عبر باب موارب..يتسلل نحوها بخطوات مترددة. يلقي عليها نظرة دامعة.. يتصفح ذكريات أفلت..تتدافع الكلمات بين شفتيه كتيار نهر جارف.. للحظة يفكر أن يقتل كبريائه بسيف كلماته.. يحاول أن يدلق عليها اعتذاراته دفعة واحدة ، لكن كلماته تتعثر في نظراتها ، وتتهاوى اعتذاراته أمام هجعة صمتها.

هي:
الزوجة المحبة له دوما ، من سكبت له من حبها أنهارا .
هي:
من غذت كبريائه بتسامحها حتى أضحى ماردا لايقاومه اعتذار ، هي نفسها التي تقتل بصمتها الآن مارد كبريائه لتحيله الى تراب.

تطرأ على ذهنه قصة الأصحاب الثلاثة والصخرة وكيف أن حسناتهم السابقة كانت السبب خلف نجاتهم.
على عجل يلملم كلماته المبعثرة ، ويستجمع قواه يمتطي قطار ذاكرته ويمضي سريعا الى سوق الماضي .
سأبتاع لها مبادرة لطيفة من مبادراتي السابقة ،حتما سوف تفرحها،سوف تغفر لي حتما،أنا انسان كما هي أخطأ وأصيب ولكن "الحسنات تمحو السيئات" ، وهذه الجملة في قاموسها وهي حتما تعمل بها ، فهي امرأة تهتم كثيرا بكتب التعليمات والارشادات ،الدينية منها والدنيوية،كانت تردد علي دائما أهمية قراءة كتب التعليمات للأجهزة المنزلية وضرورة اتباع ارشاداتها ،كانت تخصص مكتبة صغيرة لتلك الكتب لترجع الى تعليماتها في الضرورة.
نعم لقد وجدتها ، سوف أعاملها بمنطقها ، سأشتري المبادرة وسيكون غلافها "الحسنات تمحو السيئات" وهكذا أكون قد نجحت ، سوف أذهب الى أبعد محل من الذاكرة ، لاأريده حدثا عاديا ، أريد أن أفاجئها.
حسنا..سوف أبدأ من اليوم الذي تعرفت فيه عليها أو بالأحرى من الليلة التي تعرفنا فيها على بعضنا.. كانت ليلة زواجنا .. لم أعرفها قبل تلك الليلة ،ولم أرها قط سوى مرة واحدة وبتلك الرؤية الشرعية التي عادة ماتلازم الخطوبة،لم يكن زواجنا عن حب ، ولا عن سابق معرفة ،لقد كان زواجا تقليديا كبقية الزيجات التي تتم في مجتمع محافظ كمجتمعنا..الابن المستوفي لمؤهلات الزواج يطلب من أمه أن تبحث له عن عروس وفق مقاييس خَلقية وخُلقية واجتماعية تناسبه ويكون قد أملاها على والدته ، ثم تذهب أم العريس لتبحث لابنها عن أكثر الفتيات قربا من تلك الصفات وتتم الخطوبة بحضور الأهل ثم يتم الزواج باتفاق الطرفين.

عادة العروسان يستعدان لعرسهما ويتجهزان ليلتقيا في أبهى حلة ، وهكذا كان حبنا كما نحن ، تحضر لنا حبنا واغتسل على ضفاف الاسلام ثم جاء ليجمعنا وهو يقطر شرفا وعفة وكرامة . كان حبنا على موعد مسبق معنا ، لم يكن حب مصادفة .جاء حبنا ملكا يسكن قلبينا لامتسكعا على عتبات القلوب.

جائني نبي حبي مبشرا بها داعيا قلبي لحبها ، جائت أمي تعدد علي حسن خصالها وشرف نسبها وندرة معدنها حتى اعتنقها حبي وشهد أن لاحب الا هي قلبي ..وكان الزواج.

