حين تحاور محمد العباس لا يمكنك حصر عدد المجانين الذين يحبهم، بدءا من نيتشه مروراً بغيفارا و بودلير و رولان بارت وجاك لاكان وموريس بلانشو. يعتبر اسمه من أبرز النقاد الشباب في السعودية، صدر له: 1. قصيدتنا النثرية ( قراءات لوعي اللحظة الشعرية )،
2. حداثة مؤجلة، 3. ضد الذاكرة ( شعرية قصيدة النثر )، 4. سادنات القمر ( سرّانية النص الشعري الأنثوي ).. في رحلة طويلة كان لنا معه هذا الحوار :

حين ناقش العرب جاك دريدا، قال لهم أنتم لم تقرأوني بشكل صحيح ؟ باعتقادك هكذا كلمة من شخص بقامة دريدا، ألا تضفي اليأس لقلب المبدع من الناقد العربيو القارئ العربي ؟
- جاك دريدا قالها عندما حضر القاهرة ووجه بأسئلة ساذجة تطالبه بأن يعرّف للحاضرين معنى " التفكيكية " بشكل مدرسي، ولم يكن حينها مقروءاً، لأنه لم يكن مترجما أصلا إلا بكتاب يتيم " الكتابة والاختلاف "نقله إلى العربية كاظم جهاد. انها مهزلة بالفعل، وتثير الأسى، العرب ومن خارج التاريخ، ومن عصر ما قبل الحداثة، يعملون بجد ومثابرة وحماقة على انتاج كتب " المرايا المحدبة... والمقعرة... والمسطحة " إلى آخر أشكال المرايا المراوغة التي لوّح بها عبدالعزيز حمودة في وجه جابر عصفور وبقية السلالة الفكرية العربية ( التنويرية !!!! ) لصد الفكر الجديد. انهم لا يعرفون حقيقة حضارية دامغة مفادها أن " الآخر ضرورة للتحضر " نعم، الآخر مهما كان مغايرا أو مضادا أو حتى عدوا هو ضرورة للحداثة والتحديث والتحضر، بل ولوعي الذات أو اعادة تعريفها وانتاجها، فهذا الابدال الثقافي مظهر من مظاهر " مديونية المعنى " كما يعبر عنها مارسيل غوشيه، كامتنان عميق لآخر فتح لنا آفاقا معرفية جديدة.

يقول نيتشه: المنفى هو الحرية، و ماريو بارغاس يوسا تلميذه النجيب يتفق معه.. ماذا عن التلميذ الجديد ( محمد العباس )؟
- قد أكون نيتشويا بالنيات، ولكن ليس لدرجة ترديده كمقولات وحكم منتقاة أو " أفورزمات " بتعبير دولوز، هنالك فرق، كما قلنا بين تمثيل الشيء وتمثله، لا يعني هذا اننا نستعير أولئك ولا نعيشهم انما قد لا نطال نزقهم، أحمل بعض العقوق لنيتشة، فلست نتشويا إلى حد الجنون، ولست بجسارته في تحطيم الأوهام، فالارتطام بالميتافيزيقي، وتخطي الأبوي، والرهان على عجرفة الذكوري مقابل استخدام المرأة بشكل ضمني أو استعاري مسائل يصعب تعاطيها كأفكار دون رافعة أو قفزة نفسية. سأكون كاذبا لو أعلنت مثل هذا الزعم، وفي نفس الوقت لست انتقائيا لدرجة تفصيل نيتشة بمواصفات ذاتية أو شخصية. نيتشة يقول أن المرء لا يكون حرا إلا عندما يكون سيد نزقه، أظنني كذلك إلى حد ما والأهم أني لا أخبئ أرائي ولا أختبئ وراءها، كما تعلمتها منه لا أحتقر القديم لأنه كذلك وفي ذات الوقت لا أكن احتراما لكل ما هو عتيق أحاول أن استغني عن الأشياء والأماكن وليس بها أقر بكل ما هو لا مكتمل في ذاتي لأن هذا يحفزني على الحرية بمعناها الأخلاقي قبل الحاجة إلى المعرفة أحيانا أشتبك مع الآخر، ومن أجله، ليس من أجل تضئيله ولكن لأختبر منسوب احتماله لمعنى الحرية، المنفى كلمة كبيرة، والحرية كلمة أكبر وأعتى أحيانا تتفوه بها كائنات صغيرة فتظن أنها صارت أكبر لا أظنني عند هذه الحافة، ألا تلاحظين كيف يثرثر البعض بعد طقس الاعتراف. كيف يحدث هذا الامر، بصراحة لا أعرف كيف يحدث، المفترض أن يخيم الصمت. أليس كذلك !!؟؟ باختصار، لا يحتاج الكائن إلى قضية أو مكان أو سلطة أو حماقة لنفيه بمقدوره هو أن ينفي نفسه بمجرد أن يقبض على جمرة الوعي أي أن يحمل المطرقة ويبدأ في تهديم الأوهام لئلا يحسب مع قطيع لا يعرف إلى أين يقاد. هذا ما تعلمته من نيتشة في ديالكيتك ( المنفى والحرية ) أي تخطي مجازية الشيء إلى واقع حضوره، وإزاحة المعنى عن دلالاته البلاغية إلى حقيقته كمنبه جمالي.

