خروج المسرح العراقي من قمقم الهاوية
صفاء ذياب:من الصعب الوقوف عند حدود المسرح العراقي، فبين اعمال رائعة بقيت في ذاكرتنا، وبين اعمال اصبح ذكرها اساءة لتاريخ هذا المسرح، مسافات طويلة واعمال تتذبذب في مستواها الفني، حتى انقسم النقاد بين راضٍ عن هذا المسرح بمجمله، وبين مستاء، خصوصاً بعدما ظهر المسرح "التجاري" بعد الثمانينات وتحول هذا المسرح الى صالات عرض للرقص والكلام اللا اخلاقي. بقي المسرح العراقي على حاله هذا، وبقيت انظارنا على فنانينا المسرحيين وهم في المنفى، ولكن بعد الحرب الاخيرة وسقوط النظام الذي اوصل المسرح العراقي الى هذا المستوى من التهريج ــ على الرغم من وجود فناين حافظوا على فنهم واستطاعوا تقديم اعمال رائعة ــ بدأ الفنانون العراقيون المنفيون بالعودة واحداً تلو الاخر.
ومن هؤلاء الفنانين المخرج المسرحي حازم كمال الدين الذي كان مقيماً في بلجيكا وشكل هناك فرقة "صحراء 93" التي تعد من اهم الفرق المسرحية في بلجيكا. قدم حازم كمال الدين مسرحية “ساعات الصفر” من تأليفه وإخراجه على قاعة منتدى المسرح وكانت هناك ردود افعال حول هذه المسرحية لما قدمه المخرج من تجريب جديد على المسرح العراقي.
النص المسرحي
عرف عن حازم كمال الدين انه هو الذي يكتب جميع مسرحياته ذلك لانه لايريد ــ حسب رايه ــ ان يتلاعب بالنصوص المسرحية الاخرى، وقد يسيء هذا التلاعب الى شخصية المؤلف، ومن ثم لأن النص المسرحي يكتب على خشبة المسرح لا على الورق. من هنا، نرى ان “ساعات الصفر” التي قدمها مؤخراً تحمل هذا الطابع حيث ان النص كان مرتبطاً تماماً بجسد الممثل فالكلمات التي لفظت كانت معها حركات تعبر عنها او تغايرها حسب ما اراد المخرج. ولا يمكن ان نفصل بين اي كلمة في النص وبين حركة الممثل التي تريد لها ان تكون بهذا الشكل او ذلك، ولهذا قسم النص الى ثمانية اسفار، وهي على التوالي: امراة منتصف الليل، الوثن الانثوي الجميل، زهرة الصبار، شيخ الجان، الواحة، فمبابا، الراعي، المنارة. وزعت هذه الاسفار على الممثلين حيث لم يكن النص المسرحي على شكل حوار بين الممثلين، بل هناك نص لكل ممثل يمكن ان يشكل في نهاية العرض المسرحي جملة واحدة. فنرى ان شخصية "سفيان" مثلاً انتقلت بين حميد عباس، وطه المشهداني، ويمكن ان ندمج معهما شخصية الراعي: سفيان (حميد عباس): لقد انقلع صدري ونط حد الاضلاع منه، وعندما حدقت بالضلع المخضب بالدماء رأيت زهرة صبار تنبت فوقه!! هذا النص من "سفر زهرة الصبار" ومن ثم يكمل حميد عباس
لقد عرفت مدى المؤامرة التي حيكت ضدي لقد خدعوني خدعة مرعبة سأحيل الصحراء خراباً. من خلال هذا النص وغيره من النصوص نرى اننا امام قصيدة نثر مكتملة، وهذا ماسعى اليه حازم كمال الدين في هذه المسرحية، ان يبني كل مقطع وكأنه قصيدة بحد ذاته، ومن ثم تكتمل هذه القصائد مع انتهاء المسرحية، فمثلاً يقول باسم الطيب "زهرة الصبار". وإذا سألتك لماذا دفنت نهر الفرات تقول: أنا لم أدفن نهر الفرات بل زرعت النيل طيناً، أو كما قال طه المشهداني في الدور الثاني لسفيان: هرعت الى فحل النخيل واستخرجت الحصاة السبع إلي.. إلي.. إلي.
الفضاء المسرحي
لم تكن قاعة منتدى المسرح ذات فضاء واسع يمكن لخمسة ممثلين اضافة الى المخرج بالحركة بشكل جيد، لكننا فوجئنا بالفكرة الاخراجية التي جعلت حتى من كراسي الجمهور فضاءاً مسرحياً يضاف الى الفراغ، كان الديكور هو ارضية المسرح، اضافة الى بعض القطع من القماش الممتد من سقف المسرح، وبعض مواقد اللهب هنا وهناك.
كان لاختيار هذا المكان دافع نفسي لدى المخرج، وهو الذي عرف الاضطهاد ايام السبعينات بكل انواعه، حيث رفض ان يعرض على قاعة المسرح الوطني على الرغم من المساحة الواسعة لهذه القاعة وأصر ان يجمع التراث وعدم الدخول وسط المكان الكبير الذي اسسته الحكومة السابقة لأنه يعبر عنها. ولأن المسرح الوطني مبني بطريقة يكون الجمهور اعلى مستوى من الممثلين والمخرج، وهذا ما أراده النظام السابق حيث كان يجلس هو وزبانيته، ارتاى حازم كمال الدين ان يكون فضاؤه في منتدى المسرح بحيث يكون الجمهور والممثلون على مستوى واحد، فضلاً عن استخدام سطح المسرح وغرفه العلوية لكي يرتقى فنانه على كل ما و موجود. كانت حركات الممثلين بمجملها تشكل فضاءاً جديداً، حيث ان الشبابيك وغرفة تغيير الملابس وما تحت كراسي الجمهور دخلت ضمن هذا الفضاء، ومنعاً للحد من حركة الممثلين رفض المخرج من دخول كاميرات التصوير لكي لا تاخذ من هذا الفضاء.
