منذ مؤتمر بازل عام 1897 تشكّلت الصهيونية باعتبارها مشروعًا واعيًا لهندسة الصراع قبل حسمه، وبناء الوقائع قبل إعلانها. لم تنطلق بوصفها استجابة انفعالية لحدث تاريخي، إنما أبعد من ذلك، كعقلٍ استراتيجي يقرأ ميزان القوى مبكرًا، ويقوم على العمل التراكمي الطويل بدلًا من المواجهة المباشرة، وإدارة الزمن السياسي على رهانات الحسم السريع. في هذا الإطار لم يُنظر إلى الصراع كمرحلة طارئة ينبغي إنهاؤها بأسرع وقت، بل كأداة يمكن توظيفها وضبط إيقاعها وتطويعها لخدمة هدف استراتيجي ممتد.

من هنا أدركت القيادة الصهيونية المبكرة أن قراءة ميزان القوة لا تعني قياس الجيوش وعديدها فحسب، بل فهم طبيعة البيئة السياسية المحيطة وحدود قدرة الخصوم على التحول إلى دول مكتملة السيادة هو مكمن التفكير الصحيح. فقد رأت أن التفوق العسكري الآني لا يضمن أمنًا طويل الأمد، وأن الخطر الحقيقي يكمن في إمكانية تشكُّل محيط إقليمي مستقر قادر على إنتاج قرار سيادي مستقل وبناء قوة تراكمية مع الزمن. لذلك جاءت القراءة مبنية على إدارة الزمن السياسي وتفكيك البيئة قبل أن تنضج، لا على حسم عسكري سريع قد يُنتج خصومًا أكثر رسوخًا.

مخرجات بازل لم تكتفِ بتحديد هدف إقامة وطن قومي، بل أسست لمنطق عمل يقوم على التدرّج والشرعية الدولية، وهندسة البيئة المحيطة بحيث تكون قابلة للاحتواء لا للمواجهة الشاملة. في صلب هذا المنطق تتشكّل معادلة غير مكتوبة (ليست هذه المعادلة بندًا مكتوبًا في مقررات بازل، بل استنتاجًا تحليليًا من روحها الحاكمة، ومن المسار العملي الذي اتخذته الحركة الصهيونية منذ التأسيس وحتى اليوم): أن الصراع المستدام أقل خطورة من سلام يُنتج دولة قوية مكتملة السيادة.

بعد قيام دولة إسرائيل، ترجم دافيد بن غوريون هذا الوعي إلى ما عُرف بـ«نظرية المحيط»، حيث كان العالم العربي آنذاك كتلة دولية واضحة المعالم تمتلك جيوشًا وحدودًا وأنظمة مركزية، حتى وإن كانت ضعيفة. ولأن تطويق هذه الكتلة من الداخل لم يكن ممكنًا في تلك المرحلة، جرى الالتفاف عليها عبر تحالفات مع قوى وقوميات غير عربية محيطة بها، بهدف كسر وحدتها ومنع تحوّلها إلى عمق استراتيجي قادر على تهديد الوجود الإسرائيلي. كانت تلك نظرية تناسب زمن الدول والجبهات والحروب التقليدية.

لكن ما إن بدأ النظام العربي يتآكل من الداخل، بفعل الانقلابات، وفشل النظريات التي استُجلبت كمشاريع حكم، والحروب الأهلية، وتسييس الهويات، حتى فقدت نظرية المحيط معناها الكلاسيكي. لم تعد هناك كتلة عربية متماسكة تحتاج إلى تطويق خارجي، بل جغرافيا واسعة أضعفتها التحولات التي ضربت الأمن القومي العربي في العمق. وقد شكّلت أحداث غزو الكويت عام 1990 نُذر تحولات أكثر خطورة في اتساع تداعياتها، مرورًا بإرهاصات “الربيع العربي” وما تلاها. هنا انتقلت الاستراتيجية الصهيونية، ومعها أجندات غربية صاغها العقل الغربي، من منطق التطويق إلى منطق الاختراق، ومن مواجهة الدول إلى التعامل مع ما دون الدولة، والعمل على الإيقاظ الطائفي والهوياتي والأيديولوجي والمناطقي.

في هذه المرحلة لم يعد السلام هدفًا حقيقيًا، لأن السلام الذي يُنهي النزاع ويُطلق عملية بناء دولة مركزية قادرة على إنتاج قرارها وجيشها واقتصادها يُعد خطرًا بنيويًا يفوق خطر أنظمة معادية لكنها ضعيفة. لذلك جرى تفضيل نموذج آخر: إدارة النزاع بدل حسمه، وتجميد الصراعات عند مستوى يمنع الانفجار الشامل، لكنه يمنع في الوقت ذاته اكتمال الدولة. هكذا تحوّل الصراع من مشكلة يجب حلها إلى وضع يجب الحفاظ عليه.

في هذا السياق، وفي هذا التوقيت، برز نموذج أُطلق عليه «أوصياء الفوضى» كأداة مثالية لما بعد “نظرية المحيط”. لم يعد الاختراق يحتاج إلى تحالفات معلنة أو تدخلات مباشرة، بل إلى إدارة ذكية للهشاشة: تضخيم الفاعلين غير الدولتيين، موازنة الميليشيات ببعضها، تعطيل الحسم تحت عناوين الاستقرار ومنع الانهيار، وتحويل الموارد السيادية، من موانئ ومعادن وممرات، إلى أوراق تفاوض لا عناصر سيادة. الفوضى هنا ليست خللًا وفق هذا المنظور، بل حالة مُدارة تُنتج استقرارًا شكليًا طويل الأمد.

بهذا المعنى تتقاطع الصهيونية العالمية، لا كخطاب أيديولوجي صاخب بل كمنطق إدارة هادئ، مع “وظيفة أوصياء الفوضى”. فالدولة العربية المستقرة ذات القرار السيادي هي التهديد الحقيقي، أما الدولة المنهكة أو الساحة المفتوحة فهي خطر يمكن احتواؤه. لا تظهر إسرائيل دائمًا كفاعل مباشر في كل ساحة؛ إذ إن الوظيفة الصهيونية ليست العامل الوحيد، لكنها العامل الأكثر استفادة من تقاطع هذه الديناميات.

وهكذا تحوّلت نظرية بن غوريون من تطويق المحيط إلى اختراق الكتل الجغرافية العربية من الداخل، ومن توازن قوى بين دول إلى توازن هشاشة داخل الدول. لم تعد الجغرافيا وحدها ساحة الصراع، بل الدولة نفسها: قرارها، ووحدتها، ومعناها. وفي هذا النموذج تصبح الفوضى المُدارة أكثر فاعلية من الحرب، ويغدو الصراع المستدام الضامن الأهم لبقاء إسرائيل مركز التوازن الوحيد المستقر في إقليم غير مستقر.

هذه القراءة توصيف لوظيفة تتكرر بوضوح: حين يُفضَّل الصراع لأنه يمنع اكتمال الدولة، وحين يُؤجَّل الاستقرار لأنه قد يُنتج سيادة، تصبح الفوضى أداة استراتيجية لا عرضًا جانبيًا. وفي هذا التحول نكون قد انتقلنا فعليًا من “نصوص بازل” إلى وظيفتها المعاصرة، ومن نظرية المحيط إلى هندسة التفتيت والاختراق.