بابل َ
والفراتَ ينبع من رحم مهاباد َ ودجلة َمنفي في لاهايَ
فلا نهرٌ
ولا ضفةٌ
ولا قطرة ُ ماء ٍ
ولا الرصافة ُخلف ظهر الكرخ ِ
ولا الكرخ ُ خلف ظهر الرصافة ْ.

أحسست مع نهاية هذا المقطع أن القصيدة قد اكتملت، ولا تحتمل أن أضيف إليها شيئاً لأن الهاجس الذي
خطر لي، وأنا أصغي إلى سومر وهو يقرأ التقرير، هيمن على بنائها الدلالي. ولكن بقي أن أجد لها عنواناً، فأعدت قراءتها عدة مرات حتى قفز إلى بالي عنوان (كوابيس عراقية).

(2) : سومر

أثارت قصيدة عشتار في نفسي بعض المخاوف الغامضة، فكأنها بمجازاتها تكشف عما وراء العيان... يا لها من امرأة مرهفة الأحاسيس. كيف استولى عليها هذا الهاجس المدمر؟ ماذا لو صدقت كوابيسها وأصبح البلد مثل…؟ أليس البلد الذي لا يستطيع الإنسان أن يمارس فيه حريته إنما هو بلد كفر كما يقول المعتزلة؟ أيعقل بعد كل هذا الانتظار الطويل، الموجع، الدامي أن يصبح مصيرنا بين أيدي حفنة من المتزمتين المعادين للحياة، يتحكمون بنا، ويسوقوننا كالخراف مرةً ثانيةً إلى هوّة سحيقة؟ هل صبرنا كل هذه السنين العجاف، ونحن نحلم بالحرية، من أجل هذا؟ إنني أفضل ألف مرة أن أبقى طوال حياتي مغترباً على أن أعيش مثل بهيمة في تلك الهوّة المظلمة.
ولكن لا... إنها محض هواجس شعرية لا تعبر عن علاقة موضوعية بالأشياء، بل عن علاقة ذاتية، وهذه علاقة احتمال وتخييل، ولو تحققت نبوءة كل قصيدة لفني العالم منذ آلاف السنين. لأدع مخاوفي جانباً وأتطلع إلى يوم العودة، فالذين غامروا بشن الحرب لإسقاط الطاغية لن يسمحوا بتكرار تجربة جيراننا الشاذة. ألا تكفي خمسة عشر عاماً من الغربة؟ غادرت وأنا في الثلاثين من عمري، والآن أنا في منتصف العقد الرابع. ما أن انتهت الحرب الأولى وخلعت ثيابي العسكرية التي ظلت ملتصقة بجلدي ستة أعوام حتى حملت حقيبتي الصغيرة المهترئة ورحلت مثل طائر متعب خرج للتو من القفص. يومها فكرت أن " تلك الحرب اللعينة ستلد حروباً أخرى " لا محالة، فمن يدمن ثماني سنين على هدير المدافع ولعلعة الرصاص متخيلاً أنها صليل سيوف آت من أزمنة غابرة لن يهنأ بحياة السلم. قال لي شرطي غبي وهويختم جواز سفري في أحد المطارات العربية: " مرحباً بأحفاد سعد بن أبي وقاص.. والله لقد رفعتم رؤوسنا بين الأمم ... "، وحين غادرت ذلك البلد بعد الحرب الثانية، بعد أن رفض الجهاز الأمني فيها تجديد إقامتي إثر وشاية كاذبة من موظف حقير في سفارة بلدي، قال لي الشرطي ذاته وهو يرمي الجواز في وجهي: " ثلاث سنوات وأنت في ضيافة ثقيلة علينا.. إنقلع ولا تعد ثانية.. فبلادنا ليست ملجأً... لعنكم الله.. أولاد الـ... ". توجهت إلى قبرص ومنها إلى بيروت التي كنت أحلم بزيارتها منذ أيام الدراسة الثانوية، فقد كانت تعني لي فضاءً للحرية والجمال، وفيروز التي أعشق صوتها، والبحر الذي تتشمس على بلاجاته الفتيات المتحررات بأجسادهن الطرية، متناسياً الحرب الأهلية التي كانت تسرق وهجها وتحيلها شيئاً فشيئاً إلى فضاء من رماد. ذهبت إلى بيروت، وقد أخذت تستعيد عافيتها ببطء بعد ثلاث سنوات على اتفاق الطائف الذي وضع حداً لتلك الحرب المجنونة. دخلتها من بوابة البحر فشعرت كأنني أستعيد طريق أوديسيوس إلى إيثاكا، هارباً من الحيوانات الخرافية التي أتعبته، ولكن أوديسيوس كانت بانتظاره بنيلوب الصابرة، أما أنا فمن سيكون بانتظاري؟ كنت قد حصلت على عقد عمل بصفة محرر في احدى الصحف اليومية بتوصية من ناشر لبناني معروف سبق أن نشر لي كتابين في النقد، ولكن رئيس التحرير لم يكتف بعملي محرراً في القسم الثقافي، بل أوكل إلي مهمة تدقيق بعض الصفحات أيضاً مقابل مرتب شهري بخس. فاضطررت الى الاتصال بالناشر، وعرضت عليه أن أقوم بتدقيق بعض منشوراته في البيت، وهو في الحقيقة ليس بيتاً، بل شقة صغيرة ذات غرفة نوم واحدة كنت أسكن فيها مع شابين عراقيين أحدهما رسام كاريكاتير يعتاش من التخطيطات التي يعملها للسواح، والثاني متخصص في الفلسفة يعمل عتالاً في الميناء، فوافق الناشر على العرض، وصار يعطيني خمسة آلاف ليرة على الملزمة، فكنت أدقق في الليلة الواحدة ملزمتين أوثلاث. وقد أتاح لي هذا العمل أن أحصل على دخل إضافي، و قراءة بعض الكتب قبل صدورها. في الأشهر الأولى لوجودي في بيروت كنت أشعر بنوع من الحرية في التنقل والعمل لأن إقامتي المؤقتة كانت رسمية مثلي مثل أي سائح دخل البلاد بتأشيرة أصولية، ولكن المشكلة بدأت مع انتهاء مدة هذه الإقامة، وذهبت سدى كل محاولاتي من أجل الحصول على إقامة سنوية. وقد نصحني كثير من الأصدقاء أن أقدم طلباً إلى مكتب الأمم المتحدة للحصول على لجوء سياسي في احدى الدول المانحة لحق اللجوء، ولكني كنت أتجاهل بغباء نصائحهم اعتقاداً مني بأن مكاني الحقيقي، بوصفي كاتباً، هو العالم العربي، إضافة إلى قربي من الوطن الذي كنت أرى أن تحسس آلامه على مبعدة بضع مئات من الأميال أفضل من تحسسها وأنا بعيد عنه آلاف الأميال. ولولا تعرفي على إلهام لظلت مشكلة الإقامة تؤرقني طوال السنتين اللتين قضيتهما في بيروت، مثلما تؤرق عشرات الآلاف من العراقيين الهاربين من زنزانات الرعب والمقابر الجماعية إلى مدن الأخوة العرب وقراهم الفسيحة! كانت إلهام امرأةً من نوع نادر بين النساء، عمرها ستة وعشرين عاماً حين صادقتها، ولكنها كانت تبدو، لرقة أنوثتها، وصفاء بشرتها أقل من عمرها بأربع أو خمس سنوات. انفصلت عن زوجها بعد مرور شهرين على زواجهما. تقول إنها أخطأت في اختيارها بسبب تسرعها، إذ اكتشفت أن له ميولاً جنسية مثلية مع شاب يوناني أملط يعمل نادلاً في أحد الفنادق الراقية، وكان يسهر معه أكثر من مرة في الأسبوع ويدفع له بسخاء، ويتركها وحدها في الشقة. تعرفت عليها، أول مرة، حين جاءت إلى الجريدة حاملةً معها قصة قصيرة كتبتها عن تجربة زواجها الفاشل من تاجر الأقمشة، ملمحةً فيها، بغموض شديد، إلى ميوله المثلية. كنت يومها وحدي في القسم لانشغال المسؤول في اجتماع مع مدير التحرير، فرجتني أن أقرأها في الحال لأنها متلهفة إلى سماع رأيي فيها حتى لو كان قاسياً وحاداً كالسكين، فاستجبت لها على الفور، وفي داخلي هاتف يصرخ " أحمق من يرد طلباً كهذا لامرأة ساحرة مثلك "، واحتسينا في أثناء قراءة القصة فنجانين من القهوة، ثم جلسنا ساعة كاملة نتحدث عنها. وكانت خلاصة رأي فيها أنها قصة جريئة في موضوعها، ولكنها ضعيفة فنياًلأسباب أوضحتها لها، فاقتنعت بها، ودعوتها إلى إعادة كتابتها كي تصبح صالحة للنشر، فاعترفت لي أنها كتبتها في جلسة واحدة خلال الليلة السابقة، ولم تراجعها نهائياً. وحين نهضت إلهام للخروج صافحتني بحرارة، فشعرت بملمس يدها الناعمة كالحرير يبعث في نفسي رغبةً عارمةً إلى احتضانها وتقبيلها. وقبل أن تغلق الباب وراءها قالت لي بابتسامة هزت كياني: " عندما أنتهي من إعادة كتابتها سأتصل بك كي تقرأها لي في مكان خارج الجريدة "، فقلت لها وأنا أكاد أطير من الفرح: " تكرم عينك... أنا جاهز في أي وقت… ".