ظهور الحركات اليسارية في القرن السابق كان له أثر ايجابي في خروج الكثير من المبدعين ( المتحررين ).. ألم يكن هنالك أثر سلبي في اخضاع المبدع لايدلوجية ما، مما أدى الى حرمه من الحوار( السلمي ) مع الآخر ؟
- دعيني أشير إلى عناوين متعددة لمفهوم واحد، يقال بموت الأيدلوجيا، ولكن ألا يمكن القول
" إماتة الأيدلوجيا " أو قتلها، وما تلا ذلك من إعلان " نهاية المثقف " حيث أستعير كل ذلك عربيا، فيما يشبه الاستتابة عن الفعل الثقافي الجاد، والاستدماج في المؤسسة، أو تحويل المثقف إلى مسوّق لرأسمال رمزي، لا أكثر، فبذريعة العقلانية والتواؤم مع المستجدات، تم إخصاء المثقف، واستدمج بشكل الحاقي في المؤسسات مقابل فتات من الوجاهة والمال، أو الهائه بهامش مزيف من الحرية لإرضاء نزواته، بما يكفل له شيئا من المناهضة الاسمية، ويتم عندها انتاج ما يعرف بالوعي المزور.
هذا ما حدث بالفعل، لا شك أن لكل ذلك التداعي علاقة بالإبداع شكلا ومضمونا، حتى من حيث علاقة المثقف بالسلطة والمؤسسة، وفي قلب وروح الأنظمة الشمولية وتلك التي تدعي الديمقراطية، لا أحد يطيق تصورات " الآخر ". أتعرفين وولتر رودني، كم أصاب بالحزن عندما أتذكره، لقد وضعوا القنبلة في رأسه وفجروه لإخماد النبع الذي تتولد منه الأفكار وتتناسل الرؤى التبشيرية بعالم أكثر عدلا. ثمة طابور طويل من الرومانسيين الحالمين بغد انساني أجمل، بغض النظر عن زاوية تموضعهم الأيدلوجي، فهذه السلالة المعتقدة بوظائفية الثقافة، لا تبدأ ببول فرايري ولا تنتهي بعلي شريعتي أو نغوغي واتنغو. تعرفين بالتأكيد معاناة مثقفي الاتحاد السوفيتي- سابقا - مع " الجدانوفية "ومأساة مثقفي الولايات المتحدة الأمريكية مع " الماكارثية ". هنالك من يحاول تجريد الثقافة من معناها الأخلاقي، بحيث تصبح مجرد تاريخ يومي لا معنى له ولا جدوى منه.

محمود دوريش مبدع اشكالي ربما مثله مثل أدونيس من حيث علاقتهما الملتبسة بمفاهيم السلطة وواقع المؤسسة وكذلك جابر عصفور كواحد من أهم أساطين التنوير العربي حاليا.. كيف ننظر إلى مثل هذه الرموز الثقافية ضمن هذا المكمن الوعر؟
- لا أحد فوق النقد أو الملاحظة ولكن لتكن المساءلة نزيهة وموثقة بالبراهين، وليتها تكون داخل النص، ليس من أجل الادانة والتشفي والتحزب ولكن لإشاعة جو من التحاور والتأكيد على أن الديمقراطية هي النتاج الأثمن للثقافة، بالنظر إلى ما بينهما من تلازم بنيوي، ولئلا تعيد القبيلة انتاج نفسها حتى على المستوى الثقافي فتذهب القاعدة ضحية القمة، أو تملي الانتلجنسيا أوهامها على الحشد، فالمثقف العربي مستدمج في المؤسسات منذ زمن بعيد مهما أعلن من عناوين، والثقافة العربية تعيش أكذوبتها بكفاءة منقطعة النظير. لن أتحدث عن أدونيس فهو فيلم طويل وممل رغم كل مؤثرات العولمة لهذا المثقف المنوبل، فرأيه في مسألة الحجاب مثلا يتشكل وفق الإناء الجغراسي الذي يحتضنه.
حول محمود درويش والذين نكصوا، يمكن القول أن انهم من ناحية المواقف يؤسسون لبعض جوانب الأكذوبة الثقافية العربية. لا أدري لماذا يبدو درويش فصيحا حين يطلب منه إدانة الارهاب بإطلاقه، أو ما يسمى تضليلا بالعنف والعنف المضاد، ولكنه نبرته تصاب بالغموض حين يتعلق الأمر بالحقوق الفلسطينية لن أعدد جنايات درويش في اتحاد الكتاب الفلسطينيين فقد فعلها المرحوم غالب هلسا، حيث اتهمه باختصار فلسطين في البرتقال والزيتون، وفتح هذه المؤسسة الهامة لأشباه المثقفين في حين تمنع السلطة كتب المرحوم اداورد سعيد وسخر منه أيضا حين وصف استشهاد ناجي العلي المفجع بالحوارية المتكافئة بين أداتي مواجهة، وهي في الواقع مواجهة غير متكافئة، بين الكلمة القاتلة والرصاصة القاتلة، لقد سمى كل العاهات الثقافية بأسمائها. ألم تشاهدي على شاشات التلفاز كرزاي المثقفين ( يحيى يخلف ) يستبسل في الهتاف لعرفات وكأنه يشجع فريق كرة قدم درجة ثالثة.. ما الذي تتوقعينه من شاعر يتنازل عن قصيدته " عابرون في كلام عابر " التي كتبها بعد شهر من اندلاع الانتفاضة فألهبت الشارع العربي، ثم عاد ليصفها بأنها " فشة خلق " لمجرد أن قطعان المستوطنين وعلى رأسهم شامير وعاموس وصفوها بالقصيدة الخرائية لن أعيد هنا ما قاله المرحوم محمد شكري عن درويش لحظة لقائه به في المغرب درويش أحبه شاعرا.. ولا أراه صاحب موقف، وبالتالي فهو على درجة من التماهي مع التصور المؤسساتي والرسمي العربي أما جابر عصفور الذي كتب ( اسلام النفط والحداثة ) فبحاجة إلى دراسة وتحديدا في الكيفية والآلية التي جعلته أحد سدنة هذه الثقافة.

يتبع