ليست العادات والتقاليد في المجتمعات الشرقية عمومًا، والإسلامية والعربية بشكل خاص، تفصيلًا فولكلوريًا على هامش الحياة، بل هي «قواعد غير مكتوبة» تراكمت عبر قرون حتى صارت تُحدِّد معايير الصواب والخطأ، وحدود المسموح والممنوع، من البيت إلى المجال العام، ومن هنا يبدأ امتحان الديمقراطية الحقيقي؛ فهي ليست صناديق اقتراع فقط، بل منظومة قيم: مساواة أمام القانون، ومسؤولية فردية، وحق نقد السلطة دون خوف أو وصاية، لذلك تبدو التقاليد سلاحًا ذا حدَّين: قد تمنح المجتمع تماسكًا حين تعمل كشبكة تضامن، وقد تتحول إلى قيدٍ ثقيل حين تُقدَّم باعتبارها مصدر شرعية ينافس الدولة، أو حين تُستعمل لتبرير احتكار النفوذ وإدامة الامتيازات.

في وجهها الإيجابي، حفظت تقاليد كثيرة قيم الكرم والنخوة وصون الجار واحترام الكبير، وقدَّمت آليات أهلية لاحتواء النزاعات عبر الصلح والوساطة ودفع الضرر قبل اتساعه. هذه القيم، إذا أُعيد توجيهها من «هيبة العصبية» إلى «هيبة القانون»، يمكن أن تصبح رصيدًا للديمقراطية: تُخفِّف التوتر بين المختلفين، وتُعزِّز التسامح، وتُرسِّخ فكرة التعايش بدل منطق الغلبة، بل إن البنى العشائرية نفسها لعبت أحيانًا دور صمام أمان في لحظات هشاشة الدولة، إذ حدَّت من الانفلات ووفَّرت مرجعيات اجتماعية لوقف الثأر واحتواء الصدام. لكن الوجه الآخر أكثر حساسية، لأنه يمس جوهر التمثيل والشرعية؛ فجزء معتبر من الموروث كرَّس هيمنة الذكور، والتراتب الاجتماعي، وإقصاء النساء والشباب عن مواقع القرار، وأعلى الطاعة على النقد، والقرابة على الكفاءة، وعندما تتغلب الولاءات العشائرية والطائفية على مفهوم المواطنة، تتحول الانتخابات إلى تعداد للعصبيات لا منافسة برامج، ويغدو البرلمان انعكاسًا لخريطة النفوذ لا مؤسسة تشريع ورقابة، لذلك رأينا في العراق وليبيا وسوريا واليمن أن سقوط رأس الاستبداد لا يعني ولادة دولة مدنية؛ إذ تبقى الشبكات التقليدية قادرة على ابتلاع الدولة وإعادة إنتاج الاستبداد بصيغ جديدة: زعامات مقنَّعة، ومحاصصات، وشرعيات تُقايض الحقوق بالخدمات.

المخرج ليس في استيراد نموذج جاهز، ولا في الرهان على فكرة «المستبد العادل» التي تعد بإنقاذ سريع ثم تفتح الباب لاحتكار أطول، بل في بناء جسور انتقالية بين المجتمع والدولة: قواعد صارمة للترشُّح والتمويل والشفافية، واستقلال القضاء، وتحييد السلاح خارج المؤسسات، وتعليم مدني يعيد تعريف الشرف بوصفه احترام القانون لا خرقه، ومع اللامركزية الرشيدة أو الفيدرالية الدستورية، تُخفَّف قبضة العصبيات على القرار الوطني وتُفتح منافذ مشاركة أوسع، ويمكن الاستفادة من مجالس خبرة بصفة استشارية تضبط الإيقاع دون أن تُصادر الإرادة الشعبية.

وخلاصة القول: الموروث ليس خصمًا للديمقراطية ولا حليفًا لها تلقائيًا؛ إنه مادة خام، إمّا أن تُصاغ لبناء مواطنة حديثة، أو تُترك لتُبقي السياسة أسيرة الماضي.