في ظهيرة اليوم الثاني لدخول المارينز إلى بغداد استيقظت بعد عشتار بساعتين وأخذت أتصفح بعض الصحف العربية المهاجرة لعلي أقع على خبر لم تورده القنوات الفضائية، فلفتت انتباهي واحدة من تلك الصحف، التي كانت تتهم باستمرار بوقوفها إلى جانب النظام السابق، لما اتسم به أسلوب تقديمها للحدث من تعارض تام مع فرحة أغلب العراقيين في الداخل والخارج بسقوط الطاغية، إضافة إلى التحريض على استخدام العنف ومهاجمة قوات التحالف، التي خلصتهم من الكابوس الطويل، باسم المقاومة، وتخوين المعارضين للنظام الذين دخلوا إلى البلد خلال الحرب، ونعتهم بنعوت مشينة، فثمة تقرير رئيسي يتوسط الصفحة الأولى بعنوان (الكآبة تخيم على الشارع العربي بسبب أخبار الحرب السيئة)، يذكر فيه مراسلو الصحيفة أن" المقاهي في القاهرة كانت يوم أمس أشبه بسرادق تقبل التعازي "، وأن " الناس في أحد مقاهي عمان غطوا عيونهم حين شاهدوا سقوط التمثال والعراقيون يرقصون فوقه"، وأن داعيةً إسلامياً شهيراً " أكد على تزامن بدء الحرب مع اليوم الذي دمر فيه هولاكو المغولي عاصمة الرشيد "! أما افتتاحية رئيس التحرير ففيها تحريض واضح لما يسميها بالمعارضة الداخلية ضد المعارضة القادمة من الخارج بتوكيده على " عدم وجود أي داع لاستيراد حكام معارضين من الخارج بعد انحسار سلطة حزب البعث بقيادة الرئيس العراقي... فعنصر الخوف قد زال، وبات بمقدور المعارضة الداخلية أن تفرض وجودها، وتؤكد أحقيتها في الحكم "! وحين انتهيت من قراءة الصفحة الأولى قلت لعشتار: " هل ثمة انحطاط إعلامي أكثر من هذا؟ شعب تعداده أكثر من عشرين مليون يصفق ويرقص طرباً لزوال حاكم فاشي داس على رقبته وأهان كرامته سنين طويلة، ويأتي إعلامي عربي زالت عنه هبات ذلك الحاكم ليعطيه درساً مسموماً في من له الحق في حكمه، ومن ليس له الحق. تصوري أنه نشر تقريراً صحفياً لعدد من مراسلي صحيفته يقولون فيه إن الكآبة خيمت على بعض العرب حزناً على سقوط تمثال الطاغية "، فقالت عشتار: " لم تحرقهم ناره التي اكتوينا بها نحن أهل البلد، فليذهب هؤلاء العربان هم وكآبتهم إلى الجحيم ". وأضاف اغتيال الخوئي في ذلك اليوم إلى نفسي انزعاجاً آخر فوق انزعاجي من تلك الصحيفة, وتذكرت قوله في أحد لقاءاته الصحفية " العراقيون شعب متمدن يحب السلام، وسوف يعرفون كيف يسدون الفجوات التي اصطنعها نظام الحكم بينهم "، ولم يدر بخلده أنه سيذهب ضحية غوغاء من أبناء جلدته لا يعرفون معنى السلام. ورحت أبحث عن تفاصيل جريمة اغتياله البشعة، وحين عثرت عليها خشيت أن تكون بالفعل بداية لمآسٍ مقبلة لا يعلم إلاّ الله مداها، كما قالت عشتار. وبقيت متكدراً طوال النهار، وحاولت أن أكتب كلمة رثاء بحقه فلم أستطع. وفي المساء اتصلت بدلشاد، صديق الطفولة في قلعة كركوك، الذي انتقل مع أهله إلى السليمانية في منتصف السبعينات، ثم تركها وجاء قبلي إلى كندا لاجئاً، وأكمل دراسته الموسيقية في جامعة كارلتون، وانضم إلى فرقة في أوتاوا تهتم بالموسيقى الشرقية إلى جانب اهتمامها بالموسيقى الغربية. اقترحت عليه أن نلتقي في مطعم (افروديت) اليوناني في شارع بانك ستريت، ولكنه فضل أن نذهب إلى ناد ليلي تعمل فيه احدى صديقاته، وقال لي إن فيه عارضات شابات ذوات أجساد خلابة، ويقدمن عروضاً في منتهى الإثارة. وكنت لا أحب ارتياد مثل هذه النوادي لقناعتي بأن عروض التعري متاجرة سخيفة بجسد المرأة، ولذلك لم أدخلها إلاّ مرتين أو ثلاث في الأشهر الأولى من وصولي إلى كندا بدعوة من بعض الأصدقاء. ولكن دلشاد ألح كثيراً على اصطحابي إلى ذلك النادي، مؤكداً أنه