لو ظهر جيش (المهدي) والعراق بين قواطع الذئاب الغابِشة؟

هل لدولة أو سلطة على وجه الأرض، من الصين وسويسرا حتى جيبوتي ودارفور، غير المواجهة بالقوة إذا حملت جماعة السلاح الناري ضدها، وأخذت مواطنيها وشرطتها أسارى، وأعلنت انفصال النواحي والمحلات، وبدلت أسماء مدنها، ووضعت رأي عقلائها وتوسلاتهم وراء ظهرها. فلماذا يطلب من سلطة العراق الخنوع أمام مَنْ يفتي بسفك دماء أعضائها، ويشهر بوجهها السلاح الثقيل والخفيف، ويأسر شرطتها، ويشتمها غدوة وعشية؟ جماعة ليس لديها ورقة عمل في المنظور القريب ولا البعيد، ولا معرفة ودراية باقتصاد وإدارة دولة، ناهيك عن تخبطها في إدارة نفسها.
لو عدنا بالزمن إلى ما قبل التاسع من أبريل 2003، وافترضنا ظهور جيش (المهدي) فماذا سيُفعل به؟ هل سيُجلس معه على طاولة المفاوضات، وتبعث ذئاب البعث الغابِشة إليه وسطاء من معممين وأفندية؟ هل توعده وإن رمى السلاح بالبراءة من قتل أحد مؤيديها؟ هل ستداري أرواح النجفيين، الذين لاناقة لهم ولاجمل بما يحدث، وتصبر كل الصبر تقديراً للمدينة وحضرتها العلوية؟ هل يذهب إليه برزان التكريتي، رئيس المخابرات أو الأمن القومي، للتفاوض ويتوسله بعدم إراقة الدماء؟ أم ستزلزل النجف حجرة حجرة، ولم يبق من الحضرة العلوية سوى الأعمدة؟ يحدث ذلك ولا أحد يدري، فلا فضائيات ولا مكاتب صحفية ولا يحزنون. فهل تمكنت الفضائيات من تصوير طوابير المقتولين والمدفونين في المقابر الجماعية، ومسح مدينة الدجيل مسحاً من على وجه الأرض، ووثقت مشاهد الرعب اليومية؟
أقدم هذه الأسئلة إلى لقالق الكنائس، مَنْ لا دين ولا ذمة لهم، الذين شهدوا حرق العتبات المقدسة في آذار 1991، وتسوية دائرها بالأرض وقالوا: سلاماً. الكل الآن حريص على الضريح العلوي والحائر الحسيني، وكأن حسين كامل لم يستبح كربلاء، وكأن البعث لم يحبس أنفاس النجف طوال خمسة وثلاثين سنةً، ولم يقتل علماءها، ولم يستبح منابر دروسهم. فالبعثيون العابثون لم يفسروا صمت واعتزال آية الله علي السيستاني إلا بسوء النية، والنشاط السري أو أقلها عدم الرضى. فرغم إعتكافه للعلم والدرّس، وصمته المطبق تعرض لمحاولة إغتيال (1996) عندما هاجمه وولده مسلحون قتلوا أحد حراسه من المتطوعين وجرحوا آخر، وجرت محاولة إغتيال الشيخ سالم الأسدي أمين مالية مرجعيته، وهو يوزع معاشات طلبة العلم، فأسفرت المحاولة عن إصابة الأسدي بكتفه وبطنه، وقتل مساعده السيد جابر الحلو. وقبلها أُختطف السيد أبو القاسم الخوئي أمام أعين أهل الملل والنحل كافة، ولم يلقلق أحد بكلمة، ولم يظهر ويحتج حينها جيش مهدي ولا مرتدو أكفان. لكن أيام ذهب أربعون مسلحاً من جيش المهدي إلى بيت خازن الحضرة العلوية الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وقالوا له: إذا لم تسلمنا مفاتيح الحضرة سنقتلك أمام زوجتك!
