"مصدر الإرهاب في كتاباتي ليست المانيا بل الروح"، ادغار الان بو

"مصدر الإرهاب في كتاباتي هي المانيا"، هاينر ملر

أثناء هيمنة النظام الشمولي "الإشتراكي" في ألمانيا ، وبشكل خاص في منتصف السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي ، كان النقد الرسمي في المانيا الديمقراطي يتهم هاينر ملر (1929-1995) بمختلف التهم الفكرية والسياسية كان أهمها كونه يعبر في أعماله عن موقف "متشائم تاريخيا". وكانت هذه التهمة كافية في أغلب الأحيان لمنع نشر وعرض أعماله أو عرقلتها على الأقل عن طريق إيقاف العروض ومهاجمتها في إطار اجتماعات "منظمة الشبيبة الألمانية الحرة" وغيرها من المنظمات التابعة للحزب الحاكم وحلفائه. مع ذلك بقيت علاقة ملر بالنظام علاقة متناقضة تتراوح بين الرفض والقبول. فقد كان يرى فيه من جهة محاولة للإفلات من "عصر الجليد" الذي يتربص بالبشرية ومن جهة أخرى ماكنة قمعية تشل قدرة الإنسان على مواجهة مصيره بدرجة مرتفعة من الوعي بالذات ومواجهة التحديات التاريخية. في إطار هذه الإزدواجية المميتة يحاول الكاتب كما يقول ملر " أن يتوارى في النص" بحيث يصبح من الصعوبة بمكان وضع اليد عليه. قبل الوصول الى هذه الحالة المتفردة التي وضعته في مطاف أهم كتاب العصر قطع هاينر ملر مساحات شاسعة في ظل تأثيرات بريشت التي تمكن من التخلص منها بالتدريج من خلال إستيعاب التجارب الطليعية لكتاب ومسرحيين آخرين مثل انتونين ارتو وصامويل بيكيت وجان جينيه وكتاب الحداثة الروس وغيرهم. وقد تمكن ملرمن خلال ذلك تأسيس مدرسة خاصة به خرجت من تقاليد "الحدوتة" المسرحية وجعلت النص عبارة عن تشكيلة غير متكاملة - بتقصد- من الصور والإقتباسات والشخصيات التي تفتقد للعمق السايكولوجي (أنظر "الموقعة" ، ترجمة كاتب السطور نشرت في مجلة الأقلام العراقية في العام 1977). بالإرتباط مع تجاوزمسرح بريشت ومنهجه التعليمي الذي أتبعه ملر الى حد ما في أول أعماله المسرحية : "ضاغط الأجور" و "التصحيح" (1)، أستطاع ملر أن يفلت من قيود الفكر الدياليكتيكي الهيغلي السائد في حينها ويتفتح على ألفكر الماركسي الجديد في فرنسا وأوربا الغربية المتجسد في أعمال الفيلسوف الفرنسي التوسير وكذلك بأفكار ما بعد البنيوية لدى فوكو وديلوزوغيرهم. وقد ظهر تأثير فوكو الفكري بشكل واضح في أعماله التي كتبت في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ومنها: "جيرمانيا الميتة في برلين" و"حياة غوندلنغ فريدرش البروسي نوم صرخة حلم لسنغ" (2)، حيث يهيمن عليها موضوع القمع الجسدي والنفسي المؤسس على "تهذيب الإنسان" وعجز المثقف عن مواجهة هذا القمع. وقد جاءت هذه الأعمال أيضا كقطيعة مع الفكر التنويري الذي ساد القرن الثامن عشر في أوربا والذي أسس للنهضة البرجوازية القومية.