المكان المناسب جداً لوضعي النفسي في ذلك اليوم، فوافقت على مضض ورافقته. كان اسم النادي (طائر البحر) فقلت لدلشاد إنه اسم احدى مسرحيات تشيخوف، وسألته إن كان قد شاهدها أو قرأها، فصحك وأجابني بأن هذا سبب آخر يضاف إلى أسباب اختياره هذا المكان بالذات لنسهر الليلة فيه، فلهذه المسرحية شأن كبير في نفسه لأنه فقد خلال عمله فيها أعز امرأة في حياته هي حبيبته شيرين. ومضى يسرد لي ذكرياته معها قائلاً إن أحد المخرجين في مدينته كلفه قبل ثمانية عشر عاماً بوضع الموسيقى التصويرية لهذه المسرحية التي كان قد باشر في إخراجها، فواضب على حضور التمرينات كل يوم ليستوعب أجواءها ويتعرف على أسلوبه الإخراجي، فأغرم بشيرين التي كانت تؤدي دور (ليلي) فيها، وبمرور الأيام أخذت تبادله المشاعر ذاتها حتى تطورت علاقتهما إلى علاقة عاطفية عميقة، وصارا يلتقيان يومياً في المسرح قبل بدء التمرينات، ويختليان في غرفة الماكياج خلف الكواليس بعيداً عن أنظار الحارس الفضولي، ولكنه رغم ذلك كان يحسسهما أحياناً بأنه على علم بعلاقتهما، فيمر من أمام الباب، ويسعل بشدة كأنه مصاب بالسل. وقبل العرض بأسبوع فاجأته شيرين بموافقة أهلها على زواجهما، فأخذا يتهيئان لذلك اليوم الذي يجمعهما في بيت واحد، واتفقا على أن يكون العرس في القرية إكراماً لأمه وأبيه، ثم يقضيان شهر العسل في أحد المصايف. قاطعت دلشاد وناديت نادلة سمراء خلاسية نحيفة تنتقل بخفة بين طاولة وأخرى، وطلبت منها أن تجلب لنا زجاجتي بيرة، فهرعت إلى الداخل وعادت في لمح البصر حاملةً زجاجتين نديتين ووضعتهما أمامنا، وهي تتأملني باستغراب كأنني قادم من كوكب آخر، وحين رفعت رأسي وابتسمت لها همست في أذن دلشاد ببضع كلمات، ففهمت أنها تسأله عني، فقال لها إنني متزوج وأحب زوجتي، ولا أفكر بشيء مما يدور في خلدها، فانصرفت عنا وهي تهز كتفها وخصرها الممشوق مثل بطة برية، فسألت دلشاد إن كانت هذه هي الفتاة التي يعرفها، فأشار إلي بأنها ليست هي، وخمنت أن فتاته قد تكون متغيبة الليلة، أو أنها لم تأت بعد. ارتشف دلشاد جرعة من زجاجته وواصل حديثه عن شيرين قائلاً إن فرحتهما لم تكتمل، ولم يحدث شيء مما خططا له، ففي اليوم الخامس لعرض المسرحية خرجا من المسرح ليلاً كالمعتاد ليوصلها إلى بيتها في الجانب القصي من المدينة، وحين انعطفت سيارة الأجرة إلى الزقاق المؤدي إلى البيت أوقفها فجأةً عدد من المسلحين الملثمين، وأمروهما بالنزول، وأجبروا السائق على الابتعاد عن المكان، وبعد تفتيشهما واستفسارهما عن البيت الذي يقصدانه تركاهما لحال سبيلهما. ولكنهما قبل أن يخطوا بضع خطوات انهالت على المكان زخات من الرصاص المنطلقة من المدخل الآخر للزقاق فسحب دلشاد شيرين وانبطحا على الأرض، وسمعا سيلاً من الرصاص ينطلق من بنادق الرجال الملثمين أيضاً، ولم يتوقف إلاً عندما فروا هاربين وهم يجرجرون اثنين منهم كانا يصرخان من إصابتهما، وظن دلشاد أن شيرين نجت مثله من هذه الكارثة، فحملها من الأرض ليسرعا إلى البيت، ولكنه وجدها جثة هامدة والدم ينزف من رأسها بغزارة… ومن يومها قرر أن لا يفكر بالزواج، وأخذ يخطط لمغادرة البلاد. التفت دلشاد الى جهة باحة الرقص، حيث خفتت أضواء الصالة، وبدأت المصابيح الملونة المسلطة عليها تومض كالبرق، وتعالى صوت الموسيقى الصاخبة بانتظار دخول احدى العارضات لتباشر بخلع ملابسها، وإثارة غرائز الحضور بمفاتن جسدها، وحركاتها الجنسية. قلت لدلشاد: " يبدو أن قدرنا نحن العراقيين قد حتم علينا أن نعيش أصنافاً عجيبةً من المآسي، ولكنني أغبطك على تشبثك الجنوني بالحياة ".
