حاوره صلاح سرميني ـ باريس: منذ الغزو الأمريكيّ، وسقوط صدام حسين، ونظامه،..تتلاحق الأحداث في العراق، وتتغيّر، ماعدا المخرج (سعد سلمان) الذي لم يتبدّل، لا بأفكاره، ولا بطقوسه، فمازلتُ أذهب إليه في نفس البيت الذي يقع في الطابق السادس من إحدى عمارات مُجمّع سكنيّ في الدائرة العشرين لمدينة باريس، ومازال بدوره يستقبلني بنفس الإبتسامة الطافحة على وجهه، وهو يخفي وراءها عصبيةً كامنة،.. ونجلسُ معاً في نفس المطبخ، كيّ نحكي، و نسولف، ونحتسي الجّاي العراقيّّ المغليّ على نارّ هادئةّ ليل نهار.
وقبل الحرب، طرح (سعد سلمان) أفكاره علناً في الوسائل الإعلامية، الفرنسية، والعربية، عن التدّخل الأمريكيّ في شؤون العراق، وآفاق المستقبل. التقيناه في باريس وها هنا الجزء الثاني والأخير من حوارنا معه:
* في الدورة السادسة لـ(بينالي السينما العربية) عام2..2 لم يُعرض فيلمك(بغداد On/Off)، ووقتها أثرت ضجةً كبيرةً في الصحف، والمجلات العربية، والفرنسية، وأذكر بأنك كنت حاضراً بنفسك في كلّ أيام المهرجان تتحدثُ عن فيلمك يميناً وشمالاً، وأضفى ذلك نكهةً خاصةً، إفتقدناها في الدورة السابعة للبينالي عام 2..4، مع أنني توقعتُ تواجدك بمناسبة برنامج(لقطةٌ مُكبّرة على السينما العراقية)، وتضمّن فيلمك الذي رُفض سابقاً،..
- فيلمي لم يرفض، وإنما إستبعد.
*حسناً،..بحثتُ عنك بين جموع الضيوف الذين حضروا من العراق، أو المنافي، ولم أجدك، أين كنت في ذلك الوقت؟
- جسدياً، كنتُ في العراق، وفكرتُ بالعودة إلى باريس في نهاية شهر حزيران، ولكنني أجلت سفري حتى لا يتوافق مع تاريخ إنعقاد البينالي، وذلك لأنني مُعترضُ جملةً وتفصيلاًً على طريقة تمثيل العراق في هذا المهرجان، وعلى طريقة تعامل(معهد العالم العربي) مع العراقيين.
* تضمّن البرنامج مختارات من بدايات السينما العراقية، مع نصف ساعة من فيلم (عُليا وعصام)...
- لقد تعبنا من هذا الهراء، ماذا يعني أن نقدم فيلماً مصنوعاً منذ ثلاثين سنة، بمواصفاته المحلية الرديئة، ولغته السينمائية البدائية للجمهور الفرنسي، هل هذا ما ينتظره من السينما العراقية!
* ولكنه، كان من المفيد التعرّف على بدايات السينما العراقية، وقبل أن تقاطعني مرةً أخرى، وتحتدّ في وجهي، أُذكّرك أيضاً بفيلم (المنعطف) لمخرجه (جعفر علي)، و(الظامئون) لمحمد شكري جميل، وهناك سينما المنفى، ومنها فيلمك (بغداد On/Off)، وفيلم (عراقيّون) لعباس فاضل، و(زمان رجل القصب) لعامر علوان، ماذا تريد أكثر من ذلك؟ وفي نفس الوقت، إعتمدت الإختيارات على ماهو متاح، ومتوفرُ من نسخ الأفلام، لأنك، كما تعرف، أصبح أرشيف السينما العراقية مفقوداُ، أو مُدمراً، أو مسروقاً،.. ولا داعي لمهاجمتي، أُذكّرك بأنني لست واحداً من إدارة المهرجان التي أوكلت مهمّة تنظيم، وتنسيق التظاهرة إلى (إنتشال التميمي) الذي تعرفه جيداً.
- عزيزي، أولاً، إذا كانت إدارة المهرجان قد أوكلت تنظيم تلك التظاهرة، أو تنسيقها إلى شخص ما، فلأنها تعرفه جيداًً، وقد قام بنفس المهمّة في عهد (صدام)، وأُذكّرك، بأنّ جميع الأفلام، بما يُسمى أفلام العراق، قد عُرضت في مناسبات عدّة في قاعة (معهد العالم العربيّ).
