واشنطن من كريستيان دافنبورت: نسبة لسريتها المفرطة والأسطورية، فإن الوكالة الوطنية للأمن في الولايات المتحدة، تكنى بأسماء أخرى مثل: «الوكالة التي لا وجود لها»، و«لا تتفوه بكلمة واحدة». وهي تخفي وجودها وراء جدران مرتفعة تعلوها الأسلاك الشائكة. موظفوها يحترفون فك الشفرات، والتجسس والسهر على حفظ الأسرار. كما أن قادتها المقلون عادة في الكلام، لا يلفتون الانتباه إلى أنفسهم عندما يكونون خارج أسوارها. ولذلك كانت مناسبة غريبة واستثنائية بحق عندما ظهر هؤلاء القادة قبل عام بمدينة أنابوليس لحضور افتتاح شركة كانت من بين الشركات الأولى التي اسست تحضيرا لقيام شعبة الأمن الوطني. ولم تقتصر الغرابة على الظهور وحده بل شملت الرسالة التي كانوا يريدون بثها ايضا: أن وكالتهم تحتاج إلى المساعدة في حربها ضد الإرهاب. قال دانيال وولف، مدير شعبة التحقق من المعلومات: «أنا أبحث عن أفكار جديدة. نريد أن نستمع إليكم ونرى ما عندكم».
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) قالت الوكالة إنها ستصرف 445 ألفا من الدولارات على المركز التي تمثل شركاته طليعة التقنية الخاصة بأمن الوطن: أي إجراء الأبحاث في معالجة الأمراض الناتجة عن الحرب الجرثومية، حماية شبكة الكومبيوترات من القراصنة (الهاكرز)، وتطوير برامج الكومبيوتر الكفيل بكشف الإرهابيين. ومع التطور المتسارع للشبكة الأمنية الأميركية منذ هجمات 11 سبتمبر (ايلول)، أصبحت الوكالة السرية تلعب دورا أكثر اهمية وأكثر بروزا، في منطقة واشنطن. وفي ضوء خططها بتوظيف 7500 موظف جديد، فإن الوكالة تمر بأكبر عملية توسع في تاريخها منذ الحرب الباردة.
تفتح الوكالة أبوابها كذلك للشركات الخاصة للمساعدة في تطوير التقنية الاستخباراتية. وما المركز التجاري في أنابوليس سوى مثال على الكيفية التي تتغير بها صناعة التجسس في هذه المنطقة. وقد نشأت مجمعات من المكاتب المؤمنة بالقرب من رئاسة الوكالة وفي منطقة مطار بلتيمور ومطار واشنطن الدولي. ونسبة لأن واشنطن يوجد بها وزارة الدفاع (البنتاغون) والاستخبارات سي آي إيه والمباحث الاتحادية (إف بي آي)، والوكالة الوطنية للأمن، فإن العبارة الغامضة التي تقول «أعمل لدى الحكومة» تعني تحديدا أنك تعمل لدى الأجهزة الأمنية. ولكن كثيرا من الناس يتردد كثيرا عندما يوجه إليهم السؤال: ماذا تعمل بالضبط؟ عندما وجه هذا السؤال إلى جاسون، 31 سنة، من منطقة أنابوليس، أجاب بقوله:
«أنا متعهد لدى وزارة الدفاع. أعمل في مجال الكومبيوتر». ويريد جيسون أن يركز الناس على جانب الكومبيوتر حتى تبدو المسألة عادية.
من الخارج تبدو الحديقة العامة للتجارة، القريبة من مبنى الوكالة الوطنية للأمن، ومن فورت ميد، وكأنها مجمع عادي من المكاتب التجارية التي تجدها في كل أنحاء واشنطن. أما في الواقع فليس فيها ما هو عادي. فقد شيدت على أساس المعايير الحكومية الأمنية الدقيقة، وفي رؤوس أصحابها اعتبار واحد أساسي: وهو حماية التقنية التي تساعد الوكالات الاستخبارية على الوصول إلى الإرهابيين والقبض عليهم. إنها جزء من مبان ظلت تتنامى على الدوام بمرافقها المحمية بأخطر الأسلحة الخفية عن الأنظار. وهي تعرف بالمباني المعلوماتية الحساسة، تنتصب في نوافذها الكاميرات التي تمنع التجسس، والجدران التي تحبس الذبذبات الصوتية، مع أجهزة الدندنة التي تمنع أجهزة التنصت من التقاط المحادثات البالغة السرية. وبعضها لديه بعض القضبان الحديدية التي تمنع المتطفلين من الاقتراب.
