في الذكرى الأولى لسقوط بشار الأسد، خرجت إلى العلن تسريبات لا يمكن توصيفها بمادة فضائحية بحتة أو أرشيف تأخر نشره. بالمقابل، هذه التسجيلات ليست تفصيلاً إضافياً في تاريخ النظام السوري، بل وثيقة أخلاقية وسياسية كاملة، تكشف الجوهر الحقيقي للرجل الذي حكم سوريا بالحديد والنار، وتعرّي في الوقت نفسه المحور الذي احتمى به وأُسندت إليه استدامته، كما وتفضح طبيعته.

الأكثر فجاجة في هذه التسريبات ليس فقط ازدراء الأسد لشعبه وبلده وجيشه، وهذا أمر اعتاده السوريون واللبنانيون منذ زمن، بل سخريته العارية من أقرب حلفائه: حزب الله. الرجل الذي ادّعى عبر سنوات أنه يقود محور المقاومة، يظهر اليوم وهو يتناول هذا المحور بانتقاص واستخفاف، أي منطق الاحتقار نفسه الذي أهان به السوريين وضحاياهم وكل الذين زُجّوا في معركة صموده الشخصي. ظهرت مستشارته لونا الشبل وهي تسخر من الحزب الذي كان يتباهى بحرب الشوارع، وعلّقت باستهزاء أن أصواتهم قد اختفت، فلم يبدِ بدوره الأسد أي اعتراض دفاعاً أو إطراء كلامياً. على العكس، بات مندمجاً في السخرية والتهكّم، ليؤكد الحقيقة الناصعة والمؤكدة أن هذا التحالف لم يكن يوماً شراكة ندّية، بل علاقة استخدام مؤقت تنتهي بالإهمال.

الحكاية هنا ليست تهكماً شخصياً عابراً. يتكلم الأسد عن حزب الله من موقع من يراه أداة وظيفية لا أكثر؛ إذ تحول، في هذه التسجيلات، آلاف المقاتلين الذين دخلوا سوريا تحت راية حماية المقامات المقدسة أو بهدف الدفاع عن المقاومة إلى دمى عابرة في قصص السخرية الباردة، وإلى عبء صوتي اندثر، وذكرى لا تستحق حتى تعاطفاً شكلياً. بالنسبة إلى الأسد، لم يكن عناصر حزب الله شهداء عقيدة، بل وقوداً رخيصاً لمعركة تثبيت سلطته.

وإذا كان الأسد قد سخر من حزب الله خلف الأبواب المغلقة، فإن حسن نصرالله مارس السخرية ذاتها في العلن ولكن بصيغة مختلفة: سخرية الخطابات الرنانة التي تخدر العقول ولا توقظ الأذهان، وتجمّل الموت ولا تعلّله. لطالما وقف نصرالله يخطب عن الانتصارات فيما كان يرسل شباب الجنوب والبقاع والضاحية إلى أتون محرقة لا تخص لبنان ولا تخدم قضيته، بل ليقاتلوا من أجل بقاء مجرم لا يجيد سوى فن النجاة فوق الركام. شباب وُعدوا بالجنة فإذا بهم يُدفنون في تراب الشام دفاعاً عن قصر في دمشق؛ جثثهم تحولت إلى أرقام ساكنة في سجلات الحزب، فيما كان قائدهم يحصي الصور البلاغية لا القتلى، ويبيع الوهم باسم المقاومة التي لم تعد تقاوم سوى الحقيقة نفسها.

وهنا تحديداً تتجلى المأساة اللبنانية. حزب الله لم يقاتل في سوريا دفاعاً عن لبنان، ولا حمايةً لمقام ديني، ولا في سياق مواجهة استراتيجية مع إسرائيل كما زعم. لقد قاتل ليثبت لنظام قمعي أنه الحارس الأوفى والأكثر إخلاصاً لعرشه، فكانت النتيجة: مئات القيادات الميدانية قُتلوا، وآلاف الشباب عادوا إلى قراهم نعوشاً مغطاة برايات صفراء، فيما بقيت البيئة الحاضنة تعيش على خطاب التمجيد والشعارات، إذ حُجبت عنها الحقيقة القاسية التي باتت اليوم موثقة بصوت الحليف نفسه. لقد قاتل في سوريا كما قتل رفيق الحريري خدمة لسيد في طهران رأى في الأسد دمية يصلح الاستثمار بها في إطار مشروعه التوسعي الشعوبي.

إنَّ هذه البيئة التي دفعت أثماناً باهظة باسم الكرامة والمقاومة، مطالبة اليوم بمواجهة الحقيقة المرة: لم يمت أبناؤها دفاعاً عن قضية وطنية، بل قُدّموا قرابين لتحالف قائم على المصلحة والاحتقار، لا على الشرف والوفاء. لم يرَ الأسد في هذا المحور إلا تجمع أدوات قابلة للحرق والتدوير، وكل من راهن عليه كان يراهن، بوعي أو بدون إدراك، على مشروع يتخلى عن حلفائه رمياً بالنار متى انتهت صلاحيتهم.

في الذكرى الأولى لسقوطه، لسنا بحاجة إلى إعادة إحصاء جرائمه ولا تعداد المقابر الجماعية الناجمة عن ارتكاباته. التسجيلات وحدها كافية: صوت رجل يسخر من بلد دمّره، وشعب قتله، وحلفاء استخدمهم حتى آخر مقاتل ثم تبرأ منهم بضحكة باردة. هكذا يظهر محور المقاومة من الداخل: محور وضاعة سياسية تقوده حقارة أخلاقية، مزيّن بشعارات جوفاء تخفي حقيقة واحدة، الجميع فيه يُستخدم، والجميع قابل للرمي حين تنتهي الحاجة إليه.