حوار موسع مع أستاذ الأدب العربي في جامعة حيفا رؤوبين سنير (3/3):

حاورته لإيلاف كاتارينا لاك: رؤوبين سنير، أستاذ الأدب العربي في جامعة حيفا، من أبوين عراقيين، وولد في حيفا عام ١٩٥٣. أصدر عدة كتب في النقد الأدبي منها ركعتان في العشق: دراسة في شعر عبد الوهاب البياتي صدرت عن "دار الساقي" (٢٠٠٢) وله عشرات المقالات النقدية في كبريات المجلات الأدبية العالمية. التقيناه في مدينة برلين في ألمانيا حيث يقوم بمشروع بحث عن أدب اليهود العرب تلبيةً لدعوة من معهد العلوم المتقدمة ببرلين، وهنا الحلقة الثالثة والأخيرة من حوارنا معه:

* هل يؤدي وجود أدباء عرب يكتبون بالعِبرية ووجود أدباء يهود من أصل عربي يكتبون أو كتبوا بالعَربية - وفلنذكر سامي ميخائيل وشمعون بلاص وإبراهيم عوبديا وكذلك إسحاق بار موشيه وسمير نقاش اللذين تُوفّيا أخيرا - إلى تأثيرات متبادِلة بين آداب اللغتين العربية والعبرية؟
- لا أعتقد أن هناك تأثيرات كبيرة بين الأدبين. يجب أن نعرف أن الأدب العربي في إسرائيل هو جزء من الأدب العربي ككل. عندما يكتب شاعر كسميح القاسم قصيدة فيوجهها إلى ملايين من القراء العرب ولا يهتم بالقراء الإسرائيليين. بالطبع عندما يترجَم أو يريد أن يترجَم يحاول التواصل مع الجمهور الإسرائيلي أيضا. ولكن في الأساس الكاتب العربي في إسرائيل يتوجه بكتابته إلى القراء العرب خارج إسرائيل.
أما الكتاب العرب الذين يكتبون بالعبرية فأغلبيتهم لم يحصلوا على صدى من قبل الأوساط العربية. مثلا أنطون شمّاس كتب بالعربية في بداية السبعينات ولم يلاق اهتماما كبيرا من الطرف العربي فأخذ يكتب بالعبرية وكان له نجاح عند القراء الإسرائيليين. مثلا كتابه "ارابيسك" نشر بالعبري وترجم إلى سبع لغات أخرى ولكنه لم ينشر بالعربي حتى الآن.


* لماذا؟ هل هي رواية خاصة بالسياق الإسرائيلي وبلا اهتمام للقارئ العربي؟
- هذه الرواية تعتبر رواية عربية كتبت بالعبرية. أعتقد أن أنطون شمّاس لم يهتم بالقارئ العربي عندما نشر هذه الرواية في الثمانينات. كتب الرواية لأنه اعتبر نفسه جزءا من الثقافة الإسرائيلية أو أراد أن يكون جزءا منها. ولكن كونه عربيا دائما كان عاملا في النقد الذي كتب عن رواياته فمعظم النقاد لم يهتموا بالنواحي الجمالية والأدبية بل بالنواحي الاجتماعية والوطنية: ها هو كاتب عربي يكتب بالعبرية ويدعو العرب إلى الاندماج في المجتمع العبري. ولكن الأغلبية العربية لا تريد أن تترك العربية، خصوصا المسلمون لأن العربية تعتبر لغة مقدسة، فهي لغة القرآن الذي أنزل بلسان عربي مبين.


* ما هو رد فعل المثقفين العرب في إسرائيل على هؤلاء الأدباء اليهود الإسرائيايين الذين يكتبون بالعربية؟
- إنهم لا يهتمون بتاتا بهذا الأدب. وبالتالي الكاتب اليهودي الذي ينشر باللغة العربية يصبح محروما من الجانبين: اليهود يعتبرونه عربيا والعرب يعتبرونه يهوديا فهو ليس مقروؤا تماما. فمثلا سمير نقاش من أكبر الكتّاب العرب في عصرنا ولكنه توفّي دون أن يملك الأشياء الضرورية للحياة الكريمة وتستطيعين أن تجدي في شقته الصغيرة في مدينة بيتاخ تكفا مئات النسخ من كتبه التي نشرها على حسابه دون أن تدرّ عليه أي أرباح.