أُذكرك أيضاًَ، بأنّ المدعوين من العراق لتلك الدورة، والتي إختارتهم (ماجدة واصف) مديرة المهرجان، هم نفسهم الذين حضروا في الدورات السابقة عهد (صدام)، وكان (إنتشال) يؤدي نفس المهمّة بالضبط، فأين العراق الجديد، أيّ وجه للعراق نريد أن نقدم اليوم، هل هناك بالفعل عراق جديد، أم إمتداد ثقافيّ بائسُ، ومتخلف، نحرص عليه دائماً، بمثابة الوجه الفنيّ للعراق، أقسم لك بأنه خلال إقامتي السنة الماضية في العراق طوال أكثر من ستة شهور، فقد وجدت هناك طاقات، وإبداعات، وأفلاماً قصيرة، وإنتاجات رائعة لشباب، وخاصة في كردستان العراق.
* هل نسيت بأن عنوان التظاهرة (لقطةٌ مُكبرة على السينما العراقية)، وليست عن السينما الكردية؟
- وأين نضع الأكراد؟؟؟ أليسوا عراقيين، ولهم الحق بأن يعبروا عن هويتهم داخل الهوية العراقية؟ وهذا أحد أسباب إعتراضاتي على تلك التظاهرة، لأنها أهملت الإنتاج الكرديّ إجمالاً، بحجة تنظيمها في (معهد العالم العربي)، والأكراد ليسوا عرباً.
* كان هناك فيلم (جيان) لمخرجه الكرديّ (جانو روجبياني)، وأذكر بأنّ إدارة المهرجان كانت تفكر بعرض فيلم ( فودكا ليمون) للمخرج الكردي(هينر سليم)،...
- أنا لست بصدّد النوايا، أنا أتحدث عن النتائج، وفي هذه المرحلة بالذات، والعراق يشغل الصفحات الأولى للإعلام العالمي، فإنه ليس من المعقول أن تُقام تظاهرة عن السينما العراقية، وليس هناك متفرجاً واحداً في القاعة، عدا الضيوف القادمين من العراق، والذين حفظوا تلك الأفلام عن ظهر قلب، أنا بصدّد تشخيص فشل التظاهرة، ما مضى، قد مضى، وقد ضيعنا فرصةً كبيرةً لتنظيم لقاءً ثقافياً مع الجمهور الفرنسيّ، وكانت إحدى إعتراضاتي بأن (معهد العالم العربي) ليس المكان المُؤهل لإقامة تلك التظاهرة، لأنه مؤسّسة ديبلوماسية ملغومة بالفكر القوميّ المُعادي لكلّ ما يطمح إليه العراق، ويتحكم فيه مسؤولون موظفون، همّهم الحفاظ على مقاعدهم فقط.
* سعد، ما رأيك بأن أقترح على إدارة البينالي بأن تُنظم بنفسك تظاهرةً عن السينما العراقية، والبينالي بشكل عامّ؟
- عزيزي، إنك لم تنتبه إلى ما قلته سابقاً، إنّ فشل هذه التظاهرة مع فلان أو آخر يرتبط دائماً بطبيعة، وتركيبة (معهد العالم العربي) ذاته، ونفسية القائمين عليه.
الإشكالية ليست من يُنظم هذه التظاهرة، أو تلك، ولكنها أبعد من هذا، وكي أكون أكثر وضوحاً، هل هناك مكان للعراق الجديد، وأركز على كلمة الجديد، في مؤسّسة همّها الحفاظ على ما هو قائم في الوضع العربي، هذه مؤسّسة ديبلوماسية توافقية مع الحكام العرب، ويتكون مجلس إدارتها من مجموع السفراء العرب في فرنسا، ولهذا، فأنا لا أتصور بأنّ هؤلاء يمتلكون همّاً ثقافياً، وإبداعياً.
ثانياً، العراق، وأركز دائماً على (الجديد)، هو موزاييك ثقافيّ، قوميّ، مذهبيّ، والأقليات فيه جزءٌ من تركيبة (الأمّة العراقية)، فهل من المعقول إلغاء ثروة التنوع هذه، والإنضمام تحت راية الديبلوماسية العربية، بما فيها من موظفين يدّعون الثقافة، ومثقفين يتزلفون للسلطة، هذا هو موقع(معهد العالم العربي)، وهذا هو جوهر إعتراضي على تنظيم تلك التظاهرة في ذلك المكان، والتأكيد على فشلها الذريع تنظيماً، والإشارة إلى غياب الجمهور عنها، وإنصرافه لمتابعة تظاهرات أخرى تحتفي بها باريس.