قفزت عارضة سمراء ذات قوام فارع، و شعر قصير يكسوه البريق إلى باحة الرقص من بين ستارة مخملية، فافترعت الصخب الذي كان يملأ الصالة مثل سهم أطلقه فارس قروسطي، فخنس الجميع، وأغلبهم ذوو ملامح شرقية، كتلاميذ صغار دخل عليهم معلمهم فجأةً، وأخذوا يعدلون مقاعدهم ليكونوا في مواجهتها، متلهفين، يستولي عليهم شبقهم لرؤية الأجزاء الحساسة من جسدها، الذي سيتحرر بعد دقائق من ثيابها أشبه بفرخ يخرج بلا ريش من بيضته، حين تنتهي من أداء حركاتها الراقصة التسخينية. أشار دلشاد بإصبعه إليها ففهمت أنها الفتاة التي تربطه بها علاقة ما، وقال هامساً: " أتعرف من جعلني أتشبث بشكل جنوني بالحياة؟ الموسيقى أولاً يا صديقي، فهي التي تمنحني القوة.. وتحول الحزن في داخلي إلى نوع من الطاقة الروحية التي لا تقهر.. والنساء والخمرة ثانياً. ألا تتذكر سامان، الموسيقي الشاب، بطل مسرحية (مساء السلامة ايها الزنوج البيض) لمحيي الدين زنكنة ؟ لولا الموسيقى لحطمته عوامل القهر التي كانت تتربص به مثل وحش كاسر. ولكنني أختلف عنه في أنني سعيد مع النساء، في حين أن أمرأة سامان الثرثارة قلبت حياته ألى جحيم. لنشرب نخب زنكنة الرائع... ". قلت: - وكذلك فتاتك التي ستتعرى مثل تمثال افروديت . فقال: - ستأتي من تلقاء نفسها وتجلس معنا بعد أن تنتهي من عرضها الشهواني.
- يبدو أنها من أمريكا اللاتينية؟
- أبوها من البيرو وأمها من كولومبيا، ولكنها مولودة هنا في مونتريال، وتجيد الفرنسية والإنجليزية إلى جانب لغتها الأم، وأسمها أورسيلا.
- ألم تعلمها كعادتك بعض الكلمات والعبارات الكردية؟
- بلى..علمتها عبارات غزلية وبعض الشتائم أيضاً، وأفكر الآن بتحفيضها أغنية من ألحاني، وكلمات لطيف هلمت(*) ، وهي قصيدة قصيرة بعنوان (نجمة ما) يقول فيها:

كانت النجمة تضحك قرب قمة الجبل
فجاء الضباب الأسود والتف حولها

حينذاك تململت النجمة الرقيقة وقالت:
- لا تقتلني أيها الضباب الأسود
علني أستطيع أن أضيء نافذة غرفة فتاة وحيدة
كسرت العواصف الهوجاء- ذات ليلة-
زجاج سراجها فأطفأته .. !

- قصيدة جميلة.. لقد قرأتها مع قصيدتين أخريين لهلمت في أحد مواقع الانترنيت.. وعلى ذكر الشتائم فإن أغلب القادمين من العالم الثالث إلى كندا يفعل مثلك. قبل فترة كنت أتبضع من الوول مارت، فسألتني محاسبة صغيرة السن إن كنت من أصول عربية، فأجبتها بنعم، فقالت لي مزهوةً من دون تردد " الهس تيزي هبيبي "، فأدركت أنها ضحية أحد الشبان العرب الخبثاء. وحين سألتها إن كانت تعرف معنى هذه العبارة قالت مفتخرةً: " طبعاً أعرفها.. معناها أتمنى لك يوماً سعيدا "! فضحكت وشرحت لها معناها الحقيقي، فاحمرت خجلاً، واعتذرت لي متوعدةً بالانتقام من الشاب الذي وضعها في هذا الموقف المحرج. وفي احدى المرات كنت أجلس إلى جوار سيدة محترمة لمشاهدة عرض مسرحي في المركز الوطني للفنون، فأخذنا نتحاور حول بعض القضايا قبل بدء العرض، وحين عرفت أنني من أصل عراقي سألتني عن الدول المجاورة للعراق، وقادنا الحوار إلى أنها تخطط للقيام برحلة سياحية إلى اسطنبول، وقد استعانت بشاب تركي لكي يعلمها بعض العبارات التركية قبل سفرها، فقلت لها إنني أجيد شيئاً من هذه اللغة، فراحت تردد على مسمعي بعضاً مما حفظته، فصدمتني بعبارة فاحشة جداًُ، وحين اوضحت
لها معناها شعرت بالارتباك وكأن أحدهم قرصها من مؤخرتها، فاستأذنت لتذهب إلى الحمام، ولم تعد ثانيةً . قال دلشاد: - لقد حرمت المسكينة من مشاهدة العرض. فقلت: - لا أدري.. ربما جلست في مكان آخر.
