يظهر اسم حسن العلوي في سجلّ الصحافة العراقية بوصفه واحداً من أكثر الأقلام إثارة للجدل، وكاتباً لم يهدأ صوته منذ أن دخل المهنة عام 1954. وُلد في كرادة مريم ببغداد عام 1936، في بيت فقير يضج بالكتب والتراث، وتشكّل وعيه مبكراً على مكتبة جده الفقيه، ثم صقلته دراسته في كلية الآداب قبل أن يشقّ طريقه نحو الصحافة التي أحبها أكثر مما أحبّ الاستقرار.

في ذاكرة الصحافة العراقية، حيث تختلط رائحة الرصاص برائحة الورق، يطلّ العلوي بوصفه واحداً من أشدّ الأصوات صخباً واندفاعاً. بدأ محرراً بالقطعة في جريدة الجماهير، ثم صعد نجمه في عموده الشهير “بلا هوادة” الذي جمع بين السخرية والانتقاد والتحريض السياسي. مرّ بمحطات متعددة في وزارة الإعلام ووكالة الأنباء العراقية، ثم عمل خارج العراق في المغرب، قبل أن يعود إلى بغداد ليتوّج حضوره برئاسة تحرير مجلة ألف باء التي عاشت في عهده لحظة ازدهار لافتة.

ونتذكّر هنا تحقيقه المثير في الأهوار، "100 ساعة مع صدّام حسين في الأهوار"، ذلك العمل الجريء الذي كان وحده كافياً ليجعل اسمه يتقدّم الصفوف. لم يكن بالنسبة لقرّاء السبعينيات مجرد صحفي يكتب في زاوية عابرة، بل كان زلزالاً صغيراً يمرّ كل صباح عبر الصفحات، فيهزّ الثوابت ويوقظ السكون. نحن الذين قرأناه في تلك السنوات ندرك تمامًا أيّ طفرة أحدثها؛ كيف أخذ الصحافة من أبراجها العالية، وأنزلها إلى الشارع والحارة والمقهى، لتصبح حديث الناس لا حديث المكاتب.

كانت لغته تركض وتلهث وتغضب وتغني. يكتب كما لو أنه يفتح نافذة في جدار الدولة ليخاطب الجمهور مباشرة، بلا وسطاء ولا مقامات. ولذلك أحببناه في السبعينات: لأنه جعل من الصحافة فعلاً يومياً يمشي على الأرصفة، يلمس الغبار، ويشمّ رائحة الأسواق.

كانت مجلة ألف باء ذروة حضوره الإعلامي في السبعينات. هناك ازدهرت المجلة وصارت “مجلة البيت العراقي”، لكن تلك الذروة كانت أيضاً بداية التنازع على السلطة الإعلامية، ما دفعه لاحقاً إلى الهجرة نحو الكويت، ثم سوريا، ولندن وبيروت وأربيل. وفي كل مكان كان يحاول استعادة الضوء: يظهر مستشاراً، ثم معارضاً، ثم سياسياً مستقلاً، وفق روايات متعددة بعضها مؤيد وبعضها ناقد.

كتب العلوي بحس قومي صريح وبنزعة سجالية حادّة جعلت مؤلفاته مادة للجدل أكثر منها مادة للدرس الأكاديمي. في كتبه مثل الجواهري ديوان العصر، الشيعة والدولة القومية، وعمر والتشيّع، تتجاور القراءة التاريخية مع الموقف الأيديولوجي، وهو ما منحه قاعدة واسعة من القراء، وجعله في الوقت نفسه هدفاً لاتهامات سياسية متناقضة. يمتلك قدرة فريدة على صناعة تأثير شعبي؛ فهو خطيب بارع، ومسوق لفكرته قبل أن يكون منظّراً، ويعرف كيف يضخّ حرارة في الجملة تجعلها تتسلل إلى الذاكرة.

لم تكن كتبه محض دراسات، بل معارك فكرية يكتبها من موقع يجمع الهوى القومي والهوية الشيعية والتجربة البعثية والمنفى المعارض. ولهذا ظلّ اسمه جزءاً من حرب القبائل السياسية: محبوباً عند قوم، مكروهاً عند آخرين، ومثاراً لخصومة دائمة من أطراف شتى. لكنه لم يكن عابراً في أي مرحلة.

قد يختلف العراقيون حول حسن العلوي كما يختلفون حول معظم وجوه تاريخهم السياسي، لكن ما يبقى أنه كان صوتاً مرتفعاً في زمن الخوف، وقلماً يكتب وهو يعرف أنه سيُشعل العاصفة. كان صوته صاخباً، وقلمه مشاغباً، وتاريخه متعرجاً، لكنه كان فاعلاً لا هامشياً.

يبقى أنه صحفي كبير بقدر ما هو شخصية خلافية؛ صاحب لغة مشاغبة وذهنية تبحث عن معركة فكرية أينما حلّت. وهو جزء لا ينفصل من تاريخ الصحافة العراقية، تاريخٍ مشحون بالولاءات والتحولات والانقلابات، وكان فيه شاهداً وفاعلاً وضحية وخصماً في آن واحد.

حسن العلوي هو المثقف الذي لا يشبه الاستقرار، ولا يحتمله الصمت، ولا يكتمل الحديث عن الصحافة العراقية من دونه. إنه نموذج للمثقف الذي عاش في قلب النار، وكتب من داخلها، واختلفت حوله الأهواء، لكنه لم يتوقف عن الكتابة يوماً، ولم يفقد رغبته في أن يكون ـ مهما تغيّرت المواقع في دائرة الضوء.

وهكذا يبقى: قلمٌ لا يهدأ… صوتٌ لا يتراجع… وظلٌّ طويل في ذاكرة الصحافة العراقية.