* على الرغم من التنوع الثقافيّ للعراق، فإنه على حدّ علمي، لا يوجد سينما أشورية، كردية، صابئية، شيعية، أو سنية، (لقطةُ مُكبرة على السينما العراقية) شملت بأفلامها، ومخرجيها، ومضامينها، وموضوعاتها كلّ هذا التنوع الذي تتحدث عنه،..
- يا أخي، لم أكن أقصد السينما الطائفية، وإنما تحدثت عن التنوّع العرقيّ، والإثنيّ، وتركيبة العراقيين لا تسمح لنا بإختزالهم في عراق عربيّ، هناك أكثريةٌ عربية، هذا صحيح، ولكنّ العراق ليس عربياً مئة بالمئة، ولا هي هويته التي يتشارك فيها أبناء المنطقة، ويتفاعل مع معطياتها، ولكنّ هذا الشعب، يمتلك تفكيراً خاصاً، ولا يمكن أن يدخل كله في هذا المجاز المُبهم: (العرب)،..
* سعد، لقد أوجعت دماغي بأفكارك، وأرغب الإشارة إلى ما يحدث في العراق اليوم: جمعيات، ورش عمل، دورات، مشاريع، مهرجانات، وأفلام،....ماهو دورك في هذا الغليان؟
- هناك عدة ورش، وأفكار، ومشاريع مطروحة، سواء من عراقييّ الخارج، أو الداخل، وهي ظاهرةٌ إيجابيةٌ جداً، ولكن، يكمن فيها بعض السلبيات، والمُعوقات الثقافيةّ، السلوكيّة، الماديّة، أو النفسيةّ،...
الإشكالية الحالية، وهي مرئية من قبل الذين جاؤوا بمشاريع، وحاولوا إنجازها داخل العراق، بأنّ هناك علاقات حرفية، وإنتاجية سائدة في الوسط السينمائيّ، والفنيّ بشكل عام، لا تنتمي إلى المهنية بشئ، ولكنها تقترب كثيراً من أخلاقيات الإرتزاق.
لقد ترك النظام البائد بثوراً، وتقيّحاً في كلّ الجسد العراقي، وهذا ينطبق بصورة أكثر وضوحاً على ما يُسمى بالعلاقات الإنتاجية المُتعارف عليها هناك، وأخلاقيات العمل، والإهمال في التنفيذ، وبشكل خاصّ، الإنغلاق التامّ ثقافياً، وترسخ ثقافة الرأيّ الواحد، مدعومةً بخوف حقيقيّ من الحرية، جعلت عملية بناء إنجاز إبداعيّ من أصعب المهمات حاليا، لأنّ العمل السينمائيّ يعتمد على علاقات إنتاجية صارمة.
* يبدو أنك في حالة قرف، لماذا تستمر في العراق، إرجع إلى فرنسا يا أخي، وعشّ حياتك مع محترفين ومنضبطين، وإحصل على تمويل من القنوات التلفزيونية الفرنسية، والمركز الوطني للسينما، وليس لديك مشكلة معه، ولا مع المجتمع الفرنسي الذي عشت فيه 3. سنة؟
- من السهل الحكم على هذه المعادلة عقلانياً، وأنانياً(مصلحياً)، ولكن، بعد ثلاثين سنة من الغياب، وإنهيار نظام (صدام)، شعرت بأنّ ذلك الصنم، الحاجز الذي حجب العراق عني، قد إنهار، ولم يعدّ معنى للمنفى، بعد أن كان هويتي، إنّ العودة إلى العراق في الوقت الحاضر، والمساهمة في بنائه، تمنح الوطن بعداً أخر، وفي إعتقادي، بأنّ الإلتزام الحقيقي، هو إلتزامي اليوم إزاء عراق الغد، وقد ولى عهد الشعارات، والأماني، وبدأ عهد العمل، والبناء، هناك حريةٌ في العراق، ولديّ الإمكانيات لتحريك العملية الإنتاجية فيه، وهناك حلمي الذي إحتضنته لمدة ثلاثين عاماً، وهو العمل في العراق بحرية، فماذا تنتظر مني، لقد توفرّت لي كلّ الشروط، وسوف أبقى هناك، وأبني ما أستطيع، مادامت حريتي مُصانة.