خيم علينا الصمت، وأخذنا نتابع أورسيلا التي شرعت في انتزاع آخر قطعة من ملابسها الداخلية، وهي تتلوى مثل أفعى حول عمود نابت وسط الباحة، وقد اختفى وميض المصابيح الملونة، وحلت محله بقعة ضوء حمراء إمعاناً في إثارة غرائز الحاضرين الذين بدأ بعضهم بالزحف شيئاً فشيئاً إلى حافة الباحة التي تشكل نصف قوس رصفت عليه مصابيح خافتة مدفونة تحت زجاج على شكل نجيمات صغيرة هي الحد الفاصل بين عارضة الستربتيز والمتلهفين إلى رؤية تقاطيع جسدها عن كثب. كانت أورسيلا تزيح بأطراف أصابعها لباس البكيني المنحشر بين ردفيها بحركة بطيئة، ثم تعاود رفعه، وتعقد ساقيها حول العمود، وتترك جذعها يتدلى إلى الخلف مثل عنقود عنب. مرونة جسدها تجعلك تخالها أنها من دون عظام، تماماً مثل دمية بلاستيكية طرية، أو مصنوعة من الاسفنج. قلت في نفسي " يبدو أنها بدأت حياتها لاعبة جمباز، وحين اعتزلت صارت عارضة ستربتيز ". وقد صدق تخميني عندما اعترفت، وهي تجلس إلى طاولتنا بعد انتهاء عرضها، بأنها تركت رياضة الجمباز قبل بضع سنوات بسبب تعرضها إلى كسر في ساقها اليسرى أثناء خروجها من المنزل في ليلة شتائية كانت الأرض فيها مغطاةً بطبقة سميكة من الجليد. طلب دلشاد كأساً من شراب (الشيري) الاسباني الذي تحبه أورسيلا، وزجاجتين من البيرة لنا، ورحت أمازحها:
- علمت أن أمك من أصل كولومبي.. - هل أخبرك دلشاد عن أصلي اللاتيني؟ - وأبوك من البيرو.. - ولكني لم أزرهما قط. - لا يهم.. هل تعرفين خالك غارسيا ماركيز؟ - تقصد صاحب مائة عام من العزلة؟ إنه ليس خالي.. - أنا أمزح معك فقط.. نحن العرب نفترض صلة الخؤولة بين الولد أو البنت والشعب الذي تنتمي إليه الأم، وصلة العمومة فيما يتعلق بالأب.
- إذن ما دام الأمر كذلك هل تعرف أدباءً بيروفيين من أعمامي؟ - أعرف شاعراً كبيراً اسمه قيصر باييخو، وكذلك الروائي المعاصر ماريو فارجاس لوسا المرشح القوي لجائزة نوبل في هذا العام.
- توجد في مكتبة أبي رواية لهذا الأخير اسمها موت في جبال الأنديز، ولكني لم أقرأها. - أظن أن باييخو مولود في احدى بلدات هذه الجبال. - وأبي أيضاً.. يا لها من صدفة.. كم أتمنى أن أزورها، وخاصة خلال مهرجان الدم الذي يقام فيها سنوياً. نظر إلي دلشاد بدهشة، ثم سأل أورسيلا مستنكراً: - تقيمون مهرجاناً للدم في جبالكم؟ أعوذ بالله.. فهمت أورسيلا مغزى سؤاله فأسرعت إلى القول:
- إنه احتفال سنوي باندحار الغزاة الاسبان اسمه ياوار فيستا، أقيم أول مرة في الخامس عشر من يوليو عام 1560 في بلدة كوزكو، أي قبل 12 عاماً من هزيمة ملك الأنكا على يد الغزاة الاسبان. وبعد ثلاثة قرون من الحكم الدموي، استعادت البيرو استقلالها في عام 1879، وجرى نقل موعد المهرجان الى الثامن والعشرين من يوليو، الذي يصادف عيد استقلال البيرو. يبدأ الاحتفال بالتقاط النسر الأميركي رائحة جثة على الأرض من ارتفاع عال فوق المنحدرات الجرداء لجبال الأنديز. يحوم ويحوم ثم ينقض ويحط على الأرض، وبمنقاره الحاد يخترق جثة حصان ميت. إنها المرة الأولى التي يتناول فيها طعامه منذ أسابيع، ولكن هذه الوجبة الدسمة السخية ما هي إلاّ فخ منصوب له بعناية، إذ يتوجب على أحد الكهنة ورجاله أن ينتهزوا الفرصة، فالنسر، المتثاقل من وجبته الكبيرة، لن يكون قادراً على الطيران بسهولة. وهكذا سييجري الإمساك به ومعاملته بتبجيل واحترام. وعلى امتداد الأيام القليلة التالية سيطعم شرائح من اللحم النيء، وسيعطى شراب الذرة المخمر. وبعد ذلك سيقاد عبر الجمهور المحتشد لحضور الاحتفال مزيناً بالشرائط والرايات، حيث سيشارك في مصارعة غريبة للثيران. وتكون ذروة المهرجان دموية بكل ما في الكلمة من معنى، إذ يقومون بخياطة أقدام النسر بظهر الثور، ويلجأ النسر إلى ضرب الثور بمنقاره الحاد محاولاً تخليص نفسه، في حين يقوم الثور الهائج بالدوران حول حلبة مؤقتة. وفي اليوم الأخير من المهرجان يطلق سراح النسر ليحلق عالياً في السماء. وهكذا يضمن السكان محصولا جيداً وشموخاً مستمراً لروح الأنكا. وكان هذا النزال في الماضي نزالاً حتى الموت، أما في هذه الأيام فإنه لا يستمر سوى بضع دقائق مع تزايد وعي القرويين وتعاطفهم مع الحيوانات..
