حوار مع الباحث التونسي محمد الحداد الساعي إلى تأويل العالم

حاوره د. إسماعيل نوري الربيعي-تورنتو: ينحت في الصخر، يحفر بجدية المجتهد الدؤوب، بلوغا نحو الإقتراب من خيط المعنى، لاتفتأ تراه وقد علق المداد بأرنبة أنفه، أو التصق الورق بصدغيه، كأنه الساعي نحو ترسيخ تنزلات النص، في اقتران روحاني، ينبيء عن إخلاص قل أن يتوافر في هذا الزمان، حيث ثقافة الهامبورغر تطيح بدسم الثريد. منشغل حد النخاع في الكشف عن آليات الخطاب، تلك التي تأخذ منه كل مأخذ، وتقطع عليه كل سبيل، هو الدائب نحو تحرير المعرفة من هراءات التقمصات وشذاذ الآفاق الذين يتوفرون بإسراف، حول مائدة الثقافة، حتى تناثرت محتوياتها وفقدت جل مافيها من مكونات.
كيف نقرأ ومن أين نقرأ ومتى ولماذا وحتى السؤال المليون، يبقى هذا المحمد الحداد مترصدا سيل الأسئلة الجارف من أجل الوقوف على أطراف المعنى، من دون إدعاء بإحتكارها أو حتى تملكها. يتبصر في القراءات بعقل المجتهد الخالي من سقم العرفانيات والمطلقات والكليات وهذيان التأملات، مجرب حد النخاع في وقائع التاريخ، يفعلها من دون تماثل أو تعميم، يغور متفحصا في المصير والمدركات الباطنة عله يقف على تضافرات الوعي الذاتي، خلاصا من ربقة الجواهر والتطابقات وسيادة الشكلي.
داع حد العظم نحو إعادة النظر في كل شيء، يتماهى مع ليسينج في البحث عن الحقيقة بعيدا عن السقوط في دوامة امتلاكها. وهو الدائب والمتطلع سعيا نحو الوجود الحقيقي حيث الإحتمال الذي تقدمه الممارسة.

* في لحظة الفصل الشديد والقاسي الذي يعيشه العالم، بين الأيديولوجي والمعرفي، يتبدى العالم العربي في أشد حالاته ضنكا وحيرة وبلبلة، أين يكمن دور المثقف؟
- دور المثقف هو دائما في جانب النقد. والنقد شرط امتناع الأيديولوجيا من أن تستبد بالمعرفة. الأيديولوجيا هي تفسير ظاهرة معينة من زاوية واحدة لا غير، فهي ليست دائما على خطأ، بل هي أحيانا ضرورة عملية. لكن التاريخ يخضع لضرورة التغير، فلا بدّ أن يسمح للعقل بالتفكير الحرّ وإن لم تبد نتائجه في الحين، إن التفكير الحر استباق لكل الاحتمالات الممكنة في المستقبل. في مجتمعاتنا يظل الفكر غائبا والمعرفة مجرد تكرار، لذلك نحن غائبون عن ساحة الفعل المبدع مكتفون بتلقي الأحداث والأفكار عاجزون أن نستبق التطورات قبل أن تقع أو نتكيف معها بعد وقوعها. إذا لم نسمح بالمعرفة النقدية الحرة فسنظل في هذا الوضع قرنا آخر.

* في الدأب نحو إشاعة المعنى من قبل القوى الفاعلة والمؤثرة، يكاد يكون الحديث عن التنوير وكأنه ضرب من الهذيان، فالجميع متمسك بما يملك، الزهو في أقصاه، ومن هذه الأقاصي يتم الإمساك بخناق العالم إلى الحد الذي يكون من العسير أن يتنفس.
-سؤال جيد. المعنى تتحكم فيه القوة، لكن حذار، فالقوة هي غير الشرعية. الآن الوضع كما تصفه، والزهو في أقصاه، لأن مختلف القوى الفاعلة تظن أن بإمكانها أن تحسم المعركة بالقوة. توجد على الساحة حفنة دولارات رمتها جهات عديدة مشبوهة ومتناقضة المصالح فأنصاف المثقفين راكعون متدافعون للحصول على نصيب منها، الماركسي الذي تحوّل مساندا للأصولية أو لأمريكا، وناقد الأدب المبتدئ الذي تحوّل مختصا في الإسلاميات، وعميل المخابرات الذي أصبح وجها مألوفا في الحوارات التلفزيونية، ووزير الداخلية السابق الذي أصبح ناشطا في حقوق الإنسان، الخ. إنها فوضى المعنى كما تقول، لكنها في رأيي ظاهرة عابرة سوف تتواصل بضع سنوات لا أكثر. لا يمكن لأحد أن يمسك بخناق العالم. معركة المعنى هي معركة حول الشرعية، وفي هذا المستوى لا تنفع وسائل الإعلام التي أصبحت سبيل الأقوياء لإسكات الآخرين كما لا تنفع كل والوسائل الأخرى للإرهاب. إن التنوير قادر دائما أن يستمر ويصمد والنتيجة لا تتحدد على مدى شهور ولا سنين، ينبغي أن نتقبل هذه القاعدة. لقد قضي لوك ومونتسكيو قبل ظهور أول نظام يفصل بين السلطات، ومع ذلك فهما اللذان انتصرا في النهاية.

