أحيانًا لا تطول الحروب لأن العدو أقوى، بل لأن المعسكر الذي يقاتله لم يحسم في داخله تعريف النصر.

في اليمن، الانقلاب الحوثي المدعوم إيرانيًا لم يقاتل بالرصاص بل قاتل بالوقت، والوقت لا يُهدى للخصم من الجبهات فقط، بل يُسكب عليه من داخل المعسكر الذي يُفترض أنه جاء لاستعادة الدولة.

هناك لحظة خفية لا تُلتقط بالكاميرات: لحظة يتحول فيها مشروع الاستعادة إلى مشاريع متوازية، وتتحول المعركة الوطنية إلى إدارة توازنات داخل البيت نفسه، وحينها لا يعود الحوثي بحاجة إلى أن ينتصر كل يوم، يكفيه أن يراقب خصومه وهم يستهلكون بعضهم في تفاصيل السلطة قبل أن يستعيدوا أصل السلطة.

منذ أول ساعة للانقلاب المشؤوم، كان المشهد واضحًا في عنوانه: انقلاب تمدد بالقوة على مؤسسات الدولة وفرض أمرًا واقعًا في العاصمة ومفاصل القرار، بينما بقيت الشرعية هي الإطار القانوني والسيادي المعترف به دوليًا، وكرّس مجلس الأمن هذا المعنى حين طالب الحوثيين بالانسحاب من المناطق التي سيطروا عليها وتسليم السلاح والامتناع عن الإجراءات الأحادية التي تقوض السلطة الشرعية، لكن السياسة لا تُدار بالعنوان وحده، تُدار بالبنية التي تحمل العنوان، وحين تتشظى البنية يصبح العنوان معلقًا في الهواء، كراية تُرفع دون أن يكون تحتها جيش دولة موحد، وإدارة موحدة، واقتصاد موحد، وخطاب وطني موحد.

الذي حدث لاحقًا ليس إنكارًا لمشروعية الشرعية، بل إنهاكًا لها من الداخل: مناطق محررة بنصف سلطة، وأجهزة أمنية بعناوين متعددة، ومرجعيات متوازية، وخطابات تتنافس على من يمثل بدل أن تتفق على كيف تُستعاد الدولة. تتضخم فكرة الحق المكتسب حتى تتراجع فكرة الدولة الجامعة، ومع كل مركز قرار جديد يتضاعف حق الاعتراض، ويصبح اتخاذ القرار الموحد مهمة مستحيلة. في تلك اللحظة يصبح الانقلاب أقل كلفة على الحوثي، لأن خصومه يدفعون عنه ثمن التشتت، ويحوّلون الساحة المناهضة له إلى مفاوضات داخلية لا تنتهي.

بعد تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي في 2017، تبدلت طبيعة المعادلة داخل المعسكر المناهض للحوثي، لم يعد الصراع محصورًا بين شرعية وانقلاب فقط، بل صار أيضًا سؤال تمثيل جنوبي يتكئ على مظالم وتراكمات ويبحث عن مكانه في العقد الوطني. السؤال الأهم هنا ليس التبسيط الأخلاقي السريع: مع الشرعية أو ضدها؟ بل السؤال الأعمق: لماذا يولد كيان جديد داخل معسكر الاستعادة؟ لأن الإجابة تكشف عن الثقب الذي يتسرب منه الزمن لصالح الحوثي. حين تعجز الدولة عن أن تكون مرجعية خدمات وأمن وقرار، وحين تتعثر الشراكات داخل المعسكر الواحد، غياب العقد الاجتماعي لا يخلق فراغًا محايدًا، يخلق عقودًا بديلة، وغياب الدولة لا يخلق سكونًا، يخلق دولًا صغيرة تتعلم بسرعة أن الاستثناء مربح، وأن نهاية الحرب قد تعني نهاية الامتيازات التي وُلدت تحت سقف الحرب.

وهنا تتجلى فكرة المشاريع الجانبية بوصفها سببًا خفيًا لإطالة عمر الصراع، ليست كل المشاريع الجانبية خيانة، بل كثير منها يبدأ كاستجابة لأزمات تمثيل وخدمات وأمن، لكنه مع الزمن قد يتحول إلى وظيفة حرب: اقتصاد يتنفس من الجبايات، نفوذ يتغذى من المنافذ، سلطة تتحصن بالسلاح خارج الدولة، وخطاب يبرر بقاء الاستثناء لأنه يخشى يوم العودة إلى القاعدة. في الحروب الطويلة يتشكل ما يشبه سوقًا للحرب، كل طرف يملك سلعة: جغرافيا، جهاز، لواء، منفذ، اعتراف، أو قدرة على تعطيل خصمه. وفي سوق الحرب هذه، تصبح الدولة الجامعة أقل جاذبية لبعض اللاعبين، لأن الدولة تعني نظامًا ومحاسبة وسلسلة قيادة واحدة وميزانية واحدة، أما الحرب فتعني مساحة رمادية واسعة يتضخم فيها ظل المصالح.