كانت فتاة رائعة على كل المقاييس ، كانت رائعة في جمالها وأخلاقها ودينها وثقافتها.أتذكر حين تعانقت نظراتنا لأول مرة، كانت شمسا تتوارى خلف غيوم حمراء تغطي وجنتيها. كانت اشراقتها سببا طبيعيا لندى جبيني.
في ليلة الدخلة أحسست بأن طرفا ناقصا في جسمي وعقلي وروحي قد اكتمل بوجودها ، أحسست أنها حورا اختطفتني على فرس السعادة من براثن الوحدة.
كان الصمت جاثم على جو الغرفة حين ابتدرتها قائلا:
لم أحلم في حياتي قط بزوجة تحمل كل هذا القدر من النعم التي تحملينها على هيئة صفات .أعتقد أن الله تعالى قد جمع رزقي فيكي ليكافئني بك على صبري ، كانت اجاباتها ورودا حمراء تهدينيها من حدائق خديها ، لم يعرف صوتها طريقه الى سمعي حتى قلت :
أعتقد أني الطرف الرابح في هذه الزيجة ، يبدو أن هذه الجملة كانت مستفزة حد القدرة على فض بكارة حبها. أجابتني سريعا بحب متدفق مغلف بحنق مفتعل:
لاوجود لخاسر في غير معركة ..صدقني يازوجي العزيز أني لتوي فقط أُحس أن لي قلبا ينبض ، كان حجرا صلدا يقبع خلف ضلوعي فبثثت أنت بحبك فيه الحياة،لم أعرف يوما كيف يمكن أن يكون الانسان مسافرا ولايكون غريبا حتى سكنتك، أنا مستعدة أن أطوف أعطاف الأرض وأطرافها دون أن أُحس بغربة شرط أن تكون معي ، بك فقط تكون لغروب الشمس اشراقة ليل جميل ومعك فقط تستحيل وحشته التي أخشاها الى لقاء أتوقه.
كانت كلماتها تنساب على سمعي كموسيقى سريالية لم أسمع مثلها من قبل ، كانت مقبلات شهية على مائدة حبنا.

كانت ليلة شتاء باردة أدفئها حبنا.

كنا نتراشق بالحب حين غيبنا النعاس.

في حضن القمر بت ليلتي ..في حضن الشمس صحوت
هلى تذكرتيها تلك الليلة التي استنشقنا فيها لقائنا ؟ هل تذكرين صباحها الذي زفرنا فيه فرقتنا.
في ذاك الصباح اكتشفت تفوق النساء حينما يكون العدو حبا ، كنت قد نمت وأنا أضُمر لكي هدية صباحية مغتسلة بندى الفجر معطرة بشذى الزهر، كنت قد نويت أن أصحو باكرا قبلكي وأذهب الى السوق لشراء هدية تليق وحبك ثم آتي لكي مسرعا كتلميذ ناجح لأتسلم قبول هديتي منكي ، لكن حبك لي سبقني..صحوت على موسيقى كلاسيكية جميلة كانت تنبعث من حاسوب جميل كان قد وُضع على مكتبي الصغير في زاوية الغرفة ، ثم قادتني يداك الناعمتان باتجاه الحاسوب لترياني جملة حمراء كانت تبرق من شاشته السوداء على هيئة شاشة توقف.
أتذكر الجملة جيدا، كانت:
زوجي العزيز محمود ..أحبك دهرا ..أحبك أبدا..أحبك حتى يُنفد حبي لك كل حب في الكون .. المخلصة لك دوما زوجتك عهود

قرأت الجملة ولم اشعر الا وأنا أحتضنك وفمي يلثم جبينك ، كانت كلماتك أمواجا تجرفني نحو بحر حبك ، بجملة صغيرة ضاعفتي مقدار حبك في قلبي ، بكلمات أرسيتي زواجنا أبدا.
آليت على نفسي حينها أن لاأمحو تلك الكلمات من حاسوبي أبدا . أحتفظت به ذكرى عزيزة ، تفوق روحي معزة ولا أزال.

لم يكن حاسوبا محمولا..كان وطنا محمولا..كان زوادة من حبك،في بعض سفرات عملي تلك التي كان عملك فيها يمنعكي رفقتي كان الحاسوب صبري على بعدك.في بعض نوبات أشواقي اليكي كنت أطبع الجملة التي أهديتينيهافي الحاسوب مرة واثنتان وثلاث .
كانت ملامسة مفاتيح سبقتني اليها أناملك تشبع جوعة أصابعي وتسد خلة حبي.