جرت العادة منذ جرأة جعفر المتوكل ثم السلفيين الإخوان من الجزيرة ثم البعثيين على مراقد الأئمة أن يحق للسلطان وحامل السلاح ما لا يحق لغيره، وحكومة العراق الحالية ليس لها سلطان في نظر العابثين، بدليل أن الناس تفزع من جيش المهدي، ويساق بالعصا مَنْ يشتكي من مقتدى الصدر من أمام عتبة داره، بينما لا تتحرج الناس في نقد السلطة وشتمها أمام شرطتها وقوات أمنها، ويتم يومياً شتم رئيسها ورئيس وزرائها ووزرائها، ويختطف أبناء مسؤوليها ليعلنوا إنضمامهم إلى جيش المهدي أو عصابات الزرقاوي وبقية البعثيين، مثلما حصل مع محافظ الرمادي ونائب محافظ النجف.
مَنْ هو الراغب في استقرار العراق، والتوصل إلى حل لتخليص العراق من أي جيش أجنبي؟ جماعة لها محاكمها وسجونها مستخدمة التاريخ البعثي بكل قسوته أم سلطة تُشتم وتُنتقد على لسان الطفل والشيخ، وتعمل ما في وسعها وما بقي لها من شهور للإستغناء عن المحتل؟ يُستكثر على هذه السلطة إغلاق مكتب شاشة تذيع فتاوى القتل، وتدرب على قطع الرؤوس، يمتلكها شيخ لا أصفه إلا بلقلق الكنيسة، لا دين له ولا معتقد فهو مع إسرائيل ومع ابن لادن ومع القوميين العرب، يستضيف القرضاوي وشامير، يستقبل الجيوش الأمريكية في عقر داره ويزور صدام، ويحتضن زوجته وبقية شره.
قديماً هدم جعفر المتوكل ضريح الحسين بن علي، ونبش تربته، وزرعها حتى يعمي أثره إلى الأبد، ولم يبد إعتراض من أحد. جاء في أحداث السنة 236هـ: "أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وهدم ما حوله من المنازل، ومنع الناس من إتيانه، وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث، وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة، ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص ويقول: قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين، يعني علياً، والمتوكل يشرب ويضحك". ومثلما ينسب كل الشر إلى الغير، نسب المؤرخون فعلة المتوكل إلى يهودي يعمل في القصر، وقبل سنوات نسب إيذاء ضريح الحسين من قبل البعثيين إلى الإيزيديين. وقبلها ورد في رواية مقتل الإمام موسى الكاظم: إن الرشيد أمر السندي بن شاهك في قتله "فلفه على بساط وقعد الفراشون النصارى على وجهه". إنها براءة الذات من تخطي المقدسات، وتلقين الأجيال بقسوة الآخر وخلو قلبه من الرحمة، وهو أيضاً نوع من تهويل الحدث، رغم أنه هائل، أن يُكلف غير المسلمين بقتل إمام، مثل موسى بن جعفر. فمَنْ يريد تهويل خيانة أو إساءة شخص آخر يصفه بالنصاري أو اليهودي أو الصابئي أو السيكي، هكذا تأصلت فينا العوائد السيئة. واليوم يبرأ المعتصمون في الضريح العلوي بأسلحتهم ومتفجراتهم، ويتهم بها قوات الشرطة العراقية والقوات الأمريكية، المشهد يتكرر حرفياً.