* إذا نظرنا إلى الشعر المؤلف بالعربي فلدينا معلومات كثيرة ومتعددة عن العناصر الأسلوبية التي أخذها هذا الشعر عن الحركات الأوربية والأمريكية الحديثة. ولكن كيف ينبغي أن نتصوّر علاقة الشعر العربي مع الشعر العبري؟ وما هي أوجه الشبه بين تجربة الشعر الحديث في إسرائيل والشعر العربي الحديث؟
- الشعر العربي الحديث والشعر العبري الحديث كلاهما نشأ في الخمسينات عندما أخذ كتاب من الطرفين يكتبون نوعا جديدا من الشعر. أعتقد أن تأثير الثقافة الأوربية على الشعر العبري أكبر، أولًا لأن أغلبية الشعراء الإسرائيليين كانوا إما أوربيين أو من عوائل أوربية وأغلبيتهم كانوا يجيدون اللغات الأوربية كالانجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو الروسية. في الشعر العربي التأثير الغربي جاء بطريقة غير مباشرة لأن معظم الكتاب العرب لم يقرؤوا الشعر الغربي باللغة الأصلية بل قرؤوه من خلال الترجمات. حتى اليوم أعتقد أن عدد الشعراء العرب الذين يجيدون لغات أجنبية قليل نسبيا. صحيح أن اللغة الفرنسية مستعملة جدا في لبنان وفي دول شمال إفريقيا ولكن معظم الإنتاج الانجليزي قرئ من خلال الترجمات وليس في الأصل. أعتقد كذلك أن العلاقة بين الشعر العبري الحديث والشعر القديم أو مصادر الثقافة القديمة هي أضعف من علاقة الشعر العربي بالموروث الثقافي القديم. مثلا حتى شعراء قصيدة النثر العرب لهم علاقة قوية مع الثقافة العربية القديمة. لا تتصوري أن شاعرا كسركون بولص أو عبد القادر الجنابي ليس متأثرا بالأدب العربي القديم حتى إذا لم تستطيعي أن تشاهدي ذلك في شعرهما مباشرة. بالطبع كان للجيل السابق كجيل البياتي وعبد الصبور وأدونيس صلات قوية مع الموروث الثقافي. أصدر أدونيس أنطولوجيا للشعر العربي القديم وهي من أجمل ما نشر في هذا المجال. أعتقد أن في الشعر العبري اللجوء والاستناد إلى الثقافة الغربية أقوى بكثير.


* في العربية يوجد ما يعرف باسم قصيدة النثر ورغم أنها قدمت بشكل خاطئ إذ هي أقرب إلى الشعر الحر الأوروبي منها الى قصيدة النثر العالمية المعروفة ككتلة وليس كأبيات مشطّرة كما ينشر في العربية. في تجربة الشعر الإسرائيلي، هل يوجد هذا الخلط وما هي تطورات القصيدة الإسرائيلية من هذه الناحية الشكلية... أوضح هل هناك ثورة أشبه بثورة شعر التفعيلة العربي، وقصيدة النثر العربية.
- ما نجده في الشعر العربي الحديث من القصيدة التقليدية والشعر الحر وقصيدة النثر على أشكالها المتنوعة نجده أيضا في الشعر العبري ولكن القصائد التقليدية العبرية كتبت تقريبا فقط في فترة الأندلس من القرن الحادي عشر حتى القرن الثالث عشر؛ وهذا القالب أهمل تماما بالمعنى أن شعراء القرن العشرين يكتبون على العموم بطريقة متحررة دون أوزان وقواف. في الشعر العربي الحديث تجدين اليوم من يكتب القصيدة التقليدية ومن يكتب الشعر الحر ومن يؤلف قصيدة النثر كأسطر مشطرة أو ككتلة واحدة كما يدعو إليها عبد القادر الجنابي. وهذا التنوع كذلك موجود في الشعر العبري. مثلا قصائد دان باغيس مكتوبة على شكل الكتلة الواحدة كما يكتبها الجنابي. لا أعتقد أننا نستطيع أن نجزم أن قصيدة النثر ككتلة واحدة في الأدب العربي هي أكثر انتشارًا من قصيدة النثر التي تتركب من أسطر مشطرة.