إنني أعيش اليوم حالةً تشبه تلك التي واكبتني في سنتي الأولى من المنفى قبل ثلاثين عاماً، لقد بنيتُ، وأسّستُ، وكونتُ علاقات في المجتمع الفرنسي، وطورت شخصيتي الفنية، ومساري المهنيّ بدعم من أهمّ جهة سينمائية في فرنسا، المركز الوطني للسينما، وأستطيع القول، بأنني طفل هذه المؤسسة، وهذا لا أنساه أبداً، وعلى الرغم من رجوعي إلى العراق، وإستقراري فيه، سوف تبقى بصمات الثقافة الفرنسية مُلازمة لي، وخاصةً اللغة.
*وهل صادفتك صعوبات ما لتحقيق مشروعك في العراق الجديد؟
- في البداية، عند تصوري لمشروع تكوين ورشة سينمائية في (بغداد)، سمحت لنفسي بأن أحلم كثيراً، أو بمعنى أخر، تصورت بأن عملية البناء سوف تجري، وكأنها في فرنسا، ولم أتخيل حجم التحديات، والمُعوقات إلاّ من خلال ملامستي للواقع العراقي المُضطرب، بالإضافة للأسباب المهنية، والأخلاقية، والسياسية التي ذكرتها سابقاً، هناك تحديات خصوصية نابعة من الإيقاع العراقي الآن، مثلاً: إنقطاع الكهرباء، إزدحام الشوارع، الوضع الأمني، حرارة الجو،... هذه أشياء لم أحسب لها أيّ حساب، لا في الميزانية، ولا في الوقت، مع أنها أخذت مني وقتاً كبيراً، وجهداً، ولكنني وجدت أخيراً مكاناً مناسباً يلائم متطلبات الورشة، ونشاطاتها، وأسّست جمعية، وإلتقيت مع المنتمين للوسط الفني من خريجي المعاهد الفنية، وإخترتُ خمسةً منهم كدفعة أولى لتكوين فريق عمل مبنيّ على أسّس حرفية حقيقية، يعيش همّ السينما، وقد إستطعنا خلال الأشهر الأخيرة من تصوير ثلاثة أفلام، ونحن في المراحل النهائية من تصوير الفيلم الرابع،..
وقد شعرت بحماس، ورغبة التعلم عند هؤلاء المُتدربين، وأصبحت مهمة تكملة المشوار معهم واجباً، ومسؤولية، وأنا متأكد بأنهم سوف يمنحوا الكثير، ويُثبتوا بأنّ العراق يذخر بطاقات جيدة، إذا أحسنا إزالة التربية السيئة.
السيرة المهنية للمخرج (سعد سلمان):
ُولد سعد سلمان في 9 فبراير/شباط من عام 195. في بغداد
في عام 1969، حصل على دبلوم معهد الفنون الجميلة في بغداد، وأصبح مخرجاً في التلفزيون العراقيّّ، في نفس السنة، دفعته مبادئه السياسية لمغادرة العراق
*في عام 1972، حثه الحنين للعودة إلى بلده، فقضى عاماً في سجن قصر النهاية
*في عام 1974، غادر العراق مرةً ثانية، وعاش في بيروت، حيث عمل في الصحافة، والسينما
*في عام 1976، دفعته مناخات الحرب الأهلية اللبنانية إلى الرحيل، وهذه المرّة إلى باريس، حيث أنجز الأفلام التالية:
1982: (بسبب الظروف) (8. دقيقة)
1984 (كان يامكان، بيروت) (2. دقيقة)
199.: (رامبو، ساعة الهروب) (52 دقيقة)
1991: (من على شرفة رامبو) (2. دقيقة)
1992: (إحكي لي شيبام) (43 دقيقة)
1993: (الطريق) (3. دقيقة)
1994: (تنويعات على الحجاب)(3 1 x دقيقة)
1996: (فيزا إلى الفردوس) (6. دقيقة)
1998/1999: (المحاكمة K: عمر ردّاد) (95 دقيقة)
2.../2..2 Baghdad On/Off 86 دقيقه مؤلف عددٍ من القصص، نُشرت في مجلاتٍ ثقافية عربية في: دمشق، بيروت، بغداد، ولندن
التعليقات