المتوكل كما تعلمون خليفة المسلمين لا زال مفخرة عند لقالق الكنائس، لأنه طبق ما عُرف بالشروط العمرية، التي لا ندري أين نضعها لو أردنا مفاخرة الأمم في تأريخنا الزاخر بإيذاء الإنسان حياً وميتاً، فآية لا إكراه في الدين نسخت بعد نزولها، وتحولت من تراثنا رغبة في القتل والتدمير. وقبلها أُخفي قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نحو قرن ونصف القرن أو يزيد على أغلب الروايات، فهو دفن السنة أربعين بينما برز القبر في خلافة الرشيد، وقيل في العهد البويهي على يد الأمير أبي الهيجاء. ألم يكن هذا الإخفاء الطويل خشية النبش على يد القريب الأموي أمير المؤمنين أيضاً؟
بعد تاريخ طويل من الدماء والغزوات والفتوحات، آخرها الحرب على إيران وغزو الكويت، لماذا لا تعطى الفرصة للعراقيون إطلاق حمامة نوح مع غصن أخضر لتأتي لهم بخبر إنحسار الطوفان؟ لماذا يسابقهم لقالق الكنائس بإطلاق الغراب ليحمل بشارته بالجيفة؟ لقالق تتكلم مختلف اللغات، لا تمنعهم العجمة ولا العروبة من الإيذاء، فالتفجيرات لا تحتاج إلى فصاحة لسان بقدر ما تحتاج إلى ضمائر ميتة تتوضأ بالدماء، وترقص فوق الأشلاء رقصة خليفتنا أبي العباس السفاح على بساط طعام مد فوق رؤوس لم يقطع أنينها شهيته.
ما أن حاول العراقيون بذر بذرة الديمقراطية حتى ظهر جيش للمهدي، يخجل ناظر المهدي من ممارسات جنوده، فأدخلوا اليأس في نفوس المنتظرين وهم يغيرون على الدكاكين والمحال، يدخلون المقاهي مثلهم مثل الجيش الشعبي وفدائي صدام، يشربون ويأكلون ولا يدفعون، رأيناهم يرقصون بزخاً، ولسان الحال يقول: إذا كان جيش المهدي كما نرى فليأس أولى وأجل.
ما أن أراد العراقيون بذر بذرة للحرية حتى خرجت هيئة علماء المسلمين متسربلة بتاريخ الإمامين أبي حنيفة والشافعي، تدافع عن البعث وكأنه لم يقتل أجل أتباع الإمامين الشيخ عبد الجبار الأعظمي وأخيه في عملية غدر لقتل الملا مصطفى البارزاني، ثم قتل الشيخ عبد العزيز البدري. هكذا كان سيفعل البعث مع زعامة جيش المهدي، هذا إذا أجل قليلاً إجتياح النجف وتهديمها حجر حجرة. الكل سمع بذلك الحادث، في صيف 1973، يوم بعث الثنائي صدام وكزار وفداً من علماء المسلمين شيعة وسنَّة إلى جبل عمران، فخخت ثيابهم دون أن يشعروا، فما أن أتخذوا مقاعدهم في مجلس الملا حتى تحولوا إلى أشلاء.
هنا أُذكر هيئة علماء المسلمين بما فيها ضاريها وكبيسيها وواعظها ببيانها في 16 تموز 2003، وحميتها من رؤية عمامتي محمد بحر العلوم وعبد العزيز الحكيم، ووجهاء شيعة آخرين في مجلس الحكم الإنتقالي وإبراهيم الجعفري رئيساً، كي تراجع مواقفها، وأن يرى الآخرون تشجيعها لجيش المهدي ما هو إلا تشجيع الفوضى وإمعان في إراقة الدماء، فهم يعلمون علم اليقين أن جيش المهدي ليس لديه العدة ولا العدد في هذه الحرب، وما تأييدهم إلا السعادة بإنتحار الآلاف من الشباب.