* عن أية شرعية يمكن الحديث، في ظل الإسراف الذي يتبدى عيانا جهارا من قبل الفاعل الإجتماعي في سبيل السيطرة على السلطة الرمزية.
- طبيعي أن يسعى كل فاعل اجتماعي للسيطرة على السلطة الرمزية، لكن هذه السلطة ليست شيئا محسوسا ومعينا يمكن السيطرة عليه بقوة الاستحواذ والغصب، ثم تنتهي القضية. السلطة الرمزية حراك متواصل، أنت تكمم الأفواه وأنا أطلق النكات الشعبية لنقدك، ما عسى تجدي كل وسائل السيطرة أمام المسالك العديدة التي يبدعها التعبير؟ لا أحد يمكن أن يحسم نهائيا معركة المعنى أو يسيطر نهائيا على السلطة الرمزية.

* هل هو واقع أم عدة واقعات، الإجتماعي والثقافي والسياسي والخطابي والإقتصادي، أين يمكن تلمس نقطة الإستقراء والتحليل؟
- اعتقد أنه عدة واقعات متداخلة لكل منها منطقه الخاص، لكن المحصل العام هو نتيجة تفاعل المجموع. والمحصل ليس الأجزاء تتراكم بل الكل يتشكل من خلال تفاعل معقد بين الأجزاء. لقد بدأ منذ فترة تفكير المعقدات، لكن ذلك لا يلغي ضرورة التمييز الإجرائي بين واقع وآخر لغاية الدرس. كل ظاهرة تفصل مؤقتا عن سياقها العام لتكون موضوع بحث، دون إغفال طبيعة هذا الفصل باعتباره فصلا إجرائيا لا واقعيا.

* بين المضمون والحراك التواصلي ثمة تماه يعسر على المراقب تبيان الفواصل بينها، هل يحتاج الأمر إلى دربة أم مهارة، خصوصا وأن الحديث عن موضوع المنهج في الواقع الثقافي العربي، يشي بالكثير من التداخلات، بل والتناقضات؟
- أحاول منذ فترة طويلة أن أوجه الاهتمام إلى قضايا المنهج. من يبني المنهج يبني المعرفة. ما سوى ذلك لا يكون إلا استنساخا. لقد صنفت مرة الثقافة السائدة أصنافا، تحدثت عن المثقف الثرثار الذي يعتبر البحث فنا في تنميق الكلام وتسويد الصحف، والمثقف المتذوق الذي يطبق مناهج لا يدرك خلفياتها الفلسفية، والمثقف المؤدلج الذي يعفي نفسه من معاناة البحث عن المنهج بحرارة اليقين أنه عثر على المنهج الكامل الذي يفتح كل أبواب المعرفة. المثقف الحقيقي في رأيي هو المنخرط عن وعي في قضايا المنهج التي لا يستقر لها قرار.

* معضلة صياغة القضايا بشكل جديد، إلى أي حد يمكن للمثقف العربي أن يندرج في فعالية التفكير الجاد والعميق، وهو المحمل بوزر التناقضات التي يفرزها الواقع، حيث الهيمنة والتسلط والقيود وشراك السلطة والأعراف؟
- أجل تبدو العملية شاقة جدا بل شبه مستحيلة. كيف للمثقف العربي أن يواجه التحدي؟ بل المثقف الغربي أيضا فقد أدواره المؤثرة وأصبح مجرد خبير أو موظف. هل هي نهاية هذا الشكل الاجتماعي الذي ظهر مع بداية العصر الحديث وأطلق عليه اسم المثقف؟ لو كنت على يقين أن الجواب بنعم لتوقفت عن الكتابة، ولو كنت على يقين أن الجواب بالنفي لتوقفت عن الشك. لكن الجواب لن يتضح عن قريب فلا مناص من مواصلة الكتابة تحت وطأة الشك، ما يضخم ضنك الكتابة ومعاناتها، ذاك قدرنا.