- وماذا يمثل النسر الأميركي في هذه الأسطورة؟ سألتُ أورسيلا، فقالت:
- يمثل رسول الأنكا الإلهي إلى آلهة الجبال الأخرى، ويرمز إلى سكان البلاد الأصليين، ولا يزال الكثيرون يعتقدون بقواه الإلهية. - والثور؟
- يرمز للغزاة.. ولهذا تجد النسر هو المنتصر..
تذكرت أسطورة إيتانا والنسر البابلية، فقلت لأورسيلا: - نحن لدينا أسطورة عن النسر والثور أقدم من أسطورتكم اسمها إيتانا والنسر تدور أحداثها فى الأزمان الأولى عندما كان الآلهة يقومون بمهمة خلق الجهات الأربع، ويضعون مخططاً لبناء أول مدينة للبشر هى مدينة كيش. فبعد أن انتهوا من أعمال الخلق والتنظيم أسسوا منصب الملوكية، وراحوا يبحثون عن شخص مناسب ينصبونه ملكاً على المدينة، ليكون حاكماً صالحاً للناس فوقع اختيارهم أخيراً على واحد اسمه إيتانا. وبعد صعوده على عرش المدينة نمت شجرة عملاقة وارفة الظلال، فجاءت اليها حيَّة متخذة من قاعدتها وكراً لها ولصغارها، ثم حط على قمتها نسر فصنع له ولفراخه عشاً. تعاهد الإثنان على العيش بسلام وعلى اقتسام الطعام فيما بينهما.. ووثقا عهدهما هذا بالقسم أمام الإله شمش، إله الحق والعدالة، على احترام الاتفاق وعدم النكوص بالعهد. إلا أنَّ النسر بعد أن كبر فراخه أضمر فى قلبه شراً وراح يتحين الفرص لأكل صغار الحيَّة، فانتهز غيابها وانقضَّ وأكل صغارها وهرب. ولم يكن أمام الحية إلاّ أن تتضرع للإله شمش لكي يثأر لها من النسر. استجاب شمش فرسم للحيَّة خطة توقع بالنسر.. قال لها بأنه سيدفع ثوراً مقيداً فى الفلاة، وعليها أن تقتله وتختبئ فى أحشائه.. وعندما يأتى النسر مع بقية الطيور ليأكل من الجيفة تنقض عليه فتنزع مخالبه وتنتف ريش أجنحته، ثم ترميه فى حفرة عميقة ليموت هناك من الجوع والعطش. وبعد أن نفذت الحيَّة الخطة بنجاح راح النسر يتضرع يومياً الى شمش لينقذه من ورطته. وحين يشارف الملك العاقر إيتانا على الشيخوخة من دون أن يرزق بغلام يخلفه على العرش يسمع بوجود نبتة مزروعة فى السماء تشفى من العقم، فيدعو الإله شمش أن يجعل النبتة فى متناول يده. يدله شمش على مكان النسر الحبيس فى قاع حفرة، فيحرره إيتانا ويشفيه لقاء أن يطير به الى السماوات العلا لجلب نبتة الإخصاب التى تتعهدها الإلاهة عشتار بالرعاية والسقاية. ويرتفع إيتانا والنسر الى السماء، ولكن قوى النسر تخور ويعترف بعجزه عن المضي قُدُماً أبعد من ذلك، ثم يهوي عائداً إلى الأرض. - إنها أسطورة فظيعة.. ولكن نسركم يبدو فيها إرهابياً على العكس من نسرنا! قالت أورسيلا مازحةً وهي ترتشف جرعةً من كأسها، فأجبتها بمزح أيضاً:
- مثل ثوركم الإرهابي تماماً.
ضحكت أورسيلا وضربت كفها بكفي كأنها تشير إلى أننا متعادلان ، ثم صمتت برهةً وراحت تتحدث كمن تذكر شيئاً له علاقة بالمزحة التي أطلقتها:
- لا أدري كيف خطرت على بالي كلمة إرهابي..؟
فقال لها دلشاد:
- ربما جاءت مرادفةً لكلمة شرير في ذهنك.. أليس كذلك؟
سحبت أورسيلا رشفةً أخرى من كأسها وقالت:
- إنني أمقت هذه الكلمة كثيراً ولا أدري لماذا استعملتها.. لقد ذكرتني بموت ابن عمي في تفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك..