لهذا جاءت اتفاقية الرياض الحكيم المحكم في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 كمحاولة لإعادة ضبط المعسكر وترميم الشرعية من الداخل عبر إطار سياسي وأمني وعسكري يهدف إلى توحيد الإدارة ودمج التشكيلات تحت وزارتي الدفاع والداخلية وإعادة ترتيب مؤسسات الدولة في عدن وإيقاف نزيف الصراع الداخلي. وجود الاتفاق في حد ذاته اعتراف بأن المشكلة لم تعد على أبواب صنعاء فقط، بل داخل بنية المناطق المحررة: من يملك القرار؟ من يدير الأمن؟ من يسيطر على الموارد؟ ومن يتحمل مسؤولية الخدمات؟ وإذا لم تُحسم هذه الأسئلة لصالح الحكومة المركزية بوصفها مرجعية الدولة، فإن أي تقدم عسكري سيظل بلا ترجمة سياسية مستقرة، لأن التحرير بلا مؤسسات مركزية ليس تحريرًا كاملًا، إنه انتقال من فراغ إلى فراغ، أو من فوضى إلى فوضى مؤجلة.

وحين تغيب الإجابة الجامعة عن سؤال أي يمن نريد؟

تتراجع الأطراف إلى هوياتها الفرعية: حزب يحتمي بقاعدته، منطقة تدافع عن حصتها، قبيلة تضمن نفوذها، وجماعة تجعل السلاح بطاقة هوية. الأزمة هنا ليست في التنوع اليمني، بل في غياب العقد الذي يحول التنوع إلى قوة داخل دولة واحدة. من دون ذلك، يصبح الانقلاب الحوثي مفيدًا لبعض الخصومات الداخلية بطريقة غير معلنة، لأنه يبرر بقاء السلاح خارج الدولة، ويبرر تأجيل الاستحقاقات السياسية، ويبرر استمرار سلطات أمر واقع متعددة تحت شعار الضرورة. وهكذا تُخلق المفارقة القاسية: الجميع يعلن أنه ضد الانقلاب، لكن السلوك السياسي المتشظي يمنح الانقلاب وقتًا إضافيًا لأنه يمنع قيام نموذج دولة حقيقي في الضفة الأخرى.

ثم تأتي الطبقة الإقليمية لتزيد المشهد تعقيدًا: الحوثي ليس مجرد تمرد محلي معزول، بل جزء من شبكة صراع أوسع، وتشير منظومة الأمم المتحدة الخاصة بالعقوبات ولجنة اليمن وتقارير فريق الخبراء إلى استمرار التحديات المتعلقة بتدفق السلاح والمواد المرتبطة به والانتهاكات، بما يجعل الحرب عقدة أمن إقليمي لا مجرد نزاع داخلي. ومعنى ذلك أن كل يوم يتأخر فيه توحيد القرار تحت الشرعية والحكومة المركزية لا يمنح الحوثي فقط مساحة داخلية، بل يمنحه أيضًا نافذة لتطوير قدراته وبناء سرديته وترسيخ مؤسسات الأمر الواقع وتعميق ارتباطاته.

لهذا، دعم الشرعية ليس ترفًا خطابيًا ولا اصطفافًا عاطفيًا، بل قراءة دولة: الشرعية هي الإطار الوحيد القادر على تحويل أي إنجاز سياسي أو عسكري إلى سيادة، وعلى منع المناطق المحررة من التحول إلى كانتونات متجاورة تتنافس بدل أن تتكامل. الشرعية ليست معصومة من الخطأ، والحكومة المركزية ليست خالية من الإخفاقات، لكن البديل عن إصلاحها وتقويتها ليس عدلًا سياسيًا، البديل هو تفكيك المعنى اليمني نفسه. وأخطر ما يفعله المشروع الجانبي حين يتضخم أنه لا يواجه الحوثي، بل يواجه فكرة المركز، وحين تسقط فكرة المركز يربح الانقلاب الجائزة الذهبية: يمن بلا دولة واحدة، وشرعية تتآكل بين مطرقة الانقلاب وسندان المشاريع المتوازية.

المسألة ليست صراع أسماء، إنها صراع أشكال: شكل الدولة مقابل شكل الدولة داخل الدولة.

الدولة هي الضوء الذي لا يحب الفوضى، أما الدولة داخل الدولة فهي ظل يتغذى من العتمة ويزدهر كلما طال الليل. وكلما تمدد هذا الظل داخل معسكر الاستعادة صار الطريق إلى صنعاء أطول، لا لأن صنعاء بعيدة، بل لأن البوصلة نفسها صارت محل نزاع. واليقين الوحيد الذي لا يتغير: لا استعادة بلا مركز، ولا مركز بلا حكومة شرعية تُمسك بالخيط من أوله إلى آخره: الأمن والموارد والخدمات والقرار. حين تستعيد الشرعية وظيفتها كدولة لا كعنوان، يتقلص زمن الانقلاب تلقائيًا، لأن الانقلاب يعيش على فراغ خصومه أكثر مما يعيش على قوته. وحين تفهم القوى المناهضة للحوثي أن أكبر هدية يمكن تقديمها للعدو هي تحويل الاستعادة إلى مشاريع بدل دولة، عندها فقط يعود المعنى إلى الحرب: استعادة وطن لا إدارة أزمة.