ترى هل كنتي تعلمين بهذا الحب الذي أحمله لكي؟ هل كانت عيناي تفضحان حب ستره لساني؟


الحب مواقف..
ولكي فيه مواقف مشرفة لاتنسى..لم يستطع الدهر محو تلك الدهشة التي طبعتيها على عيني بحبك..كنت في بعض سفراتي أُمارس معكي لعبة حب تعجبكي..كنت أخبء في بعض الأماكن في منزلنا أجزاء عبارة أنا كتبتها وأترك لكي مهمة العثور عليها وترتيبها.كانت أول مرة مارسنا فيها هذا اللعبة بعد زواجنا بسنة، أتذكر اني قسمت العبارة الى خمسة أجزاء ،وضعت الجزء الأول تحت وسادتي والجزء الثاني في غطاء قارورة عطرك والجزء الثالث في احدى رواياتك والجزئين الرابع والخامس دسستهما بين ملابسك .
كانت الجملة:
زوجتي العزيزة عهود،حب قيس لليلى أحبك،شوق يعقوب ليوسف سأشتاقك،في غيابي اذكريني دوما كما أذكرك،المفتون بك زوجك محمود

كنت أظن نفسي مبدعا في حبك حتى فاجأتني بعد ثلاث سنوات حينما كنت أبحث عن مفاتيح خزنتي باحتفاظك بتلك الأوراق مع قارورة عطر فارغة كنت قد أهديتك اياها في فترة خطوبتنا في صندوق مجوهراتك.
عندها صفق قلبي لحبك،وانحنى لكي حبي.
حينها سألتك :لماذا لم ترمي بتلك الأوراق وتلك القارورة الفارغة في سلة المهملات ؟ لماذا تحفظينها كل هذه المدة وبين مجوهراتك ؟ فجائني جوابك كنهر من الخمر طاهر . جائت كلماتك كأسا معتق يسكرني ،قلتي:
ان كان لأجسادنا سلة مهملات ،اذن لرميت فيها برسائل حبك ولكن لا سلة مهملات لقلوبنا الا قبر يضمنا ،لذا احتفظت بهم ليكون مثواهما الأخير كما أنا قبري.صدقني لو قلت لك أني تمنيت لو أستطيع الأحتفاظ بكلماتك السابحة في الهواء تمنيت لو أستطيع تعبأة أنفاسك في قوارير لأنشقها في غيابك.

***

رسامة مبدعة عرفتك..على غير عادة اللوحات الجميلة المرسومة بالألوان ، جائت لوحة سعادتنا بيضاء خالصة مرسومة بحبك.
أنا لاأذكر أبدا أنكي أخطأتي في حقي ،لاأذكر أنكي افتعلتي فيها مشكلة معي ،لاأذكر يوما رذذتي فيه مايسمونه بملح الحياة الزوجية.
كانت حياتنا محض بياض الا من تلك النقط الصغيرة السوداء التي كنت أطبعها أنا ليمحوها تسامحك.

رجولتي غشاء غليظ يغطي حبي الكبير لكي..كنا نختلف أحيانا في بعض نقاشاتنا وكنت أنا في كلتا حالتي خطأي وصوابي أنهي نقاشنا بانزوائي عنكي وبصمتي الرهيب المتحاهل لوجودك.
كنت أتوق لمحادثتك ، لكن عجرفة كبريائي كانت تشل حبي حتى تمتدان يدا تسامحك لتعيدانك لي.

****


كان ذلك في سالف كبرياء أماته بعدك.

ترى هل يعيدك الدهر لي؟ هل يعيد الدهر حبي؟
اذن لغذيته على لحم كبريائي ،اذن لاستغليت كل لحظة تكونين فيها بقربي لأكشف لكي مدى حبي.
ترى هل تسمعينني؟هل تشعرين بهذا الحب المندفق من أعماق قلبي على حين فجيعة؟
اذان لغفرتي لي كل زلاتي .اذن لرثيتيي لحالي.


أواه ياقمري.. أواه يامدّي وياجزري

عيناي الشاخصتان يصهرهما دمعي المنهمر على قبرك لو تدرين
قامتي الممشوقة قوسها خبر موتك.
لوعة فرقتك تملأ صدري.
الألم يعتصر قلبي،البكاء يخنق صوتي
تتزاحم الصور في ذاكرتي ، تدفع بالمزيد من دمعي ، تكنز الكثير من لوعتي،موتك المفاجئ يطوقني ، استحال الكون الفسيح الى قبر ضيق يضكني.

