بعد أكثر من عامين من التوقف القسري، عادت صادرات نفط إقليم كردستان لتضع ملف الطاقة مجدداً في صدارة الجدل السياسي والاقتصادي في العراق. غير أن هذه العودة، التي انطلقت فعلياً في 27 أيلول (سبتمبر) 2025، لم تكن ثمرة حل مؤسسي مستدام، بقدر ما جاءت نتيجة تفاهمات مرحلية فرضتها ضغوط مالية خانقة وحسابات سياسية مؤجلة، في ظل استمرار الفراغ التشريعي الذي يطوّق قطاع النفط منذ ما يقرب من عقدين. وتُظهر بيانات وزارة النفط العراقية أن المعدل اليومي الحالي لصادرات نفط الإقليم لا يقل عن 200 ألف برميل يومياً، فيما بلغت صادرات شهر تشرين الأول (أكتوبر) نحو ستة ملايين برميل، وفق الإحصاءات الرسمية المنشورة. وبالرغم من أن هذه الأرقام تعكس عودة تدريجية لمنظومة التصدير، فإنها ما تزال دون السقوف المتفق عليها في إطار الاتفاق النفطي المؤقت بين بغداد وأربيل، الأمر الذي يكشف هشاشة الترتيب القائم وطابعه الانتقالي أكثر مما يعكس استقراراً فعلياً في إدارة القطاع. وبحسب الاتفاق، يُفترض أن يصل التصدير إلى 230 ألف برميل يومياً، وهو مستوى تؤكد تقديرات فنية صادرة عن مختصين في القطاع النفطي إمكانية تجاوزه، شريطة استكمال أعمال إعادة تأهيل الحقول التي توقفت لنحو عامين ونصف. وتشير تقارير فنية لوزارة الثروات الطبيعية في إقليم كردستان إلى أن فترة التوقف الطويلة ألحقت أضراراً مباشرة بمنظومات الإنتاج والضخ، فضلاً عن الخسائر الناتجة عن الهجمات بالطائرات المسيّرة التي استهدفت بعض الحقول خلال السنوات الماضية، ما فاقم كلف العودة إلى التشغيل الطبيعي، وأخضعها لاعتبارات أمنية واقتصادية معقدة.
اللافت أن الاتفاق الحالي، وفق ما أعلنته الحكومة الاتحادية، يقتصر زمنياً على الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2025، مع توجه لتمديده بشكل مؤقت إلى حين تشريع قانون النفط والغاز بالتزامن مع قانون الموازنة العامة. ويعيد هذا المسار إنتاج النهج ذاته الذي طبع إدارة الدولة العراقية منذ عام 2003: حلول مؤقتة تُرحّل الأزمات بدلاً من تفكيكها، وتفاهمات سياسية تعالج النتائج دون الاقتراب من الجذور البنيوية للأزمة. في ملف كلف الإنتاج، جرى تحديد سقف مؤقت قدره 16 دولاراً للبرميل كأجور مستحقة للشركات العاملة في الإقليم، استناداً إلى التعديل الوارد في قانون الموازنة الاتحادية رقم (13) لسنة 2023. غير أن وزارة النفط العراقية أعلنت، في خطوة تحمل دلالات سياسية وفنية، تعاقدها مع شركة بريطانية متخصصة لتقدير كلف الإنتاج الفعلية لكل حقل على حدة، على أن تُسدَّد الفوارق لاحقاً في حال ثبت تجاوز الكلفة الحقيقية للسقف المعتمد. ويعكس هذا الإجراء اعترافاً ضمنياً بتعقيد الملف، ومحاولة متأخرة لتقليص فجوة الشك المتراكمة بين الحكومة الاتحادية والإقليم.
