ضوء الغرفة الخافت يجعله يراقب المكان من نافذته بشكل أفضل، الشارع لا يزال ينبض بالمارة وشرايينه الرئيسية تعج بالسيارات، الأرصفة خاوية من الناس، لاأحد يمشي عليها، الكل يفضل قضاء حاجته عبر سيارته، تأخذ أكلك وقهوتك الصباحية وأنت تقود السيارة.
شعر بغربة المكان وتداعياته القاسية، فالشروع في الغربة يعتبر قراراً مصيرياً يحتاج لتروٍ وتفكير جيد قبل تنفيذه، عالم يُنتزع منك، يتبدل بأخر مختلف عنه بمعايير متفاوتة، أشجاره هي الأخرى مختلفة، حتى قطرات المطر تختلف سماكتها فالسماء لها مخزونها الذي تجود به هنا غير هناك، التراب أيضاً مختلف لونه، التنفس تحتاج لوقت ليتخلص المرء من اضطرابه، رغم ذلك قرر أن يؤقلم نفسه مؤقتاً مع الوضع الجديد لمدة عامين ثم يعود لوطنه وأجواءه التي اعتادها وتنفسها جيداً. سيعمل سائقاً لـ ( قلاب ) في إحدى شركات البناء . عاد لسريره ليقرأ مزيداً من تفاصيل الغربة التي قد تجهض أفكاره للمستقبل وتعجل رحيله.

تسلم عمله في مشروع لبناء مجمع من الفيلات التي تقام على أطراف المدينة، لم يعد ينام في تلك الغرفة المستأجرة من قبل الشركة، فقد جهزوا حاوية كـ بيت جاهز في موقع المشروع لكسب الوقت ولإنجاز العمل سريعاً، بدأ الحفر للأساسات فتكومت تلال من التراب أحاطت بالموقع فأصبحت كسواتر ترابية ضخمة تحول دون مشاهدة مايجري خلفها.
عمله هو نقل التراب إلى خارج الموقع، بقي إجراء هذا الأمر 45 يوماً. أعتاد أن يأخذ العمال راحة لمدة ساعة في فترة القيلولة لتناول وجبة الغداء ومن ثم مواصلة العمل حتى الغروب، حرص على التهام وجبته بأسرع وقت ممكن ليغفو قليلاً وترتخي أطرافه لتستعيد بعضاً من طاقتها،إلا أن هذه الغفوات لم تذهب عنه هواجسه وتذكره ببعض من أيامه السابقة حيث أمه وأخوته ومنزلهم المحاط بأشجار الزيتون التي تعينهم على الحياة تبدد هذا الارتخاء ذات قيلولة مع طرقات متواصلة على الحاوية، ظن في البداية أن أحداً من زملائه جاء لينبهه ببدء العمل، إلا أنه لم يكن كذلك، بل زائر أنيق، جال في خاطره أنه قد يكون مسؤولاً جديداً في الشركة قدم لمراقبة سير الأعمال والمراحل التي يجب القيام بها، شعر بإرتباك من هيئته وشعره المنكوش المكسو بالغبار. أزاح الرجل عنه وضعه المرتبك و(خبطه) المستمر على (بنطاله) لإزالة الأتربة العالقة عليه بسؤال مباشر:
- أنت تعمل هنا.. أليس كذلك.
- نعم
- أريد خدمة منك..
- تفضل
- أريد تراباً..
حتى التراب غدا ثروة تحقق عبره ماتريد، هل يمكن أن يكون هناك سوق يتداول فيه التراب ويصبح سلعة لها مستهلكيها...لايزال واقفاً على رأسي، ألحظ في عينيه صدق مايقول
- أه ..ماذا قلت؟
- أريد تراباً..
بالفعل تحول التراب إلى شئ يباع الآن.. أراه يواصل حديث وأنا شارد الذهن أفكر في هذا التراب..
- بمقابل.. سأعطيك 200 ريال لكل عربة تأتي بها.
- متى نبدأ العمل
- الوقت الذي تريد.
أخبره زميله النجار اليمني حين سأله بحذر عن استخدام التراب وأهميته للمواقع السكنية المجاورة، فأكد له أنهم يستخدمونه للمساواة بين الأراضي المائلة والأخرى ذات المستوى الواحد، وأضاف النجار بقوله أن يحتاجونه أيضا في (خلطات الإسمنت).
يتأمل هذه الأكوام الترابية أمامه، حائر في ترابٍ يتحول منه إلى إنسان، متجاوزاً خط الفقر واضعاً نهاية لحدود الغربة التي أيقن أنه لن يتحمل أعباءها، ستظل أمه تقفز في ذكراته لن يستطيع أن يوقف دموعه في لياليه الطويلة، سيذكر جيداً إخوانه وهم يلعبون في تراب المنزل يصنعون منازل طينية..

قاص يمني