-1-

فشلت مؤخراً المباحثات التي جرت بين مقتدى الصدر والشرعية الحكومية العراقية، واضطر المؤتمر الوطني العراقي ارسال وفد جديد للتباحث مع الصدر. وهذه ليست أول مرة تفشل فيها المحادثات من أجل اقتلاع دُمّل مقتدى الصدر المتقيء في الجسم العراقي. فقد سبق أن انهارات مثل هذه المحادثات عدة مرات، وعاد القتال بين الشرعية العراقية والدُمّل المتمرد المتقيء المتمثل بجيش المهدي، ومن يدعمونه من الخارج بالمال والسلاح.

فلماذا انهارت هذه المحادثات ولم تفلح المساعي السلمية لازالة هذا الدُمّل المتقيء بالسلام والسياسة، وكان لا بُدَّ لازالته من جراحة عسكرية عسيرة. وهذا درس على السلطة الشرعية العراقية أن تعيه تماماً، ولا تكرره مع الدمامل العراقية الأخرى القومية والدينية المتقيئة الأخرى في الجسم العراقي المتعافي بحمد الله؟

-2-

هناك أسباب كثيرة لرفض الصدر المشاركة السياسية السلمية في المؤتمر الوطني العراقي الذي يحضره الآن 1300 عضواً من كافة أطياف السياسة العراقية، كما أن هناك أسباباً لانهيار المحادثات بين الصدر وبين الشرعية العراقية، لانهاء حالة القيء التي يفرزها هذا الدُمّل في الجسم العراقي كل يوم منها:

1- إننا لا نعرف مقتدى الصدر غاضب من ماذا ؟

هل أنه غاضب لانهيار حكم صدام الذي قتل أقاربه ونكّل أشنع تنكيل بطائفته، ومحا العمامة السوداء من العراق. بل ومزق هذه العمامة، وأحالها إلى مماسح لاعتاب القصور التي بناها، وأعلاماُ للسجون التي بناها؟

2- إننا لا نعرف ماذا يريد، ولماذا يُشهر مقتدى الصدر السلاح في وجه السلطة الوطنية الشرعية؟

يقول الإعلام العربي الذي يُطلق عليه (الزعيم الشاب) وأحياناً (الزعيم المبروك) "الذي تحارب الملائكة الى جانبه" كما قال وسام سعادة في جريدة "السفير" السورية التي تصدر من بيروت (16/8/2004)

إن الصدر يريد أن تخرج قوات التحالف من العراق. والكل يعلم علم اليقين بأن قوات التحالف لن تخرج من العراق الآن، حتى ولو اجتمعت قوى الأرض كلها لكي تخرجها ما خرجت، قبل أن يستكمل العراق علاجه السياسي، وتُرد اليه عافيته السياسية، بعد الجراحة العسكرية والسياسية التي تمت له فجر التاسع من نيسان 2003 ، واستأصلت داء السرطان السياسي الديكتاتوري القاتل الذي كان ينخر في الجسم العراقي. ومقتدى الصدر الزعيم الشاب المبروك، قائد جيش الملائكة، المتورد الخدين، الواسع العينين، المنتفخ الأوداج، والسمين المنكبين، هو أول من يعلم هذه الحقيقة المرة. ولكن يبدو أن بريق الذهب الايراني قد عمى بصره عن أن يرى هذه الحقيقة. وجاء مرض السيستاني لكي يوهم الصدر بأن مقعد الزعامة الشيعية الدينية في العراق ينتظره، فاهتبل، وانتفخ أكثر مما كان عليه في الماضي، وراح يحارب طواحين الهواء بدون خطاب سياسي، أو ديني، أو اجتماعي عقلاني وواقعي.

