في الإعلام، كثيراً ما يُقرأ ما بين السطور أكثر مما تُقرأ العناوين. وعندما بدأتُ سلسلة «مبدعون في الذاكرة»، كان في جعبتي كتاب أنجزتُ معظم فصوله ولم يتبقَّ إلا القليل، ولم أرغب في البوح به قبل اكتماله. لكن ضغطاً محبّاً من زملاء كثر، بشكل مباشر وغير مباشر، أرادوا أن أكتب عليهم، جعلني في حالة حرج كبير، ما جعلني اليوم أن أكشف عن مشروع كتابي: «ما فوق المائة مبدع عراقي ذاكرة لا تنطفئ».

هذا المشروع ليس مجرد عمل ثقافي يُضاف إلى رفوف المكتبات، بل هو مشروع وطني قبل كل شيء، مشروع يرفع راية المقاومة ضد الجهل، ويقف في وجه إذلال السلطة للنخب الثقافية والعلمية، تلك النخب التي أرادت لها وزارة الثقافة أن تُختزل في منحة مالية مُذلّة، تُلقي بهم في التصنيفات الدنيا لسُلّم المجتمع.

وهو أيضاً مواجهة لبعض النخب الثقافية المدفوعة بنرجسية مريضة وغرور ولهاث وراء الشهرة والجوائز واللايكات المنافقة، دون أن يكونوا فاعلين مع زملائهم أو أوفياء لرسالة الثقافة.

في العراق، لدينا نخب خارج تغطية الحس الوطني والثقافي، لم نقرأ لبعضنا، ولم نكتب عن بعضنا، بل كثيراً ما سعينا إلى التقليل من شأن المبدعين بالنميمة والرياء والنفاق. لدينا مرضى مهووسون بالنرجسية وحب الذات، وقتلة للإبداع.

نخب ثقافية تلهث وراء أسماء بعيدة، خارج جغرافية الوطن، لتكتب عنها وكأنها تكتشف المعجزات، بينما صديقهم المبدع يجالسهم كل يوم ولا ينال حتى سطرين، يُغرقونه بكلام معسول ولايك سريع خجول، ثم يتركونه في الظل.

وفي المشهد، يتصدّر فرخ الكتابة، نتاج التلقيح الاصطناعي للغرور، منتفخ الأنا، يملأ الساحة ضجيجاً فارغاً كفقاعة هواء، فيما يظل الإبداع الحقيقي مكبّلاً بالصمت، محاصراً بين نفاق الأصدقاء وضجيج الزعاطيط. هكذا صار المشهد الثقافي: ضجيج بلا معنى، نفاق بلا وفاء، وزعاطيط تتراقص على خشبة الثقافة والفكر، بينما الكبار يكتبون بدم القلب ويُتركون في الظل.

سأكتب عن روّاد الفن والثقافة والإعلام والعلم، عن المبدعين الحقيقيين الذين رفعوا اسم العراق عالياً، ليغدو حضارة معرفية جديدة تُضاف إلى سجل الحضارات القديمة، وليكونوا مشاعل تهدي المجتمع إلى نور الحكمة والمعرفة.

سأكتب بلغة باحث علمي موضوعي عن الذين غذّوا العقول بصفاء العلم، بعيداً عن قيود الأيديولوجيا وضجيج الطائفية وضباب الدين والقومية، لأن معيار الإبداع ليس الانتماء ولا الشعارات، بل أن يكون الإنسان عراقياً ذا عقل نقي، عقل يفيض بالصدق، ويزرع الوفاء، ويضيء الطريق للأجيال القادمة.

للتوضيح أيضاً، في كتابتي عن المبدعين ليست مهمتي أن أضعهم تحت مشرط النقد، فقد تخلّيت عن تلك «الجينات العراقية» التي اعتادت أن تجعل النقد مشروعاً دائماً، وكأننا لا نرى في الآخر سوى مواضع الزلل. فليس هناك مبدع في العالم لم يخطئ أو يقع في الهفوات الفكرية، لكن الخطأ لا يلغي جوهر الإبداع، ولا يمحو أثر العطاء.

أنا هنا لا أكتب لأحصي العثرات، بل لأقيم المبدع كظاهرة إيجابية في خدمته للمجتمع، كصوت يضيء العقول ويغذّي الأرواح. إننا بحاجة إلى أن نتعلّم فنّ المحبة، لا فنّ اقتلاع جذور البشر، بحاجة إلى أن نحتفي بما يضيفه المبدع إلى حياتنا، لا أن نغرق في محاكماته الصغيرة. فالمحبة هي النقد الأسمى، والاعتراف بالفضل هو أرقى أشكال الوفاء.

هؤلاء هم الذين أكتب عنهم، لا لأنهم يحتاجون إلى شهادتي، بل لأن العراق يحتاج إلى أن تُرفع أصواتهم، ويُعاد الاعتبار لمكانتهم، ليظلّوا قدوة وضياء في زمن يزدحم بالظلام.

عاتبني الكثير من الأصدقاء والزملاء بمحبة أعرفها جيداً: لماذا تكتب وأنت الأشهر في التأليف والبحث والجوائز عراقياً وعربياً؟ لماذا تكتب عن تلامذتك وأنت الذي علّمتهم؟ أليس الأجدر أن يكتبوا هم عنك في مقاييس العلم والوفاء ونكران الذات؟ لم أجد سوى إجابة حكيم قديم قال: «من يضيء الطريق لا يسأل المسافرين أن يكتبوا عنه، يكفيه أن يواصل إشعال المصابيح».

وهكذا أكتب لا طلباً لمديح ولا سعياً لشهرة، بل لأن الكتابة عندي فعل وفاء، ولأن المبدعين الذين مرّوا في حياتي هم امتداد لروحي، أكتب عنهم كما يكتب الضوء عن الفجر، لا انتظاراً لردّ الجميل، بل حباً بالعراق ومبدعيه، وإيماناً بأن الكلمة الصادقة هي وحدها التي تبقى.

هذا الكتاب هو نشيدي، هو صلاتي، هو قبلة أبدية على جبين العراق. وهو ضميري الذي يكتب بلا نرجسية، بل حباً بالعراق ومبدعيه الذين ينبغي وضعهم في مكانتهم التي يستحقونها. لذلك لا أحتاج إلى شهرة ولا إلى «لايك» منافق، ولا قبلة من مريض مهووس بهوس الشهرة والجوائز واللايكات الزائفة، بل أحتاج فقط إلى قبلة من العراق.