في معظم دول الشرق الأوسط، وشبيهاتها في العالم، تكررت القصة بملامح مختلفة: نخب سياسية، أحزاب، جيوش، وحتى ثورات وانتفاضات، نجحت في إسقاط أنظمة أو إضعافها، لكنها فشلت في بناء نظام ديمقراطي بديل يصلح ما أفسدته الدولة القديمة. والسؤال الضمني الذي يلحّ بعد كل دورة انهيار: إذا كنا عجزنا عن إنتاج ديمقراطية مستقرة، فلماذا عجزنا أيضاً عن توفير حدّ معقول من العدالة، بأيّ شكل من أشكال الحكم التي جرّبناها؟

المشكلة ليست نقص الأفكار، فخطاباتنا مزدحمة بالوعود: حكم الشعب، الشريعة، الاشتراكية، الدولة القوية، الاستقرار، الهوية. لكن العدالة لا تولد من البلاغة، بل من قواعد تضبط السلطة وتمنعها من التحول إلى غنيمة. فحين تفتقر الدولة إلى قيد فعّال على الحاكم، أياً كان اسمه أو شرعيته، تتبدّل اللافتات ويبقى الجوهر: امتياز محمي، وحقوق متفاوتة، وقانون يلين مع الأقوياء ويقسو على الضعفاء.

الديمقراطية، في جوهرها، ليست صندوق اقتراع فقط، هي منظومة محاسبة. وقد فشلت نخب كثيرة لأنها تعاملت مع الديمقراطية كطقس انتخابي، لا كعقد مؤسسي: قضاء مستقل، إعلام حر، فصل سلطات، شفافية، وأحزاب لا تملك أجنحة مسلحة ولا خزائن ظل. وعندما غابت هذه الضمانات، تحولت الانتخابات إلى تفويض مفتوح، أو إلى أغلبية تصادر الدولة، فتنهزم العدالة باسم الشرعية.

أما الأنظمة التي استندت إلى الدين أو الأيديولوجيا، فغالباً ما وقعت في فخ تحويل القيم إلى امتياز. الدين، مثلاً، قد يقدّم أعلى منسوب أخلاقي ضد الظلم، لكنه حين يدخل بوصفه هوية سياسية مغلقة قد ينقسم الناس إلى مراتب: هذا أقرب وذاك أبعد. والأيديولوجيا، حين تتصرف كحقيقة نهائية، تبرر القمع باعتباره ضرورة تاريخية. وفي الحالتين، تصبح العدالة مؤجلة: مرة بحجة حماية العقيدة، ومرة بحجة حماية الثورة.

وعندما تقدّم العسكر بوصفهم بديلاً، كانت الذريعة دائماً: الأمن أولاً. لكن الدولة التي تبتلعها المؤسسة الأمنية تُنتج نظاماً أكثر مما تُنتج عدلاً، لأن المحاسبة تُعدّ تهديداً، والشفافية تُعدّ خيانة، والحق يُختزل في مصلحة عليا لا يعرفها إلا أهل السلطة. وهنا تتجدد أسطورة "المستبد العادل": قد نبحث عن رجل صالح يعوّض غياب المؤسسات، لكن التجربة تقول إن العدالة لا تُبنى على مزاج شخص، ولا تُضمن بعده.

فلماذا نفشل إذن؟

لأننا نغيّر الحكام ولا نغيّر قواعد الحكم. نُسقط قمة الهرم ونترك الهرم نفسه: اقتصاد ريعي يشتري الولاءات، مجتمع ممزق بالهويات، أحزاب تُدار كعشائر، وإدارة بلا معيار، وقضاء يتنفس بإذن السلطة. في هذه البيئة، تصبح العدالة حكاية لا نظاماً. وأخيراً، فإن الطريق إلى دولة منصفة لا يبدأ بسؤال: أيّ نظام نختار؟ بل بسؤال أدق: كيف نمنع أيّ نظام من التوحش؟

سيادة قانون تعلو على الجميع، قضاء مستقل لا يُؤمَر، انتخابات تُحمى من المال والسلاح، شفافية تُضيّق مساحة الفساد، اقتصاد فرص لا ريع، وتعليم مدني يصنع مواطناً يطالب بحقه لا تابعاً يطلب رضى المتنفذ. عندها فقط يمكن أن نقترب من عدالة بشرية ممكنة: لا كاملة، لكنها قابلة للدفاع عنها.