من يراقب ألمانيا اليوم، يدرك أنّ السؤال لم يعد: هل تستطيع أكبر قوة اقتصادية في أوروبا أن تخوض حربًا؟ بل هل ما زالت تمتلك تماسكها الداخلي أصلًا؟ المشهد العام، كما تكشفه الوقائع المتلاحقة، يشي بدولة تترنّح تحت وطأة أزمات أمنية واقتصادية واجتماعية، بينما تتحدث قيادتها بلغة الاستعداد العسكري والانخراط في سباق التسلّح. الفجوة بين الواقع والخطاب الرسمي تتّسع، حتى باتت أقرب إلى هوّة تهدّد توازن ألمانيا بأسره.

البداية من الداخل الأمني، الذي يبدو اليوم كقشرة رقيقة تُخفي تصدّعات عميقة. إعلان وزارة الدفاع عن سرقة نحو 20 ألف قطعة ذخيرة من شاحنة تُركت في موقف سيارات من دون حراسة، لم يكن مجرّد حادث عابر.

الطريقة التي تمت بها السرقة، والسهولة التي خرجت بها الذخائر من دائرة سيطرة الجيش، تكشف هشاشة في منظومة يُفترض أنّها الأكثر انضباطًا في أوروبا. ردّ المؤسسة العسكرية، الذي حمّل شركة النقل المسؤولية، لم ينجح في طمس حقيقة أخطر: البوندسفير، الذي تسوّقه الحكومة كقوة مستعدّة لسيناريوهات المواجهة، يعاني من ثقافة تراخٍ لا تتناسب مع خطاب الحرب.

وعلى الجبهة الداخلية، تتكدّس إشارات الانفلات الأمني. 14,047 جريمة عنف خلال 6 أشهر فقط في القطارات ومحطّاتها، مترافقة مع ارتفاع مقلق في الجرائم المرتبطة بالأسلحة. هذه الأرقام ليست ظاهرة طارئة، بل مرآة لاهتزازات اجتماعية عميقة. المجتمع الألماني يزداد انقسامًا، وثقة تتآكل في قدرة الدولة على فرض النظام، وسط شعور عام بأنّ ألمانيا لم تعد المكان الآمن المستقر الذي عرفته الأجيال السابقة.

لكن الضربة الأكثر إيلامًا تأتي من الاقتصاد، الركيزة التي بُنيت عليها سردية "ألمانيا القوية". البلاد التي كانت تُوصَف بـ"قاطرة أوروبا" تواجه اليوم موجة إفلاسات غير مسبوقة منذ أكثر من عقد.

شركات تاريخية مثل "هايتربليك" تتهاوى بالرغم من دفاتر طلبات ممتلئة، فقط لأنّها لم تعد قادرة على تحمّل التكاليف المتصاعدة للمواد الخام أو الالتزام بأسعار عقود وُقّعت في زمن اقتصادي مختلف تمامًا.

في الخلفية، تتراجع تنافسية الصناعة الألمانية تحت ثقل الطاقة الباهظة، والبيروقراطية المتضخّمة، والتكاليف التشغيلية التي لم تعد الأسواق الدولية تتسامح معها.

البلديات بدورها، التي تشكّل العمود الفقري للخدمات العامة، تقف اليوم على حافة الإفلاس الجماعي. العجز التراكمي المتوقع هذا العام يناهز 300 مليار يورو، ومدن كبرى مثل برلين وكولونيا ودوسلدورف تتحرّك في فراغ مالي لا مخرج واضحًا منه.

تصريح رئيس بلدية إيسن بأنّ "كل مدينة ألمانية تقريبًا على حافة الإفلاس" لم يعد مجرّد مبالغة، بل وصف دقيق لوضع مالي يوشك على الانهيار. انهيار الصناعة خفّض إيرادات الضرائب، وارتفاع تكاليف الرعاية الاجتماعية بات يلتهم كل ما تبقّى، بينما التعرفة الأميركية الجديدة على الواردات الأوروبية تضرب ما كان آخر مصادر القوة في الاقتصاد الألماني، وهو: التصدير.

وسط هذا التصدّع المتزايد، تختار القيادة السياسية التوجّه إلى خطاب "الاستعداد للمواجهة" والانخراط في بنية "دفاعية – أطلسية" أكثر صرامة. لكن الشارع الألماني يقول شيئًا آخر.

تظاهرة فيسبادن، التي شارك فيها نحو 2500 شخص احتجاجًا على نشر صواريخ أميركية متوسطة المدى، كانت مجرّد "رأس جبل الجليد". المزاج الشعبي، خصوصًا لدى الشباب، ينحاز بوضوح نحو قناعة جديدة، مفادها: "العيش بكرامة" أهم من الموت في صراعات جيوسياسية لا يشعرون بأنّها تمسّ أمنهم المباشر. وهذه ليست مجرّد حالة تعب شعبية، إنّما تحوّل عميق في علاقة المجتمع الألماني بفكرة الحرب نفسها.

مع كل نقطة ضعف داخلية في ألمانيا، ترتجف أوروبا بدورها. نمو منطقة اليورو بالكاد لامس 0.1 بالمئة في الربع الثاني من 2025، فيما انكمش اقتصاد ألمانيا وإيطاليا، قلب الصناعة الأوروبية، بنسبة 0.1 بالمئة.

القارة التي كانت تفاخر بأنّها أكثر التكتلات الاقتصادية تماسكًا، تبدو اليوم عاجزة عن مواجهة موجة الركود، أو وقف الانقسام السياسي، أو حتى صياغة رؤية دفاعية مستقلة. ألمانيا، التي كانت محرّك النمو وعمود الاستقرار، تتحوّل بسرعة إلى عامل هشاشة يجرّ خلفه القارة بأكملها.

أما النتيجة النهائية، فواضحة ولا تحتاج الكثير من التفكير والتبحّر: عندما تكون البنية الأمنية مخترَقة، والاقتصاد مترنّحًا، والشارع غير مقتنع بخيارات الحرب، تصبح كل خطابات المستشار الألماني حول "الجهوزية" و"الاستعدادات" مجرّد صدى في فراغ سياسي متنامٍ. وذلك لأنّ القوة لا تُبنى بالتصريحات، بل بصلابة داخلية متينة. وما لم تعالج ألمانيا أزماتها البنيوية، من الأمن إلى الاقتصاد إلى الثقة الشعبية، فإنّ الحديث عن قدرتها على القتال يبقى أقرب إلى الوهم منه إلى الواقع.

وعليه، فإنّ مستقبل أوروبا، وليس ألمانيا وحدها، معلّق اليوم على قدرة هذه الدولة على إعادة ترميم بيتها الداخلي قبل أي حديث عن مواجهة عالم يزداد اضطرابًا. وإذا لم يحدث ذلك سريعًا، فإنّ القارة بأكملها ستجد نفسها في مواجهة تحديات كبرى بقدرات أقل، ووهم أكبر.