فجأة ضمرت باربرا وانكمشت، أصبحت أقل طولاً وأشد نحفاً وغادرت وجهها نضارة مقيمة. لم أرَ باربرا منذ أكثر من شهرين، في شهرين تحدث أشياء كثيرة، ليس فقط في أمور السياسة، ولهذه تكفي أيام أسبوع واحد، بل في ما يخص باربرا. على أن صورتها الألصق بذهني، لسبب ما، ستبقى تلك الأبعد والأوضح، وفيها تبدو باربرا على حال مختلف تماماً.
منذ أكثر من عشرين سنة، أدرت المفتاح للمرة الأولى في باب شقتي التي تقع مقابل شقة باربرا، في الطابق الأرضي. كانت باربرا أول من رحّب بي من سكان العمارة: " أهلاً بك بيننا. إن احتجت لشيء فاطرق هذا الباب" وأشارت إلى الباب الأقرب، الذي يحمل رقم أربعة.
لم يخامر قلبي أي شك في ما عنته الجارة (الحسناء). كنت متأكداً أنها بدعوتها اللطيفة لا (تطرق) بابي ولا تدعوني للدخول معها في أي نوع من أنواع المغامرة، وعلى أي حال لأكثر من سبب على رأسها اقتناعي يومئذ بصديقتي آن ما كنت لأستجيب.
طرقت باب الشقة المقابلة، مرات لا يحصى عددها، وأصبحت باربرا صديقة بالمعنى الأصلي للكلمة من غير زيادة أو تحريف، وأثبتت الأيام أنها جارة الرضى بامتياز! كنت أترك عندها مفتاح شقتي لتروي في غيابي أصص الزرع ونباتات الزينة، وأرعى في غيابها قطتها العجمية التي لا تقبل التعاطي مع أي كان…واشتركنا معاً لمدة غير قصيرة في إدارة شؤون العمارة، معوضين عن تقاعس الآخرين في المساعدة وتحمل المسؤولية. أما على المستوى الشخصي، فقد مرت أيام لجأت فيها إليها وأيام خففت هي إليّ، اشتكيت لها واشتكت لي... جرت دموعي بين يديها بسبب آن والصديقة التي تسلمتني منها والأخرى التي ورثتني عنها.. كما بكت هي على كتفي لأسباب كثيرة. وعندما انقطعت ورود عشيقها ستانلي وتوقفت عن الوصول في موعدها المعتاد واختفى "استان" من حياتها، قدمت لها أكثر من كأس نبيذ وجعة في بارات ويمبلدون وريتشموند القريبتين، أغرقتْ في كل كأس منها شيئاً من الحزن وشبحاً من الوحدة...وشربنا عندها حيث تزدحم على الجدران وفوق الرفوف الخشبية الداكنة تحف غريبة وقطع من الكريستال وصور لستانلي بمفرده ومعها، وصور عديدة ملونة للقطة لولو..
بعد سنوات من الإقامة في الطابق الأرضي، انتقلتُ باتجاه السطوح غيرّتُ الطابق ولم أبدل العمارة. أكدت لباربرا أن الموقع الجديد لن يؤثر في علاقة الصداقة والجوار التي ربطتنا، كنت أعني ما أقول، لكني كنت مخطئاً في ما ادعيت، ليس بسبب البعد الإضافي البسيط، أو بسبب تخلصي من نباتات الزينة الذي تزامن مع موت لولو في حادث سيارة، بل لأن قانون الحياة يقضي بأن لا شيء يبقى على حاله، وهذا ما كان... فالمرة الأخيرة التي قبّلت فيها وجنة باربرا وضممتها محيياً كعادتي، كانت منذ أكثر من شهرين أو يزيد.
فجأة ضمرت باربرا، هذا ما قلته في نفسي. فردت ذراعي ووضعتها حول كتفيها من غير أن ألقي بثقل جسمي عليها، فقد كانت أقصر مني وكان الاستناد إليها (جريمة) سهلة الارتكاب!
" أهلاً باربرا كيف أنت؟ "
سألتها متنبهاً إلى امرأة لا أعرفها كانت تتحدث إليها. كانت الغريبة شبه عارية في ملابس السباحة، مستندة إلى جدار البناء تتصيد أشعة الشمس الساخنة على بشرتها البيضاء.
" من تكون هذه الصبية إذن؟"
سألتُ بلسان استعرته من مستر اسكوت، الذي يسكنني أحياناً والذي عملت معه سنين طويلة انتهت بتقاعده المبكر منذ عدة أيام، لقد أكد هو الآخر أن لا شيء يبقى على حاله...
" هذه أسترا. إنك تعرفها أليس كذلك؟ كان زوجها هنا منذ دقيقة، تركنا وذهب ليلعب على جيتاره."
