لاشكّ أنّ هذه المرحلة، مرحلة ما بعدَ رحيل الرئيس ياسر عرفات، تشكل حدّاً فاصلاً بين حقبتين سياسيتين من تاريخ الشعب الفلسطيني.
الحقبة الأولى، وهي الحقبة التي عشناها جميعاً تحت راية القائد الرمز أبو عمّار، وهي حقبة تراءى لنا فيها الحلم الفلسطيني، وغدا قريباً وملموساً، حقبة تبلورت فيها الكيانيّة الفلسطينية، وترسخت فيها ثوابت الشعب الفلسطيني، التي شكلت الإجماع الوطني، حيثُ كانت الرمزيّة التي يمتلكها أبو عمّار هي الضامن لها.
الحقبة الجديدة التي لم تأتِ بعد، هي حقبة ما بعدَ رحيل الخالد ياسر عرفات. ويبدو أنّها حقبة تتسم بظهور معطيات جديدة، ونشوء عوامل طارئة. ولاشكّ أنّها تنطوي على تغييرات بنيوية سوف تأتي على الوضع التنظيمي الفلسطيني بشكلٍ عام، من أجل تعبئة الفراغ الذي خلّفه رحيل عرفات.
لكن هذه الفترة الواقعة بين الحقبيتين، التي نسميها مرحلة انتقاليّة، هي مرحلة ذات حساسية لأنّ الأضواء مسلطة عليها، وتراقبها عيون الفلسطينيين عن كثب، ذلك لمعرفة قدرات القوى الفاعلة فيها، ومعرفة أداءها وأدواتها والإحاطة بالطرق والوسائل التي توصلها الى الحقبة الجديدة، حقبة ما بعد الراحل عرفات. الذي يبدو لنا ويراه الجميع انّ القوى الفاعلة، في هذه المرحلة، التي تمتلك القرار الفلسطيني، والتي تخطو على جسر الإنتقال الى الحقبة الجديدة، هي اللجنة المركزية لحركة فتح. وقد أثبت الأيام القليلة الماضية، التي تلت رحيل عرفات، أنّ اللجنة المركزية لحركة فتح قد تصدت للمهام الطارئة، وأدارت أزمة توزيع المسؤوليات بانضباطيّة تنظيميّة عالية، وأسرعت وبادرت باتخاذ إجراءات تنظيمية وإدارية في الساحة الفلسطينية، وإجراءات تعبويّة داخل حركة فتح، في الوقت الذي وقفت فيه الفصائل الفلسطينيّة الأخرى تنتظرُ ما سوف تسفر عنهُ قرارات قيادة فتح!! وقد أثبتت اللجنة المركزيّة لحركة فتح أنّها في هذه المرحلة الإنتقالية الحساسة هي الهيئة القيادية التي تمتلك موقع الريادة في اتخاذ القرارات المصيرية للشعب الفلسطيني. في خطواتها الأولى، استحوزت قيادة فتح على المواقع الرئيسية في الوضع التنظيمي الفلسطيني " اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، رئاسة السلطة الفلسطينية مؤقتاً، ورئاسة المجلس الوطني الفلسطيني " وبهذه الخطوة باتت اللجنة المركزية لحركة فتح تمتلك القرار الفلسطيني، ثمّ باشرت في حوارات داخلية ومصالحات تستهدف من ورائها ترتيب البيت الفتحاوي، بالتزامن مع حوارات جماعية وثنائية مع كلّ الفصائل الفلسطينية لضمان انتقال السلطة الفلسطينية بشكل ديمقراطي وتضامني ، وعلى أساس من التفاهم والحوار لتحقيق حدّ أدنى من التفاهم الوطني الفلسطيني.
ولا شكّ أنّ الإنتقال السلس للسلطات الفلسطينية، وتعبئة الفراغات الشاغرة التي كان يملؤها الرئيس الراحل ياسر عرفات، قد أدهش المجتمع الدولي ونال من إعجاب المراقبين، فقد أعلن تيري رود لارسون، في الخامس عشر من الشهر الجاري، " أن القيادة الفلسطينية قد نجحت في منع السلطة الفلسطينية من الإنهيارات الداخلية.. ".
إلاّ أنّ المرحلة الإنتقالية التي بدت لنا سلسة وهادئة، مازالت محفوفة بالمخاطر، لأنّ قواها المؤثرة، التي تخطو الى الحقبة السياسية الجديدة، تواجه استحقاقات سياسيّة وتنظيميّة وقانونية، إن لجهة الوضع الداخلي الفلسطيني، او لجهة التعاطي مع شروط الطرف المعادي "الإسرائيلي " أو لجهة التعامل مع المعطيات الدولية الجديدة.
وتأتي الإستحقاقات الداخلية الفلسطينية في مقدمة الإستحقاقات المترتبة، إذ باتجاهها يتقرر مَن يتحمل مسؤولية تأمين الشروط الضرورية لصيانة وحدة البنية التنظيميّة والسياسيّة للشعب الفلسطيني، بكلّ ما تحتويه البنية التنظيميّة من مكونات ( فصائل ومؤسسات وقوى فلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وفصائل وطنية واسلامية تكونت خارج هياكل منظمة التحرير الفلسطينية وهي بالتالي خارج دائرة الإلتزام ).
وانّ أهم ما يستلزم في صيانة الوحدة الوطنية الفلسطينية إستيفاء شروط الإصلاح الديمقراطي والسياسي، بما يشمل الأطر القيادية والمؤسسات، وبما يضمن شمول تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية للشعب الفلسطيني في كلّ أماكن تواجده، كما انّ حماية الوحدة الوطنية الفلسطينية لا يتمّ إلاّ بالإتفاق والتوافق على برنامج سياسي للحقبة الجديدة القادمة قوامهُ الأهداف الثابتة للشعب الفلسطيني، التي صانها الرئيس الراحل ياسر عرفات، واستشهد من أجل حمايتها، والتي طالما رددها " رحيل الإحتلال عن الأراضي لفلسطينية، وإزالة المستوطنات، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ؛ ذات السيادة، وعاصمتها القدس، وضمان حقّ اللاجئين الفلسطينيين بالعودة وفقاً لقرارات الشرعيّة الدوليّة " .
بلا أدنى شكّ، انّ التزام اللجنة المركزية لحركة فتح بتحقيق الشروط الفلسطينية السابقة الذكر من شأنه أن ينزع فتيل الضغط الكامن في المجتمع الفلسطيني، وما الرصاصات التي أطلقت في بيت العزاء بغزّة الاّ إحدى مظاهرها. وعلى هذا فإنّ اللجنة المركزيّة لحركة فتح، وهي تقود عملية الإنتقال للحقبة الياسية الجديدة بات لزام عليها تحقيق حواراً وطنياً جاداً مع الأطراف والقوى الفلسطينية يؤمن مستلزمات جمع الشمل الفلسطيني على أساس من الديمقراطية والتعددية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى أساس إشاعة الحياة الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني، وفصل السلطات الثلاثة ( التشريعية، والقضائية، والتنفيذية ) في السلطة الفلسطينية.
انّ تأمين الشروط الفلسطينية، الوطنية والديمقراطيّة، من شأنه أن يوسع خندق الإستعداد الفلسطيني لمجابهة التحديات الإسرائيلية المحتملة، والردّ على أيّة خطوات أحاديّة الجانب، ومجابهة الإشتراطات الإسرائيلية، والمعطيات الدوليّة المتوقعة.
كاتب فلسطيني مقيم بالسويد.
















التعليقات