إنَّ الهجومَ على نديم قطيش ليس حدثاً إعلامياً عابراً، ولا خِلافاً مِهنياً عاديّاً، بل عرض لإشكالية أعمق تُسلط الضوء على عجز منظومة البراميل المتفجرة بكاملها عن تَقَبُل أي صوت يرفض الخضوع لطقوس الموت التي يُقَدِّسها هذا المحور، حيث لا مكان لحياة رحيمة، ولا معنى ومكانة للسيادة، ولا قيمة للإنسان إذا لم يكن مشروعًا مؤجلًا لجثة مستقبلية.

نديم قطيش لم يخرج لأنّه أخفَقَ؛ ولم يُستهدَف من قبل وسائل إعلام الممانعة لأنّه أخطأ، بل لأنّه تجرّأ. تجرّأ على كسر مبدأ احتكار "الأخلاق الثورية" الزائفة، وعلى تسمية الأشياء بأسمائها: نظام الأسد هو نظام قَتِل، والوصاية الإيرانية هي استعمار، والسلاح غير الشرعي هو لَعنة لبنان لا "مقاومة". هذه ليست مواقف طارئة ومُستَجدة، ولا نزوة وظيفية، بل خط سياسي وفكري ثابت دفع ثمنه صاحبه مراراً وتكرارًا على الصعيد الشخصي ومع رفاق آخرين على حدٍ سواء؛ وها هو اليوم يَدفع الثمن مجدداً عبر حملة مُمنهجة تهدف إلى اغتيال سمعته.

ما يُمَيز هذه الحملة لجِهة وقاحتها أنها تتستّر خلف راية فلسطين، فيما هي لا ترى في غزة سوى ذخيرة خطابية، ولا في الدم سوى مادة تعبئة شعبوية. الذين يُهاجمون قطيش اليوم هم أنفسهم مَن برّروا تدمير حلب، وصفّقوا للبراميل، واتخذوا دور الشيطان الأخرس أمام مجازر الكيماوي، واعتبروا أن تدمير سوريا هو "ثمن الصمود" وأن القدس تَمر بسوريا. هؤلاء لا يحق لهم الحديث عن أخلاق، ولا عن قضية، ولا عن أدبيات إعلامية.

أما عن "غرام قطيش بإسرائيل"، فهذه العبارات الاصطلاحية التي تندرج في إطار الدعاية السوداء تفككت وسقطت أمام سجل الرجل وتاريخه. لم يُطالب قطيش يوماً بتصفية الفلسطينيين، ولم يُدافع عن جرائم الحرب، لكنه صَرَّح، ويا له من جُرم، بأن تحويل القضايا العادلة إلى أدوات قَتل ذاتي هو خيانة لفحوى تلك القضايا. ولقد أفاد بأن لبنان ليس مُخيماً، ولا قاعدة، ولا ساحة تصفية حسابات إيرانية. وتلك هي أعراف دعاة الموت، وهذه خطيئة لا تُغتفر.

لا تتجلى صدمة هؤلاء الحقيقية فيما صدر عن قطيش فقط، بل في جرأة وعلنية تصريحه، من دون خوف ونفاق، ومن دون أن يطلب شهادة "وطنية" من جَلّادي الأمس. إنهم يريدون الآخرين مثل إعلامهم الظلامي الذي يهدد بالذبح ويرمي المتطرفين بوردة، إعلام العَويل المُوَجَّه؛ إنه العدو الأوحد المسموح به، لكنه يَمنَح القاتل الحقيقي حصانة "الممانعة".

نديم قطيش وأصدقاؤه أزعجوا محوراً بكامله لأنهم كسروا المعادلة: البطولة لا تتمثل في الخراب والدمار، والشرف لا يُصان من خلال تسليم الدولة لميليشيات، والمشروع الذي لا يرى في الإنسان سوى رقماً في نشرات الشهداء لا يجوز تقديسه. تلك هي خطيئة قطيش، لذلك هُوجِمَ، وشُوِهَت سمعته، وانكبت عليه الاتهامات جِزافًا.

لكن ما غَفِلَ عن فِكر وإدراك هؤلاء هو أن حملات التشهير المُمَنهجة هذه لا تُسَطِرُ تاريخاً، وأن الأصوات التي تدافع عن الحياة وقِيَمِها، مهما كُمِمَت، تبقى صاخبة أكثر من الضجيج الذي يتصاعد من المقابر.

وإن سَلَمنا جدلاً أن لنديم قطيش هفواته، فإن هفوة صاحب موقف تبقى أرقى أخلاقياً وسياسياً من عقائد خشبية لا تنادي لغتها سوى بالقتل، ولا يستند منطقها إلا إلى تهجير الملايين، ولا تقوم فلسفتها سوى على تكميم الأفواه. فشَتانَ بين إعلامي يخطئ وهو يدافع عن مفهوم الدولة ومنطق الحياة، وبين منظومة "فكرية" ترى في المجازر عملاً ثقافياً، وفي الإبادة برنامجاً سياسياً، وفي تدمير المدن بطولة فِداء من أجل الحرية. إن هذا التباين الشاسع مساحتُه تعادل سنوات ضوئية لا تُقاس بالكفاءة الإعلامية بل بالحدّ الأدنى من الإنسانية.

نديم قطيش، بكل ما له وما عليه، لم يجعل من الموت هوية، ولا من الدمار عقيدة، ولا من القتل خطاباً جهاديًا. وهذا وحده كافٍ ليضعه خارج مستنقعكم، ويُرَفِّعَه عن حملاتكم، ويُبعِده عن تاريخ سيَصِفكم، عاجلاً أم آجلاً، بمُنظّري المقابر لا بأصحاب القضايا.

وهكذا، اختار قطيش، تحديدًا، أن يقف.. في الجانب الصحيح من التاريخ.