3- أن مقتدى الصدر يتلقى أموالاً طائلة وأسلحة كثيرة من ايران ومن جيران العراق الآخرين الذين لا يريدون للفيلم العراق أن يتكرر في بلادهم. وأن "جيش المهدي الملائكي" كما وصفه وسام سعادة، عبارة عن شباب فاشل في حياته العملية والدراسية، وعاطل عن العمل ومتشرد في الشوارع. وهذا هو حاله أيام عهد الديكتاتورية العراقية المنهارة. وقد جاء تحرير العراق في التاسع من نيسان 2003 فرصة ذهبية لمقتدى الصدر ولـ "جيش المهدي الملائكي" لكي يرتزقوا ويملأوا جيوبهم بالذهب الإيراني الذي أصبح غزيراً هذه الأيام نتيجة لارتفاع أسعار النفط، والذي تنفق منه ايران الملالي على الارهاب الخارجي، بينما شعبها يتضور جوعاً، ويعيش أكثر من خمسين بالمائة من الشعب الإيراني تحت خط الفقر الشرق أوسطي. ولذا، فمقتدى لا يريد للسلام والأمن أن يعمَّان في جنوب العراق حتى لا تنقطع العطايا والهبات الايرانية، وحيث لا نصيب سياسياً أو مالياً لمقتدى الصدر في الجمهورية العراقية الجديدة، والتي لا يصلح فيها الصدر إلا أن يكون مؤذناً في أحد مساجدها، أو سادناً في أحد عتباتها الدينية.

4- ما زال الصدر يعتقد – كما يعتقد معظم رجال المؤسسات الدينية في العالم العربي – بأن رجال الدين هم المهيأون للعب الدور السياسي الرئيسي في العالم العربي، بعد الفشل الذريع الذي لحق بالمؤسسة القومية ورجالها، وانهيار آمالها وأحلامها، وهزيمة فرسانها. ومقتدى الصدر -بفضل الإعلام العربي - قد استحلى واستطاب الزعامة السياسية الفارغة المحتوى إلا من شعارات دينية كانت مرفوعة أيام "معركة صفين" والخلاف الناشب بين علي بن أبي طالب وبين معاوية بن أبي سفيان، ولا علاقة لها بالسياسة المعاصرة من قريب أو من بعيد. والصدر يتخيل نفسه الآن علياً بن أبي طالب، ويتمثل شخصيته. ويرى في إياد علاوي وحكومته الشرعية الوطنية معاوية بن أبي سفيان الذي جاء واغتصب المُلك من أصحابه الشرعيين الصدريين الشيعة. ولذا، فإن الصدر لا يقبل التحكيم والمفاوضات، ولا يركن إلى وساطة أحد لاحلال السلام والوئام بينه وبين الحكومة الوطنية الشرعية، وهو المقروص من التحكيم الذي جرى بين علي ومعاوية، وفاز به عمرو بن العاص السياسي المحنك على أبي موسى الأشعري الشيخ الدرويش. ومن هنا، فإن الصدر لا يرى غير الدم لغة للتفاهم مع السلطة العراقية الوطنية الشرعية. ولكن السلطة العراقية الوطنية الشرعية ذات القلب الرقيق جداً مع أعدائها، وذات القيم السياسية الديمقراطية الرفيعة التي يجب أن تتخلى عنها ولو إلى حين مع المتربصين بها، لا تملك الآن عصا غليظة كعصا صدام، بقدر ما تملك جزرة طرية جداً، لا تغري هؤلاء الأعداء والمتربصين والحاقدين بأن يروا الحق حقاً فيتبعوه.

5- في ظل طغيان أسواق الارهاب في العالم العربي الآن، ورواج هذه الأسواق والاقبال المنقطع النظير عليها من قبل الدهماء والغوغاء والإعلام العربي المتشنج، وجد مقتدى الصدر مكانه الذي يليق به في النجف، حيث الفقر، والغبار، وقلة العقل، والتشرد، والتخلف، والجهل، والناس الذين يعيشون حياة القرون الوسطى نتيجة للطغيان الديكتاتوري السابق، ونتيجة للانغلاق والتعصب الديني الطائفي.