في هذه النصوص وما تبعها تتداخل فيها الأشكال الأدبية المختلفة مع بعضها بحيث يصعب إعتبارها أعمالا مسرحية بحتة. ومن هنا يجد الكثير من العاملين في المسرح صعوبات كبيرة في تحقيق أعمال هاينر ملر على خشبته. ويمكن إعتبار "ماكنة هاملت" ، هذا النص الذي جاء نتيجة تعامل الكاتب لعشرات السنوات مع أعمال شكسبيرالمختلفة وترجمته عددا منها الى اللغة الألمانية ، من أكثر هذه النصوص تشابكا في مجال التعبير الأدبي والفني، فهو يحتوي من جهة على عناصر مسرحية واضحة كالحوار والمنولوج وتوجيهات الإخراج إضافة الى قصيدة النثر والقصة القصيرة وحتى الموسيقى. وفي إطار هذا التداخل ينقلنا الكاتب بين أزمنة وفضاءات مختلفة تنتهي في خروج ممثل هاملت من جلده وتمزيق صورة الكاتب قبل الأنتقال الى أحداث بودابست 1956، حيث قطعت المجنزرات السوفيتية الطريق على أي تحول إنساني في مجرى بناء المجتمع الإشتراكي. في مثال بودابست يختزل الكاتب بشكل مكثف تجاربه المتكررة مع "النظام الإشتراكي" بدءا بأحداث 1953 في المانيا وإنتهاء بـ "ربيع براغ" في سنة 1968 ، هذه التجارب التي تركت بصماتها في ذاكرته الحافلة بالكوارث منذ إعتقال والده من قبل الغستابو في منتصف الثلاثينيات ومرورا بالمحاولات الإنتحارية المتكررة لزوجته الأولى، الشاعرة أنغه ملر (3)في سنوات الخمسينيات والستينيات والتي أنتهت بموتها في العام 1966. كل هذه الأحداث هي مصادر يستمد منها النص مادته إضافة الى نصوص متنوعة كتبها ملر في مراحل مختلفة من حياته مثل "البناء" و"إسمنت" ومقتطفات وإشارات لأعمال أدبية لكتاب آخرين. ويذكرنا العنف المشع من بين السطور بملحمة الشاعر الفرنسي لوتريامون (4) "أغاني مالدورور" وهي من أولى الملاحم التي تتغنى بالشر وتضع الإنسان في موقع الإتهام.
لقد تمكن ملر أن يختزل مايزيد عن ثلاثمائة صفحة من الملاحظات التي كتبها حول مسرحية شكسبير الى خمس صفحات تعكس في طياتها كافة جوانب المأزق البشري ومجمل التيارات الفكرية والفنية لعصرنا الراهن كتبت بلغة مكثفة ودقيقة. وفي إطار هذا النص تتداخل الحوارات والشخصيات فيما بينها (ممثل هاملت، الكاتب، أوفيليا،كلاوديوس ..الخ) في محاولة جذرية لنسف كافة أطر المسرح التقليدي ولغرض التخلص من القيود الإيدولوجية التي ترسخت في المسرح الألماني بالإرتباط مع فهم خاطئ لأعمال برتولت بريشت.

هوامش:
1 تُرجمت مسرحية "ضاغط الأجور"الى اللهجة العراقية تحت العنوان الملتبس "مبادرات عامل" وعُرضت في بغداد في عرض دعائي مباشر ومرتبط بحملات العمل الشعبي آنذاك فنقلت الى الجمهور العراقي صورة مشوهة ومغايرة كلياً للنهج الفكري لهاينر ملر ، خاصة عندما أختتم العرض بخطاب سياسي لأحمد حسن البكر .
2 في ترجمتي لعنوان المسرحية فضلت النقل الحرفي لأن الكاتب قصد أن يكون العنوان كولاج أسماء. وعنوان المسرحية باللغة الألمانية هو كالتالي:
Leben Gundlings Friedrich von Preußen Lessings Schrei Schlaf Traum
3 ولدت إنغه ملر في سنة 1924 وعاشت حياة مليئة بالقسوة والعنف وأثناء القصف الجوي على برلين قضت ثلاثة أيام تحت الأنقاض وكان لهذا الحدث تأثيرا كبيرا على وضعها النفسي ومعاناتها المستمرة بين الموت والحياة التي دفعتها لعدة محاولات إنتحاربحيث انتهت أخيراً بالموت في سنة 1966 . والى جانب أعمالها المشتركة مع هاينر ملر وقصص للأطفال صدر لها ديوان شعري واحد في سنة 2002 تحت عنوان " لكي لا أختنق لإنخفاض صوتي"
4 يعتبر السرياليون الكونت دي لوتريمون (إسمه الحقيقي إيزودور لوسيان دوكاسيل) 1846- 1870 مصدرا مهما للفن السريالي