أما تسويق النفط، فقد انتقل بالكامل إلى شركة تسويق النفط العراقية (سومو) منذ استئناف التصدير. وتشير البيانات الشهرية المنشورة على الموقع الرسمي للشركة إلى أن متوسط سعر بيع النفط العراقي خلال الشهر الماضي بلغ نحو 63 دولاراً للبرميل، مع تفاوت طبيعي بين خام كركوك وخامي البصرة الخفيف والمتوسط. ويرتبط هذا المسار مباشرة بملف رواتب موظفي إقليم كردستان، إذ تشترط وزارة المالية الاتحادية تسلّم تقارير شهرية دقيقة عن الصادرات والإيرادات. وبحسب ما تنشره «سومو»، فإن هذه التقارير تصدر بشكل دوري وعلني وتُرسل رسمياً إلى وزارة المالية، ما يعني أن جوهر الإشكال لا يكمن في غياب البيانات، بقدر ما يتمركز في آليات التنفيذ وطبيعة القرار السياسي.
في خلفية هذا المشهد المعقد، يظل قانون النفط والغاز المؤجل منذ عام 2007 العنوان الأبرز للأزمة. فبحسب تقارير برلمانية، لم تحظَ آخر مسودة قُدّمت عام 2024 بتوافق سياسي كامل، بالرغم من أن تشريع القانون يمثل استحقاقاً دستورياً مباشراً لتنفيذ المادتين (111) و(112) من الدستور العراقي، وتنظيم العلاقة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم والمحافظات المنتجة على أسس واضحة ومستقرة، بعيداً عن منطق التسويات الظرفية.
اقتصادياً، تتقاطع هذه التطورات مع مسار أسعار النفط العالمية. وتشير تقارير منظمة «أوبك» ووكالة الطاقة الدولية إلى أن متوسط أسعار النفط خلال عام 2025 استقر عند حدود 60 دولاراً للبرميل، مع توقعات بانخفاض نسبي خلال عام 2026 إلى نطاق يتراوح بين 55 و60 دولاراً، بفعل وفرة المعروض العالمي، ولا سيما من الدول غير الأعضاء في «أوبك». وهو عامل يضيف مزيداً من الضغط على أي ترتيبات مالية هشة وغير محصّنة قانونياً.
أما مشاريع خطوط التصدير البديلة، مثل خط كركوك–بانياس، فتؤكد دراسات فنية صادرة عن مختصين في وزارة النفط العراقية أن الخط متوقف منذ أكثر من أربعة عقود وأصبح خارج الخدمة عملياً، فيما يتطلب إنشاء خط جديد كلفة تتراوح بين 8 و10 مليارات دولار، دون جدوى اقتصادية حقيقية في ظل وجود خط كركوك–جيهان القادر، وفق بيانات تشغيلية منشورة سابقاً، على نقل ما يصل إلى مليون برميل يومياً.
وفي ما يتعلق بعقد تطوير حقل كركوك مع شركة «بي بي»، تُظهر الوثائق الرسمية لوزارة النفط العراقية أن العقد يعود في أساسه إلى عام 2014، مع تعديلات لاحقة أُدخلت عليه في 2020 و2024. غير أن خبراء قانونيين يشددون، استناداً إلى المادة 140 من الدستور العراقي، على ضرورة التنسيق مع حكومة إقليم كردستان في أي مشاريع تقع ضمن المناطق المتنازع عليها، بما يضمن انسجامها مع الإطار الدستوري، ويمنع إنتاج نزاعات جديدة تحت غطاء الاستثمار.
في المحصلة، تكشف عودة صادرات نفط إقليم كردستان أن الأزمة ليست أزمة إنتاج أو تسويق، بل أزمة إدارة وتشريع وإرادة سياسية. وبينما تواصل الدولة العراقية إدارة أحد أهم قطاعاتها السيادية عبر اتفاقات مؤقتة وموازنات مشروطة، يبقى السؤال الجوهري معلقاً: هل يتحول النفط من أداة صراع سياسي إلى ركيزة شراكة دستورية حقيقية؟
حتى الآن، لا تزال الإجابة مؤجلة بانتظار قانون لم يُكتب له أن يرى النور منذ ما يقرب من عقدين.




















التعليقات