- حقاً؟ هل كان موظفاً هناك؟
سألتها، فردت بصوت انتابته رعشة: - كان روبرت مارتينيز، ابن الثالثة والعشرين، موظف أمن في المركز، وقد اتصل به عمي غبرييل بعد أن ضربت الطائرتين البرج، وطلب منه أن يترك المكان فوراً، فأجابه حسناً، لكنه بقي لمساعدة مزيد من الأشخاص
المصابين، وانهارت البناية، ومات في ذلك اليوم، مخلفاً وراءه أبويه وخطيبته ليسا وابناً في ربيعه الخامس
، جوناثان. ويحتفظ أبواه بمذبح تذكاري كبديل مؤقت لابنهما، وهو يزين الآن ركناً من منزلهما مع تمثال حرية صغير، وباقة زهور، وعلى المذبح أيضاً علم صغير داخل إطار للبرجين التوأم، وعدة أيقونات دينية، وشمعة من وكالة الطيران والفضاء الأميركية بلوحة تشير إلى أنه انطلق مع المركبة الفضائية أنديفر. وتحت المذبح تحتفظ أسرة مارتينيز بألعاب حفيدها جوناثان. لقد تبددت أحلامه إلى الأبد.. كان يأمل بأن يزور يوماً ما بيرو حيث مسقط رأسه، وأن يغير عمله وينتقل إلى مجال الكومبيوتر، ويتزوج خطيبته ليسا.. ولكن ذلك لم يحدث بسبب بن لادن الإرهابي..
شعرت بشيء من الجفاف داخل فمي، فبلعت ريقي وقلت لأورسيلا:
- هل شعرت حينها بكراهية تجاهنا نحن المسلمين؟
- شعرت في بداية الأمر، ولكنني تغيرت حين تعرفت على دلشاد. إنني آسفة جداً.
- لا تتأسفي.. الإرهاب ليس له دين..ها هو دلشاد أمامك، لقد قتلوا نصف أسرته في يوم واحد، ولم يكن القتلة من دين آخر.
وحاولت أن أغير الموضوع لئلا يخيم علينا جو من الحزن، فقلت لأورسيلا:
- لم تذكري لي كيف عرفت خالك ماركيز:
قالت من دون تفكير:
- لأنه روائي مشهور..ولكني لم أقرأ له سوى الرواية التي ذكرتها.
- وهل استمتعت بها؟
- استمتعت بها، إلاّ أنها معقدة جداَ.. كثرة أحفاد العقيد بوينديا يسطلون القارئ سطلاً.
- أنت محقة في ذلك.
رفعت كأسي وقلت لنديميّ:
- نخب ماركيز وابنة أخته أورسيلا..
فضحكت ضحكة رقيقة وقالت:
- نخبك أنت ودلشاد أيضاً.
وجرعت كأسها دفعةً واحدةً كأنها تجرع كأس ماء من شدة الضمأ.
بعد انتهاء السهرة خرجنا ثلاثتنا معاً، وكنا نشعر بالجوع ، فاقترحت أورسيلا أن نتعشى في أحد المطاعم العربية المنتشرة في بانك ستريت، ووقع اختيارنا على مطعم (شاورما الفرح). جلست أورسيلا إلى جانب دلشاد في المقعد الأمامي، وجلست أنا خلفها مباشرةً، عبرنا شارع دلهوزي، وسلكنا شارع الريدو باتجاه بانك ستريت، كان وسط المدينة هادئاً بعد الواحدة ليلاً، سيارات قليلة تجوب الشوارع في مثل هذا الوقت فلا تشعر أنك في عاصمة غربية، رغم موسم الربيع، فأغلب المحلات التجارية تغلق أبوبها في التاسعة مساءً، ولذا يلجأ الناس إلى بيوتهم مبكرين، عدا يوم الأحد فهي تغلق في الخامسة عادةً استعداداً لبداية أسبوع جديد من العمل، ومن يريد أن يتبضع بعد الخامسة لا يجد أمامه إلاّ بعض المحلات العربية أو الشرقية كالإيرانية والباكستانية، إذا كان أصحابها مسلمين، إضافة إلى محطات الوقود ذات الخدمة الذاتية، وبعض فروع محلات (ماكس) و (بيكرس)، ومطاعم (البيتزا) و (الهمبرغر) التي تفتح أربعاً وعشرين ساعة. وفي مثل هذا الوقت تكثر سيارات الشرطة لمراقبة السائقين الذين يتجاوزون الحد المسموح به للسرعة، أو تناول الكحول، ولذا فإن أي سائق مخمور يرتكب مخالفةً ما يجد احدى هذه السيارات خلفه في لمح البصر، فتكون عقوبته مضاعفةً.
صدمتني الأيام الأولى لوصولي إلى أوتاوا بسبب هذا الهدوء الذي يخيم عليها في الليل، وكنت أردد مع نف