* القصيدة الحديثة غالبا ما تعتبر فعلا لغويا علمانيا. كيف تفسِّر قدرة لغة مقدسة وجد طقسية كالعبرية استطاعت استيعاب رؤى شعرية حديثة مُلحِدة في أحيان كثيرة؟ ما هو التجديد الذي طرأ على العبرية، حتى يستطيع شعراء حديثون كأمير أور وروني سوميك التعبير عن إشكالات عصرية معقدة ومتحررة من كل بعد ديني؟
- لا أعتقد أن اللغة العبرية لغة طقسية أو مقدسة الآن. منذ الخمسينات اللغة العبرية لغة علمانية يستخدمها الإسرائيليون دون التفكير بأن لها أي قدسية. ولذلك عندما يكتب كاتب بالعبرية يستخدم اللغة بدون أي علاقة بالدين – أحيانا توظف عناصر دينية ولكن لأهداف ومعان علمانية. أعتقد أن أغلبية الإسرائيليين يعتبرون العبرية الشيء الأساسي الذي يميزهم عن هويات وطنية أخرى. مثلا أنا أعتبر العبرية كهويتي الثقافية دون أي علاقة بالكتاب المقدس أو بالتراث اليهودي. العبرية وسيلة نستخدمها للتعبير عما نريد. وبالتالي يستطيع المرء أن يأخذ قصيدة بالعبرية ويترجمها إلى لغة أخرى وتجربة القارئ تجربة عمومية دون علاقة بالدين اليهودي. هناك قصائد عديدة لشعراء إسرائيليين معاصرين إذا ترجمت إلى لغة أجنبية، مثلا الانجليزية، لم تعرفي أنها مترجمة من العبرية. كذلك بالنسبة للشعر العربي، مثلا قصيدة نثر قد تترجم إلى لغة ثالثة دون معرفة اسم الشاعر قد يظن القارئ أنها مترجمة من لغة أخرى. خصوصا في الشعر المعاصر – أولئك الشعراء الذين ولدوا في الأربعينات والخمسينات – البعد الديني تقريبا ليس موجودا تماما في القصائد. إن الشعراء متأثرون أكثر بالمصادر الأجنبية. هناك محاولة للارتقاء إلى مستوى الشاعر العالمي الذي ليس مربوطا بمجتمع أو بوطن معين.

* أما اللغة العبرية الحديثة فإنها نتيجة عملية إحياء لغة قديمة أو على الأقل تطوير منظم حوّل لغة قديمة إلى لغة وظيفية ومناسبة للتعبير عن كافة تحديات العصر. هل هناك أي شبه بتطور اللغة العربية الحديثة؟
- أعتقد أن الحقيقة أن هناك خمسة أو ستة ملايين شخص يتكلمون العبرية في إسرائيل هي معجزة! فاللغة كانت منسية استخدمت فقط للصلاة والطقوس الدينية. فجأة نهضت من جديد وبدأت تعيش كوسيلة حية للكلام والإبداع الأدبي. يجب أن نفصل بين إحياء العربية وإحياء العبرية. القضيتان ليستا متساويتين. فإن العربية لم ينقطع استعمالها في مدى التاريخ: من فترة الجاهلية حتى أيامنا هناك دائما من تكلم بالعربية وكتب بالعربية. ليس هناك فصل بين العربية القديمة والعربية الحديثة. أما العبرية هناك فترات طويلة لم تستخدم هذه اللغة بتاتا، بل كانت لغة طقوس دينية فقط، أو كان هناك من كتب بأحرف عبرية ولكن استخدم العربية. وما حصل في إسرائيل وقبل إقامة الدولة هي معجزة بحيث استطاعت مجموعة من رجال التعليم ورجال الثقافة أن يعيدوا الحياة إلى العبرية. أعتبر نشأة الأدب العبري الحديث في القرن العشرين إنجازا عظيما بمثابة معجزة لا أعرف مكانا آخر في العالم حيث حصل مثل هذا الشيء بأدوات اصطناعية استطاعت أن تعيد إلى الحياة لغةً أعتبرت منسية.