حييت أسترا، اكتشفت أنها تقيم في الطابق الذي يقع مباشرة تحت شقتي، واكتشفت أنها قد أمضت في عمارتنا أكثر من سنة، من غير علمي. بعد وصف دقيق، تذكرت أني قابلت زوجها فرانك مرة أو مرتين لكني اعترفت متخلصاً من إحراج لا مبرر له بأني، كما يقول الإنكليز مازحين، لم أتعرف عليها وهي بملابسها! ردت، بل هذا ما تخيلته، وهل في ما أرتديه ما يخفي شيئاً كثيراً؟
تكلمنا عن الشمس وعن أحوال الجو والعناية بالحديقة وتطرقنا إلى علاقات الجيرة واستفهمتُ عن أية شكوى لها أو لزوجها، من الجار المقيم مباشرة فوقهما، وأشرت إلى أني لا أسمع لهما أي صوت أو ضجيج وأكدت مستغرباً بأني لم أسمع يوماً أوتار فرانك في ثورة غضب أو فورة غزل أو فاصل أنين، فطمأنتني إلى حرصه على التدرب مع أصحابه بعيداً عن " البيت" وأفهمتني أن (حرصه) المنسوب إليه هو امتثال لحرصها الصارم على الهدوء، فشعرت مباشرة بتقدير خاص للجارة العارية التي تشترك معي (حتى اللحظة) على الأقل في هواية واحدة. تفحصت أسترا محاولاً اشتهاءها إكراماً للموقف وتقديراً للمؤهلات المعروضة … كانت صبية ومتساهلة في إظهار ما عندها من( مفاتن)، ولقد ملكت منها ما يكفي، وتركتها في وضح الشمس، لكني حاولت وفشلت، فقررت أن هواية حب الهدوء هي الوحيدة التي تجمعنا!
كانت باربرا مستسلمة لذراعي، شاركت ببضع كلمات فقط. تركتني مرة أو مرتين لتسلم على زهرة أو تنظر في عين وردة، ثم عادت لتلتصق بي.
"تمتعي بالشمس، وبلغي فرانك أحر سلامي". قلت لأسترا ومشينا باربرا وأنا مبتعدين. وعاد السيد اسكوت يتكلم في حنجرتي:
" هل أنت فعلاً أوكي؟ ؟" استفهمت من جارتي القديمة الضامرة.
" الحقيقة أني لست كذلك أبداً. بعد غد سأرى الإستشاري غرانت، وقد ينصح بعملية استئصال. لقد حذرني طبيبي من خطورة الأمر. قال إنه يشك في مرض لا تحمد عقباه. هذه هي حالتي أحتفظ بها لنفسي ولا أطلع أحداً عليها، لكن بحكم مهنتك لا أجد سبباً لإبقاء الأمر سراً عليك. إنك تعرف الجواب الآن."
كانت كلماتها واضحة ومتماسكة وباردة بعض الشيء كأن الأمر لا يعنيها، لكن ذلك لم يشعرني بأي بنوع من الطمأنينة.
كانت الحديقة الخلفية ممتدة بسلام باتجاه الأشجار الباسقة والسور الذي يفصلها عن الطريق وبالاتجاه الآخر. كانت حديقتنا عروساً تتلألأ في فرحة الشمس، خضراء يانعة تضحك شجيرات الورد في أرجائها، في حال لا يشبه حالها المهمل يوم انتقلت إلى هذه البناية منذ أكثر من عشرين سنة. ثم تغيّرت، كما تغيرت أشياء كثيرة…انقطعت باقات الورد الحمراء عن باربرا، واختفى ستانلي. انتقلتُ للسكن فوق ( بيت) أسترا وفرانك …وضمرت باربرا، أصبحت أقلَ طولاً وأشدَ نحلاً بشكل واضح.
" يؤسفني ما تقولين أيتها العزيزة. طبعاً لن يسمع أحد مني ما لا تحبين إشاعته. حظاً حسناً عندما تقابلين الأخصائي، أرجو أن لا يكون الأمر بهذا السوء." قلت ذلك، وخلعت عني شخصية السيد اسكوت العطوفة الطيبة، لكن شيئاً لم يتغير في داخلي أو في نبرة صوتي، فأضفت:
"باربرا أرجو أن تخبريني بما يجد معك. وإن شئت أن تناقشي معي أي شيء، أية فكرة أو خاطرة، فما عليك إلا أن تطرقي الباب. تعرفي أن لك موقعاً خاصاً عندي".
وتركتها لأركب المصعد. وفي حيزه الضيق، وفي رأسي ترددت كلمات تفاحة ناضجة… امرأة جذابة الملامح… كانت منذ أكثر من عشرين سنة تعرض صداقتها بود صادق:
" إن احتجت لشيء فاطرق هذا الباب".
التعليقات