-3-

هل كان لمقتدى الصدر أن يبرز كزعيم شاب مبروك يقود جيشاً من الملائكة، متورد الخدين، واسع العينين، عظيم المنكبين، في مجتمع متعلم وعامل وغني وعالم ومفكر وديمقراطي، لمجرد أنه يرفع شعارات "معركة صفين" الدينية السياسية التي حدثت قبل خمسة عشر قرناً (36 هجرية)؟

وهل كان لمقتدى الصدر أن يرفع سيفه الخشبي في وجه حاكم طاغية كصدام حسين الذي كتم أنفاس الشيعة والسُنَّة الأحرار على السواء، ومحقهم محقاً؟

أم أن مقتدى الصدر وجد في الواحة الديمقراطية العراقية الجديدة، وفي الحكومة الوطنية الشرعية الجديدة الجانب اللين، والجانب الضعيف الذي يخشى الطغيان والتنكيل بالمعارضة على السُنَّة العربية المُتبعة في كل زمان ومكان؟

-4-

هل يعتبر مقتدى الصدر ظاهرة غريبة وشاذة، كان يجب أن لا تظهر في بلد كالعراق؟

من يعتقد ذلك فهو على خطأ فادح، وجهل كبير.

فمقتدى الصدر، يمثل أولاً ظاهرة طبيعية في النفس الإنسانية وهي رفض العبيد للحرية. فالعبيد بعد طول استعباد، أصبحوا لا يألفون الحياة إلا في ظل الاسترقاق. وهناك واقعة قريبة في العالم العربي، وهي أن الملك فيصل بن عبد العزيز عندما أعلن إلغاء الرق في السعودية في 1962 قام بعض الأمراء السعوديين بتسريح عبيدهم. وكانت المفاجأة أن العبيد رفضوا الحرية، وأصروا على البقاء عبيداً في قصور الأمراء. كما أن كثيراً من السجناء يرفضون الخروج من السجن بعد قضاء عشرين أو ثلاثين سنة فيه.

ومقتدى الصدر، يمثل رجل الدين المتمرد في فترة سياسية انتقالية سعياً وراء كسب بعض المطامع السياسية. وتلك ظاهرة معروفة في تاريخ الشعوب السياسي، حيث يستغل بعض من يروا أنفسهم قادة وزعماء، أن أفضل وقت مناسب لاختراق الحواجز السياسية، والقفز عليها، هي الفترات السياسية الانتقالية التي تعيشها الشعوب والدول كما هو الحال الآن في العراق.

ومقتدى الصدر، ظاهرة كان يجب أن تبرز في مرحلة عدم وجود زعيم شيعي ديني عقلاني وحداثي وقوي يتصدر العمل السياسي الديني الشيعي في بلد كالعراق. وعدم ظهور زعيم كالصدر على النحو الذي يظهر فيه الآن مقتدى الصدر الآن، هو الشاذ الغريب المخالف للقاعدة.

ومقتدى الصدر، ظاهرة سياسية دينية طبيعية في العراق وفي العالم العربي، حيث يتصدر الاسلامويون القيادات السياسية العربية كجماعة الإخوان المسملين، وحزب التحرير الإسلامي، وحماس، والجهاد الإسلامي، والقاعدة، وأنصار الإسلام، وفرسان محمد وغيرهم من الجماعات التي لا تعد ولا تحصى.

ومقتدى الصدر أخيراً ظاهرة طبيعية سياسية ودينية في وجه هذا التفوق الأمريكي العسكري والسياسي والعلمي والصناعي المتحدي في العالم والمثير لمشاعر الفقراء وشعوب العالم الثالث التي تعيش على مسافة مئات السنين من المشهد الأمريكي . ففي امريكا اللاتينية وفي آسيا، وفي العالم العربي، ظهر متمردون أرادوا أن يقولوا كلمتهم في مواجهة كل ذلك، وكان الصدر أحد هؤلاء.

فهل يكون الصدر وجيشه الملائكي، هو آخر الدمامل المتقيئة في الجسم العراقي المتعافي بإرادة شعبه الآن؟

لا نظن ذلك.

فالديكتاتورية العراقية المنهارة لم تترك في الجسم العراقي شبراً واحداً إلا وزرعته بالدمامل القومية والدينية المتقيئة، والتي تحتاج إلى جراحات سياسية علمية متأنية لكي يبرأ منها هذا العراق الجديد.

(تنشر بالتزامن مع جريدة "السياسة" الكويتية، و "المدى" العراقية و "الأحداث المغربية")

[email protected]