"خلال العقد القادم سنقوم بنشر قوة اكثر مرونة واكثر قدرة على الحركة السريعة، وهو ما يعنى ان المزيد من قواتنا سوف تتم مرابطتها ونشرها فوق ارض الوطن. وسوف نحرك بعض قواتنا وقدراتنا العسكرية الى مواقع جديدة، حتى نتمكن من التحرك بسرعة لكى نتعامل مع التهديدات غير المتوقعة. وسوف نستفيد من المزايا التكنولوجية للقرن الحادى والعشرين لكى نقوم باعادة توزيع قواتنا القتالية المتزايدة، وستساعدنا الخطة الجديدة على القتال وتحقيق النصر فى حروب القرن الجديد. وسوف تقوى تحالفاتنا فى جميع ارجاء العالم، فى الوقت الذى نقوم فيه بتأسيس شراكات جديدة للحفاظ على السلام العالمى بشكل افضل. كما اننا سنخفف الضغط الواقع على قواتنا العسكرية وافراد اسرهم "..
بهذه الكلمات اعلن الرئيس الامريكى يوم 16 اغسطس الحالى عن مبادرة ادارته لاعادة نشر وتوزيع القوات المسلحة الامريكية على مستوى 28 قاعدة عسكرية كانت موزعة فى ارجاء العالم وفق استراتجية مواجهة الشيوعية التى تبنتها واشنطن فى اعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية واندلاع الحرب الكورية.. اعادة انتشار وتوزيع اخذت فى اعتبارها انتفاء مبررات استراتيجية العمل على هزيمة الاتحاد السوفيتى التى حققت هدفها بعد حوالى نصف قرن، وتؤسس لاستراتيجية محاربة الارهاب العالمى التى لا زالت فى بدايتها..
فى اليوم التالى واثناء عودته الى واشنطن بعد زيارة تنسيق الى روسيا قال وزير الدفاع الامريكى " لن يصدر اعلان مفصل عن هذه التحركات التى تدارسنا اسبابها ونتائجها طوال الثلاث السنوات الماضية مع حلفائنا فى كل مكان خصوصا ما يتعلق بالنواحى القانونية وما تحتاجه من ترتيبات واتفاقات جديدة تلائم الاوضاع التى تناسب الحرب العالمية ضد الارهاب ".
الحرب البادرة انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتى وتفكك المعسكر الاشتراكى.. وقبل ان تعود القوات المسلحة الامريكية من قواعدها الخارجية – التى كانت تحيط بالعدو الشيوعى - الى مرابطها داخل ارض الوطن اصبحت الحرب ضد الارهاب وفق المواصفات الامريكية هى شغل واشنطن الشاغل خصوصا بعد احداث 9 سبتمبر المشئوم لذلك لا بد من العمل على هزيمته فى كل مكان..
وبعد ان انضمت دول حلف وارسو السابق الى عضوية حلف الناتو مما جعل دول شرق ووسط اوربا تتحول الى مصدر للامان والاستقرار.. كان لا بد ان يتغير شكل ومهمة القواعد العسكرية الامريكية فى غرب اوربا لكى يتوافق مع الاستراتيجية الجديدة..
العدو الشيوعى كانت له ملامح معروفة وكان له عنوان يستدل عليه وكانت له فلسفة مقروءة وكانت له اهداف خفية يمكن هتك اسرارها، لذلك جاء توزيع القواعد الامريكية متوافقا مع هذا كله.. اما الارهاب العالمى فهو مجهول الملامح والعنوان وان كانت بعض فلسفته مقروءة فاهدافه عصية على الاختراق على الاقل حتى الان. لذلك يجب ان يتبدل نظام القواعد الامريكية العسكرية فى الخارج وفى الداخل بحيث يتلائم مع هذا المجهول الذى استطاع ان يتخفى حتى قام بدوره الارهابى البشع وتمكن بعد ذلك ان يهدد وينفذ فى بعض الاحيان ما اشاع التوتر والقلق فى اكثر من مكان..
الحرب العالمية ضد الارهاب كما يصفها دونالد رامسفيلد تحتاج لحركة سريعة وليس لتعبئة قوات.. وتحتاج الى استخدام احدثت ما توصلت اليه تكنولوجيا السلاح المعروفه وغير المعروفة خصوصا تلك التى جربت بنجاح فى معركة اسقاط نظام حكم صدام حسين.. وتحتاج الى اسلحة فتاكة ولكنها ليست ثقيلة، اسلحة اصغر حجما واشد تدميرا، اسلحة سهلة النقل فى اقل زمن واكثر تحقيقا لمهماتها فى اقل زمن ايضا.. وتحتاج الى تعامل امنى يعتمد على ثورة التكنولوجيا فى جمع المعلومات وتحليلها على مدار الساعة.. وتحتاج الى عدد اقل من العسكريين ومن القيادات ومن العناصر الادارية.. وتحتاج الى كفاءات قتالية من نوع جديد تعتمد على العلم والتقنية بنسبة 90% لتحقيق اهدافها..