* هناك من يقول إنه من نتائج الصراع العربي الإسرائيلي أن معظم العرب والإسرائيليين على السواء لا يستطيعون فهم العالم إلا كشيء ثتائي وازدواجي يتكون من نصف الذات الطيب ونصف الآخر الشر ("العدو"). ولكن نجد في بعض القصائد لشعراء كناتان زاخ ومحمود درويش وغيرهما نصوصا مليئة بأشجع رؤى التصالح وأجمل صور الانسانية. أكان الصراع العربي الإسرائيلي جزءا من الرؤيا الشعرية عند الشاعر الإسرائيلي بقدر ما عند الشاعر العربي، وإن من منظور مختلف؟ كيف ينظر الشاعر الإسرائيلي في شعره إلى الآخر العربي؟ وما هو الفرق بين نظرته ونظرة الشاعر العربي إلى الآخر الإسرائيلي؟
- الإجابة عن هذا السؤال تستوجب مكانا واسعا لا نملكه في هذه المقابلة القصيرة. ولكن باختصار أستطيع أن أفول إن الآخر العربي في الأدب الإسرائيلي يظهر إيجابيا إذا نظرت إلى صورته نظرة سطحية. ولكن إذا حللت كتابات الأدباء الإسرائيليين بعمق رأيت أن هذه الصورة الإيجابية تخبئ من ورائها نظرة متعالية إزاء الانسان العربي مصدرها تمسك المثقفين الإسرائيليين بالنظرة الاستشراقية التقليدية التي تعتبر العربي انسانا يجب ترويضه لكي يستطيع الوصول إلى ما يوصف بالمستوى الحضاري الغربي المتقدم. أما الآخر اليهودي في الأدب العربي فللأسف الشديد ما زال يصور على الأغلب بطريقة نمطية ما عدا كتابات قليلة لأدباء مثل نجيب محفوظ ومحمود درويش.

* أتعتقد أن هناك فرصة في المستقبل القريب يتم فيها حوار مفتوح ومثمر بين شعراء عرب وشعراء إسرائيليين، وما هو في نظرك المانع الأساسي الحالي لهذا الحوار؟
- أنا متشائم لأن المشكلة ليست سياسية فحسب بل هي مشكلة ثقافية في الأساس. ولذلك أعتقد أنه حتى بعد الوصول إلى حل سياسي للصراع العربي الإسرائيلي فالحوار بين الطرفين سيكون حوار طرشان بسبب إصرار الطرف الإسرائيلي على هويته الثقافية الغربية الإشكنازية. ولا تنسي أنه حتى الأجيال الجديدة في العوائل اليهودية الشرقية أصبحت ذات هوية إشكنازية وتكره العرب والثقافة العربية. أما الطرف العربي فيميل أيضا إلى الغرب - على الأقل فئة المثقفين العلمانيين - ولكن ليس على حساب التراث العربي.

* في هذه الأيام المحزنة، كم من العراق في قلبك ...؟
- المشهد الحاضر حزين للغاية لا سيما إذا أخذنا في الحسبان أن بغداد كانت قبل ما لا يزيد عن ثمانين أو سبعين سنة مصدر أمل لتكوين مدينة فاضلة في الشرق الأوسط يعيش فيها مسلمون ومسيحيون ويهود تحت مظلة الثقافة العربية. وبالفعل هذه الرؤيا تحققت في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين حتى تفاقم الوضع السياسي ونشأ التعصب القومي من الطرفين اليهودي والعربي وأجهز على هذه الرؤيا المشرقة وجعل أبناء جميع الديانات يتقاتلون بدلا من العيش جنبا إلى جنب. المأساة الحقيقية تكمن في هاتين الحركتين القوميتين الصهيونية والعربية اللتين حوّلتا الشرق الأوسط إلى حمامات من الدم. وما نشهده في العراق الآن ليس إلا حلقة أخرى في هذا المسلسل المأساوي.
والديّ كانا عراقيين ولغة أبي ولغة أمي كانت عربية. أما أنا فولدت في إسرائيل ولغتي هي العبرية، أنا بالنسبة إليّ فالعربية هي لغة مكتسبة ولذلك هويتي ليست عربية أو عراقية بل هوية إسرئيلية يهودية فرضتها عليّ الصهيونية دون أن يكون لي خيار آخر ورسخها الصراع الدموي في الشرق الأوسط. ولذلك في قلبي في هذه الأيام مشاعر التعاطف مع أبناء العراق ليس بصفتي واحدا منهم بل كشخص يعاني عندما يرى في مكان ما من أنحاء المعمورة أولادا ونساء ورجالا أبرياء يموتون بلا سبب دون أن يكون هناك أي بصيص من الأمل لمستقبل آخر.


* الأستاذ سنير، شكرا جزيلا على هذه المقابلة الشيقة!

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية