هذه فلسفة في الصيد، اهتدى إليها الإنسان البدائي كي يتغلب على عدوه على مراحل، بدءاً بالإغواء حتى السقوط الأخير في الشرك. وإذا كان عصر الصّيد قد انتهى، مخلفاً وراءه هوايات فولكلورية لا ترقى إلى نمط الإنتاج، فإن الكثير من خصال الصّياد وتقنياته قد هاجر من عصر إلى آخر، ومن الغابة التي تعجّ بالوحوش إلى المدينة التي تعجّ بالقَتَلة واللصوص.

والاستعمار صياد، مر بمراحل عدة، أولاها ما لجأ إليه المستشرقون وطلائع الرحّالة من تماثل مع الضحية كي يشعروها بالأمان، ويكسروا لديها رافعة المقاومة.
وعندما ارتدى نابليون بونابرت الزيّ العربي وعوّج لسانه ليسلم على الناس بلغتهم، كان تلميذاً نجيباً في مدرسة تدويخ الفريسة، لهذا استطاع أن يغوي الشيخ السادات في زمنه، الذي خرج بعد ساعات من لقاء الامبراطور الغازي ليقول: لا بأس إنه من أهل الكتاب!

حتى المصاهرة السياسية، تخضع لهذا المفهوم في تطبيع العلاقات مع الخصوم، وآخر موجات الاستعمار في أيامنا تحاول تكثيف كل ما تعلّمته من التاريخ الأسود، بحيث يبدو الغزو والانتهاك كما لو أنهما جناحان يُضافان إلى أكتاف المقهورين ليحلقوا بهما عالياً.. وغرباً، ونحو حرية وهمية، كل ما في الأمر أن القيد تحول من نحاس إلى ذهب مرصع بالماس.

ومصارعو الثيران يدوخون الفريسة بسهام مسممة، وبلا أدنى فروسية، لأن العقل البشري هو ما ابتكر هذه الفلسفة ضد حيوان مسكين، تتلخص قوته كلها في أنيابه ومخالبه وقرونه.
وما نشعر به الآن، هو باختصار شكل من أشكال التدويخ، فحالة الدّوار التي نعيشها كأننا ضربنا بأعقاب البنادق على أقفية رؤوسنا، قد تمتدّ لتشمل الوعي كله.. أو ما تبقى منه.

وتختلف فلسفة تدويخ الفريسة الحيوانية عن الفريسة البشرية في أمرين على الأقل، أولهما أن البشر يميلون في لحظات اليأس والقنوط من خلاص قريب أو محتمل، إلى تصديق كل ما يُقال لهم، حتى ولو كذبته العقول، وهذه الرّغائبية صفة تتعمق كلما كان الرجاء أقل، وخصوصاً عندما يتطوع غربان التاريخ بالنعيق فوق الخرائب، ليقولوا للناس إن الأقل سوءاً هو الأفضل، وإن المريض خير من الميت، وإن القليل خير من اللاشيء حتى لو كان نواة زيتونة أو حبّة تمر. وثانيهما أن فلسفة الإغواء والتضليل قدر تعلّقها بالبشر، تخاطب فيهم أشدّ الأوتار حساسية، وما يتعلق بثالوث الحياة الأشد قسوة من أي ثالوث، وهو الأمن والمأكل.. والجُحر الذي يؤوي.
ولأن الزمن الذي نعيشه أعجف، والمطر يتساقط في غربال، فإن خوف الناس من الفقر هو الأنكى بأضعاف من الفقر ذاته، كما ان خوفهم من الموت أشدّ تنكيلاً بهم من الموت ذاته.

والمتخصصون بسيكولوجيا التدويخ والقهر وإدامة الحال على ما هو عليه عبر تبشير مبرمج بأن القادم هو الأسوأ، يلجأون في عملية التدويخ إلى التلويح بالعلف، وإسالة لعاب الناس على ما تشققت شفاههم طوال العمر اشتهاءً له.. لكنهم لم ينولوه.. تماماً كتلك الأسطورة الإغريقية التي تحدثت عن جائع ظامئ، تقترب منه العناقيد وأكواب الماء العذب، لكنها ما إن تصبح قابلة لملامستها تنأى، وتستمر متوالية التعذيب هذه للضحية حتى الموت.

لكن ما يحدث لنا الآن أقلّ من الموت، وأكثر من سلخ الجلد والتنكيل، هذا إذا اتفقنا على أن التعريف الوحيد للموت هو توقف الدماغ والقلب تماماً عن الحياة.
وحقيقة الأمر أن هناك أحياء موتى يوغلون يومياً في حفر تعمقها لامبالاتهم، وليسوا موعودين بأية قيامة وشيكة، كما ان هناك موتى يسهرون تحت التراب وبديل الكهرباء لديهم ما يشعّ من تاريخهم النظيف، وما يرشح من رميم عظامهم من الصدق والنزاهة، والإيثار الذي كان طريقهم نحو الافتداء.

تدويخ الفريسة تتولاه “ميديا” متخمة بكل ما من شأنه أن يحجب الحقائق، ويقدم بدائل صناعية لها، بحيث تقبل الفريسة على الطعم المسموم بكامل إرادتها، ولا يخالجها أي شك بأنها تمارس الانتحار.
إن الوعد بالحرية عبر تكثيف وتمويه الاستعباد هو تدويخ بامتياز، واللغة التي يتم انتقاؤها بعناية صياد محترف تصبح مقلوبة، وكلماتها تعني عكس محتواها، ولو كنا قد اهتدينا إلى لقاحات ضد هذا الوباء الذي يفترس الوعي، لما كانت الإصابة قومية وشاملة، والناجون منها أشلاء على رصيف التاريخ والجغرافيا!

أليس مثيراً للاشمئزاز، ولكل الانفعالات التي تورث الغثيان في الرأس قبل البطون أن تتبنى الفريسة فلسفة تدويخها؟ وأن تعلن على الملأ أنها تقبل بشهية نادرة على طعم مقدود من لحم أطفالها؟
الدائخون فقط، والمصابون بهذا الدوار هم الذين جعلوا من الموت المجاني حرفتهم، فأي تاريخ وأية فلسفة وأي علف فكري كان يعدّنا لهذا الذبح؟
بنى الفريسة فلسفة