اكتشفت قيادات واشنطن السياسية والعكسرية فى ضوء المعارك الحربية وشبه الحربية التى خاضتها القوات الامريكية فى اعقاب حادث 11 سبتمبر الارهابى ان الكثير من قواتها التى تتمركز فى الخارج اصبح فى الموقع الخطأ وان نوعية التسليح الذى يتوافر بين يديها اضحت غير ملائمة، مما حولها الى عبأ غير قابل للاستجابة لاحتياجات مشاكل القرن الجديد وعلى رأسها الارهاب وتأمين مصادر الطاقة كما جعل منها مصدرا لاستنزاف قدرات امريكا وحلفائها بلا نتيجة..
كان لابد اذن ان تتغير هذه الاوضاع التى انسجمت لاكثر من خمسين عام مع عدو ذاق طعم الهزيمة، دون ان يخل الامر بإمكانيات امريكا على مستوى مصارعة عدوها الجديد مع مراعاة نوعيته واهدافه.. وكان لا بد ان تتغير لكى تناسب مخطط الفكر الامبراطورى الامريكى الذى يستعد لاكمال هيمنته على مصادر الطاقة فى العالم والتى تمتد من منطقة الخليج العربى الى منطقة بحر قزوين.. وكان لابد ان تتغير لتلائم دعاوى التغيير والاصلاح التى تنادى بها واشنطن تحسبا تحسبا لتأديب الانظمة الرافضة للتغيير او لاخماد نار قد تشتعل بسبب مطالبة القوى الوطنية بضرورة الاقدام عليها..
هذا التغير فى الاوضاع وفق موصفات الحرب العالمية ضد الارهاب التى اشار اليها وزير الدفاع الامريكى، ووفق احتياجات حماية مصادر الطاقة والدفاع عن الاستثمارات التى تتقاطر عليها.. تطلب :
1 - تركيزا حول منطقة الشرق الاوسط الكبير وشمال افريقيا كما اشار اليها البيان الذى اصدرته قمة الدول الصناعية الكبرى بعد انتهاء اجتماعها فى ولاية جورجيا فى شهر يونية الماضى، خاصة وانه املى على دول المنطقة جميعا شروطا فى مجال الاصلاح بكل مستوياته يستدعى ( من واشنطن وحلفائها ) متابعة جدول تنفيذها او مراقبة القصور فى الاخذ بها قربا جغرافيا تتواجد فيه قوة عسكرية قادرة على الردع السريع الموجع ..
2 - وتتطلب اقترابا عسكريا اكثر اعدادا وأكفأ تقنية من مجموعة دول المحيطة ببحر قزوين حيث يحتاج الامر الى تيقظ شديد الحساسية من ناحية لفرملة اية افكار روسية معوقة قد تأتى بها تيارات تعارض سياسة الهيمنة التى تمارسها واشنطن وفى نفس الوقت حماية الديموقراطيات الناشئة، الى جانب توفير ضمانات الامن التى تحتاج اليها استثمارت النفطية من ناحية ثانية والقضاء على سوق تجارة اسلحة الدمار الشامل السوداء التى يمكن ان تتسرب الى ايدى المنظمات الارهابية العالية من ناحية ثالثة..
3 - وتتطلب تخفيفا ارضيا وتركيزا تقنيا استخباراتيا فى المقام الاول بمنطقة شرق وجنوب شرق آسيا انتظارا لما ستسفر عنه المباحثات التى تصر عليها الحكومة الصينية حول سبل متع التصادم الدولى اى كان شكله ومضمونه فيما يتعلق بالنواحى الاقليمية التى تمليها اوضاع هذه المنطقة من العالم..
هذا التخفيف من عبأ العناصر البشرية ومن المساحات المؤجرة ( آلآف الافدنة ) ومن المنشآت التى تحتاج الى صيانة دورية مكلفة سينعكس ايجابيا على ميزانية الدفاع الامريكية اعتبارا من العام القادم وبالتالى على حجم الضرائب التى تجمعها الهيئات الفيدرالية.. وسيعكس اعادة توزيع العائدون الى ارض الوطن على قواعد امريكا العسكرية داخل البلاد وعددها 202 قاعدة حالة من الاطمئنان والراحة النفسيه حيث انتقدت دارسات عديدة حجم التواجد العسكرى الامريكى خارج البلاد على حساب امن المواطن..
قد يرى البعض ان هذه المبادرة تحصيل حاصل طالما انها لن تبدأ الا بعد عدة اشهر وطالما انها لا زالت تقف بالمرصاد ضد الشعوب دفاعا عن مصالح امريكا المشكوك فى قانونيتها، وبالرغم من ذلك علينا ان ننظر اليها فى الوقت الراهن من زاوية ما توفره من دعاية انتخابية للرئيس جورج دبليو بوش الابن.. تقول هذه المبادرة انه قادر على استخدام القوات العسكرية الامريكية افضل استخدام، وانه قادر على خفض نفقات تشغيلها، وانه قادر على تأمين الجبهة الداخلية، وقادر على فرض استراتيجية جديدة تحارب اكثر اعداء امريكا الذين تجرءوا عليها فى عقر دارها ولا زالو يهددوا امنها واستقرارها وتحمى فى نفس الوقت مصادر الطاقة وتدافع عن استثمارات امريكا فيها !!.


*استشارى اعلامى مقيم فى بريطانيا
[email protected]