لقد امتصصتني حتى العظام هذه هي ساعاتي الأخيرة.. بهذه الجملة استطاعت الجنية “عهود ابراهيم” ان تتلاعب باقدام الجمهور لتشمل ديكور المسرحية ولتستغل الحائط الذي استند اليه الجمهور، ومن ثم، ليكون الجمهور ــ بفضاء المسرح الخارجي ــ جزءاً من الديكور الذي يمكن ان نقول عنه انه ينتمي الى “المسرح الفقير” لكنه في حقيقته ينتمي الى مسرح الحركة الذي جاهد حازم كمال الدين منذ خمس وعشرين سنة ان يبنيه حسب رؤيته هو.
الممثلون
بعيداً عن الاسماء الكبيرة، والاسماء التي اخذت حقوقها كاملة او اكثر من حقوقها لانها دخلت ضمن مؤسسات النظام السابق، حاول المخرج ان ينهض باسماء جديدة، لأنها ــ حسب رأيه ــ لم تأخذ فرصتها كما أخذتها بقية الاسماء. فلم نشاهد ــ سابقاً ــ علاوي حسين وحميد عباس وباسم الطيب وطه المشهداني، وقد سلطت عليهم الاضواء ــ اضافة الى عهود ابراهيم ــ كما سلطت على غيرهم. وبالفعل، وجدنا ان هؤلاء الممثلين بارعون بشكل ملفت للنظر، فمسرح الحركة، واستنطاق جسد الممثل، جديد على ممثلينا الشباب، ولكن اربعة اشهر من التدريب وممارسة الالعاب الرياضية جعل من اجسادهم ذات مرونة كبيرة ساعدت المخرج في تشكيل فضاء العرض المسرحي بطريقة رائعة، فحركة عهود ابراهيم وهي تتلاعب باقدام الجمهور وتنام تحت الأرائك، وتحول باسم الطيب بحركات مذهلة الى عنكبوت ــ بل انه العنكبوت بعينه، والطريقة التي استطاع بها علاوي حسين ان يسيطر على عضلاته وهو يؤدي دور شيخ الجان جعلتني افكر بانه مربوط بحبال، فكيف يستطيع ممثل ان يبقى طوال ساعة كاملة وهو رافع يديه من دون ان يحرك اصابعه!! والدور لواحد الذي مثل بشخصيتين “سفيان” وانقلابه بين حميد عباس وطه المشهداني، واداء كل ممثل منهما بشكل يختلف تماماً عن الاخر، الاول استغل حركة جسده والثاني تماهى في صوته حتى كون ــ بالفعل ــ شخصية سفيان الذي اراد ان يتزوج بالجنية.
المخرج
منذ ان انجز زرقة الرماد، وظلال في الرماد، وصور في العاصفة، ودماغ في عجيزة وسلالم الصمت باللغة البلجيكية من خلال فرقته “صحراء 93" بات لحازم كمال الدين هم واحد: هو التجريب هذا التجريب الذي هدم من خلاله جميع الاسس التي تحاول تجميد حركية المسرح، وحركية الممثل امام الفضاء المسرحي، مما دفعه الى بناء مسرح خاص به، مسرح يعرف بـ”مسرح حازم كمال الدين”.
من هنا، نرى ان مسرحية “ساعات الصفر” مسرحية مخرج وليست مسرحية مكتوبة كل ممثل فيها له حوار خاص به، يختل النص ان خرج عنه.. في حين نرى ان “ساعات الصفر” كتبت بطريقة النص الذي يتكامل مع حركة الممثل، واستطيع ان اقول ان هذا النص كتب على خشبة المسرح كما اراد له المخرج.
ولم يكن هذا المخرج ــ في حال عرض المسرحية ــ خارج الخشبة، بل كان ضمن الفضاء المفتوح للعرض، حيث دخل بصوته وعصاته منذ اول جملة في المسرحية، وكان صدى لانتقال النص من سفرٍ الى اخر، حتى يقول في نهاية العرض! قالت عليك ان تعرف الحقيقة قبل فوات الاوان.. كيف تجرأت على ممارسة طقوس الاستحضار في النهار.
والمتتبع لرحلة حازم كمال الدين منذ خروجه من العراق وحتى عودته بعد سقوط النظام السابق، يرى ان هذه المسرحية هي سرد لوقائع يومية مر بها حازم كمال الدين حتى خرج من قمقم شيخ الجان وعودته الى ارضه.
نظرة اخيرة
كما قلت كان العرض المسرحي قصيدة نثر مكتملة ممزوجة بكلمات المخرج وحركات الممثلين. وبعيداً عن المباشرة والحوارات الجافة اراد المخرج من خلال هذه المسرحية ان يلخص تأريخ العراق منذ السبعينات وحتى خروج “سفيان” من باطن الارض والانقضاض على شيخ الجان الذي كتم بانفاسه وانفاس ابنته واتباعه على هذا المهاجر في بطون الارض، حتى اصبح كالدودة التي تداس باقدامهم ما ان اخرج رأسه وأراد التنفس.
هكذا يكتب تأريخ العراق.. شكراً لهذا الجهد الرائع من المخرج والممثلين الذين استطاعوا ان يبدأوا من جديد بعد هذا المحو الطويل.. ولنبدأ الان تحقيق ذواتنا.
انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص
ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف
التعليقات