جاء في بيان هيئة العلماء: "إن هيئة علماء المسلمين في العراق (وهذه مخالفة لغوية للقرآن لأن البلدان والمدن لا تجر إلا بالباء مثلما ورد في آياته ببكة وببابل) تدارست موضوع ما يسمى بمجلس الحكم الإنتقالي فرأت– وبصرف النظر عن صلاحيات المجلس المذكور والجهة المشكلة له ومن تشكل منهم- أنه قسم الشعب العراقي تقسيماً طائفياً، وأعطى طائفة معينة أغلبية مطلقة على جميع مكونات الشعب العراقي وفئاته، دون استفتاء أو إحصاء دقيق...". أين كانت هيئة علماء المسلمين من حكم طائفة واحدة لعشرات القرون؟ وأين كانت من الظلم الذي حل بالطائفة الأخرى، وفي مكونات الشعب العراقي كافة، حتى تلحق فقرتها السابقة بالفقرة التالية: "كما رأت الهيئة أن المجلس قد أفتتح أعماله بأسوء (هكذا وردت) قرار ألا وهو جعل يوم سقوط واحتلال العراق يوم عيد وطني، وقد تحدى بذلك القرار المشين مشاعر الشعب العراقي الوطنية بجعل يوم الاحتلال لبلدهم يوم عيد لا يوم حزن". نسأل هيئة العلماء أي عراقي، باستثناء المستفيدين من النظام السابق، حزن في ذلك اليوم، ولم يطرب فرحاً، أليس يوم موت الحجاج بن يوسف الثقفي هو عرس العراق على حد رواية يونس النحوي؟
لقالق الكنائس من صحفيين وإعلاميين وفاقدي مراكز وأموال وحدهم يرون في جيش المهدي جيش الديمقراطية الموعودة، ويرون في هيئة علماء المسلمين نخبة تحرير تتخذ من الفلوجة قيادة للفتوحات. ومثلما لا أرى في جيش المهدي صلة بالمهدي المنتظر، وصاحب الضريح العلوي لا أرى في هيئة علماء المسلمين صلة بأبي حنيفة ومحمد بن إدريس الشافعي، اعتقاداً مني لو ظهر الإمام أبو حنيفة اليوم وأفتى بين ظهراني الفلوجة بجواز تبؤ النساء منصب القضاء، أو أوصى الهيئة بمعاشرة أهل الأديان الأخرى بمعاشرتهم، كذلك لو عاد الإمام الشافعي وأوصى أن تصلي على جنازته امرأة لقتلا بحد الردة.
حتى لا يفهم عنوان المقالة ولازمتها "لقالق الكنائس" إساءة إلى دين معين، فهو لا يميز بين برج ناقوس أو منارة مسجد، أتبسط بالقول: هناك كنية أو مَثل سائر بين العراقيين: "مثل لكَلك (بالكاف الفارسية) الكنيسة ما ينعرف دينه شنو". يضرب لمَنْ يجمع بين المتناقضات في أعماله، وحسب الأديب المعروف محمد صادق زلزلة في "قصة الأمثال العامية" أن لقلقاً أتخذ من برج ناقوس كنيسة من كنائس بغداد عشاً له، فلاقى خادم الكنيسة عند ضرب الناقوس المتاعب من أوساخه، ففكر أن يقبض عليه، عن طريق إناء من الخمر وقطعة من لحم البعير، وفي اليوم الثاني أتى الخادم فوجد القلق مطروحاً بعد شرب الخمر وأكل اللحم، فقال عندها: "آني أريد أن أسألك سؤال واحد: بس كَولي: إنت دينك شنو؟ إذا أنت مسلم إشلون تشرب الخمر، وإذا أنت نصراني إشلون تظرك (تذرق) على الناقوس، وإذا أنت يهودي إشلون تأكل لحم البعير". ومعروف عن اليهود أنهم يتشددون في تحريم لحم الخنزير والبعير، وكذلك لحم اللقلق، لأنه من الطيور النجسة حسب سفر تثنية الإشتراع. ونحن لاندري أي دين وأي مذهب وأي معتقد يتبع المحرضرون والراقصون لخراب العراق، وماذا يريدون؟ إنها اللقلقة التي نحتها العراقيون من صوت أبي خديج القلق، حسب كنايتهم له، وهي حبسة الكلام، قال عبود الكرخي:
لا تلقلق إلك أصلح لأن ما اعتقد تنجح
طول عمرك إذا تنبح ما يذبولك ثريد

[email protected]