***

يغادر محمود المقبرة متكأ على كتفي أخيه معتز بعد أن قضى على القبر ورد حزنه.يدخل بيته..يتجه صوب محراب حبه غرفته..يلثم ملابس زوجته ..يتناول عطرها ليشتم رائحته..يجلس على مكتبه الصغير ..يفتح جهاز الحاسوب فتبرق جملة زوجته الحمراء ..تتداعى الذكريات في ذهنه..واذا بخادمته تدخل عليه الغرفة وهي مطرقة الرأس وقد بدت في يدها ورقة.

تناول الخادمة محمود الرسالة وتختفي سريعا من الغرفة
يفتح محمود الرسالة.تذهل عيناه من هول المفاجأة .. يقرأها:

زوجي العزيز محمود..
الآن وأنت في عملك وحنقك علي قد طاول السماء وموجدتك مني قد غلفت قلبك أكتب رسالتي الأخيرة لك.فبعد خروجك لعملك ،فجأة اشتد علي المرض على حين غفلة منك ،فترائى لي المرض على هيئة ضبع رابضٌ على صدري يخنق عنقي وقد أقسم أن لايفلتها هذا المرة الا وقد استل أنفاسي .حينها شعرت أن لالقاء يجمعنا بعد فراقنا الأخير .وعلمت أن غربة موتي تسبقها غربة احتضاري فلا قلبا رحيما بجانبي يشفق علي ولا لسانا بذكر القرآن يهدأ روعتي ولا عينا تبكي شقائي ولا حضنا دافئا يودعني.كان المرض حينها يدفعني نحو الموت دفعا وأنا لاأستطيع مقاومته وكان غضبك علي وتبرمك مني يدفع المرض.
كم كنت أتمنى أن ألقى الله تعالى وانت راض عني محبا لي لاتحمل في قلبك لي الا الحب الذي أحمله لك بين جنبي.كم كنت أتمنى لو أن الله تعالى يمهلني لو نصف نهار فقط كي أعتذر لك فيها عما بدر مني وأمسح تلك النقطة السوداء التي خلفتها أنا على صفحة حياتي .
في هذه ا"لأثناء والموت يحث المسير نحوي وانت تدين لعملك بأربع ساعات طلبت من مساعدتي المنزلية قلما وورقة وأخذت أسجل فيها اعترافات حبي وطلبت منها أن تسلمك الورقة بعد دفني ان لم يمد الله تعالى في عمري
زوجي المحب.. ان كانا أمي وابي سببان لوجودي في هذه الدنيا فأنت السبب الوحيد في احياء قلبي وخلق حبي وفي ساعات أنسي وحالات هنائي وسعدي ، أنت الوحيد الذي طالما كنت لي سلوانا في حزني ونزهة عند مللي ومعينا في حاجتي.
بنظرة لك ابتدأ عالم الرجال عندي وعندها توقف وانتهي، عشت بين أخواتي وصديقاتي رافلة بحبك ورحمتك ،عشت بين أقراني مغبوطة محسودة بك.
كان الكل يغارون مني وكنت بدوري أغار عليك من الكل ،كنت مجنونة بك ولاازال.
زوجي المخلص..
لاأريد موتي عقبة في طريق سعادتك، انعم في حياتك قدر ماتطيق ،تزوج بعدي ان كنت تحبني،سعادتك تسعدني،حتما سأظل أغار عليك حتى وأنا بعيدة عنك في قبري.لكن رجائي الوحيد هو أن تغفر لي زلتي وأن تظل تذكرني بعد موتي كما في حياتي وأن تختلف علي في قبري .
عودا على بدء ياخالق حبي ويا مبعثا سعدي أحبك..

الحزينة لبعدك المحبة لك دوما
زوجتك عهود

يقرأ محمود الرسالة للمرة الثالثة والدمع يتحدر على خديه حتى وصل الى الجملة "وكان غضبك علي وتبرمك مني يدفع المرض" اذا برعشة قد سرت في بدنه سقطت على اثرها الورقة ..تمتم بالشهادتين وأسلم روحه الى بارئها.

السعودية
[email protected]