وكان الانفاق على الأمن تزايد بصورة غير عادية في السنوات التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وقال جون بايك، مدير غلوبال سيكيوريتي دوت أورغ، وهو مركز أبحاث مختص بشؤون الإستخبارات، أن الانفاق على الاستخبارات كان يبلغ حوالي 30 مليار دولار سنويا قبل ان يتضاعف حاليا. وعلى أمل الاستفادة من هذه الزيادات الكبيرة، أنشأت آن أرونديل، مركز جيزابيك للإبداع، ليعمل بصورة حصرية مع شركات وكالة الأمن الوطني. وعندما تدخل إلى هذا المركز في قلب أنابوليس، تشعر كأنك دخلت مختبرات كيو في عالم جيمس بوند. وتجد في أحد المكاتب مجموعة من الباحثين يعملون على تطوير أدوية وأمصال للأمراض التي يمكن أن تنتشر عند الهجوم بالأسلحة البيولوجية بما فيها الجمرة الخبيثة. وعندما تصعد إلى الطابق الثالث تجد مجموعة سيكيور بروسيسنغ، وهي تعمل على تطوير الأساليب الكفيلة بتأمين كومبيوترات الشركات ممن هم داخل الشركة. وقال تيرنس فلينتز، المدير التنفيذي للشركة، أنت لا تعرف متى يفكر أحد الموظفين الذين يتظاهرون بالإخلاص بسرقة أسرار الشركة. وقال: «نحن نتحدث عن موظفين ساخطين، وجواسيس محتملين، بل حتى إرهابيين يمكن أن يلتحقوا بالشركة ويتظاهروا بشيء لا يمثل حقيقتهم. إنهم يمكن أن يعملوا حتى كبوابين».
وطورت شركة أخرى هي هاربنغرز أسوشييتس، نوعا من البرامج يمكن أن يستعرض الطرق الإنجليزية المختلفة التي يمكن أن يكتب بها هذا الاسم. وتقول الشركة أنه نسبة لأن الأسماء العربية تكتب بصور مختلفة في الإنجليزية، فإن الشخص يمكن أن يفلت من الرقابة أو القانون بتغيير الطريقة التي يكتب بها اسمه. وقد أشرف البرنامج على الاكتمال ويأمل مسؤولو هاربيغرز أن يكون عما قريب في خدمة الوكالة وراء حيطانها السميكة.
ويعد ديريك، الذي رفض إعطاء اسمه بالكامل لاعتبارات أمنية، من عباقرة التقنية المتقدمة، ويزداد الطلب عليه لمعرفته، وللدوائر الأمنية الواسعة التي يتحرك فيها.
ونسبة لكثرة الطلب على خدماته، فإنه لا يضطر إلى الارتباط بوظيفة بعينها، بل يعمل لدى الحكومة والشركات الخاصة، ويبحث عن شخص يمكن ائتمانه على الأسرار. ويبلغ دخل ديريك، 34 سنة، حوالي 170 ألف دولار في العام وهو يقفز من مشروع إلى مشروع. وكلما أراد وظيفة جديدة أو مهمة بالأحرى فإنه يذهب إلى شركة كيلي فيدسيكيور التي تعمل بصورة حصرية مع أولئك الذين نالوا إجازة الأجهزة الأمنية.
وقد لاحظ ريتشارد بسكه وشريكه غاري موريس الطلب المتنامي على الفنيين الذين يمكن أن يعملوا في المشاريع السرية. فأسسس بعد شهرين من هجمات 11 سبتمبر (أيلول) شركة لتجميع الأفراد من ذوي الرخص الأمنية وفي عام 2003 باعوا شركتهم لشركة كيلي سيرفيسيز، إحدى أكبر شركات الموارد البشرية في البلاد. وظلت هذه الأخيرة تنمو بمعدلات تفوق العشرة بالمائة في الشهر في الواحد.