أولاً، لا بد من رفع القبعة للشعب الفلسطيني بكل اطرافه، المقاتلة والمعارضة، التي انتخبت والتي قاطعت، على الأداء الرائع الذي اظهره يوم الأحد الماضي، في انتقاله من مرحلة الى مرحلة يتفق الجميع على انها جديدة. الآمال كبيرة والمخاوف من عقبات كبيرة ايضاً. اذ ان هناك من يقول ان التغيير هو في اعتماد وسائل جديدة توصل الى الأهداف الثابتة، وهناك من يقول ان التغيير يكون في الابقاء على الاساليب المتبعة للوصول إلى تلك الأهداف.
من المعروف ان رئيس السلطة الفلسطينية الجديد محمود عباس سياسي مخضرم وشريك قديم لياسر عرفات، وهو من مؤسسي حركة فتح التي طالبت بدولة فلسطينية منذ الستينات، لكنه ايضاً احد اطراف وثيقة بيلين ـ أبو مازن، واحد مهندسي اتفاقيات سلام اوسلو، الذي بسببه انشئت السلطة الفلسطينية التي صار رئيسها الآن. لكن تنقص ابو مازن الكاريزما التي كان يتمتع بها ياسر عرفات اضافة الى ثقل الرمز الذي كان يمثله لتطلعات الفلسطينيين، وهذا قد يحد من قدراته على التوصل إلى تسوية مع اسرائيل اذا لم تكن تحظى بدعم واسع من قبل الرأي العام الفلسطيني. انما هذا لا يعني ان يسير ابو مازن على خطى عرفات، كما ليس مطلوبا منه التزام الخط السياسي والعسكري نفسه. فلكل زعيم بصماته، وليس بالضرورة ان يكون الفلسطينيون بين القائلين ان زعماءهم السابقين افضل من زعماء المستقبل، فحتى كمال اتاتورك نفسه باني تركيا الحديثة، ورغم سطوعه المتأصل، لم يعد يحدد السياسات التي تتبعها تركيا اليوم المنطلقة في كل الاتجاهات، انما ظلت الثوابت التركية على ما هي، إلى درجة ان انقرة اردوغان، هي التي توصلت الى الحصول على اعتراف رسمي من دمشق في العاشر من الشهر الجاري، بأن لواء الاسكندرون تابع لتركيا، فأنهت بذلك صراع حدود طال 66 سنة مع سوريا، ومجرد تذكير لابو مازن، ما يقوله المثل الفرنسي: الرجل هو السياسة.
كيف يمكن لابو مازن تربيع الدائرة؟ المقاتلون الفلسطينيون يؤكدون انه من دون التزام اسرائيلي بالتوقف عن استهداف قتل المقاتلين الفلسطينيين، فانهم سيحتفظون بحق الرد. هذه النظرة يشترك فيها الفلسطينيون جميعا، بمن فيهم السياسيون والمقاتلون. كل الفلسطينيين متفقون على ان المشكلة تكمن في الاحتلال الذي يولد العنف.
وإذا اخذنا بالاعتبار ان حماس والجهاد الاسلامي تنظران بنفس الاتجاه، تبرز الصورة واضحة حول التحديات التي تواجه الزعيم الفلسطيني الجديد. لقد خاض ابو مازن حملته واعداً الفلسطينيين بكل شيء يتطلعون اليه للتوصل إلى دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية. كما وعد بالدفاع عن حق اللاجئين بالعودة إلى مدنهم الأصلية، وهو لا يستطيع ان يحقق ايا من هذا، من دون تنازلات جذرية من قبل اسرائيل يعرف انها غير مستعدة للإقدام عليها.
ولأن الفاعل الرئيسي في السلام الفلسطيني الاسرائيلي يبقى، باعتراف الجميع، الولايات المتحدة، تبرز وجهتا نظر تتعلقان بمرحلة ابو مازن. وقبل ان يتهم المتسرعون محمود عباس بأنه سيكون «صنيعة» اميركا، فانه يمكن ان يقال عن منافسه الاساسي، مصطفى البرغوثي، انه هو الآخر «صنيعة» اميركا، اذا كنا سنكيل التهم عشوائياً، فهو كان على رأس احدى المنظمات غير الحكومية التي تتلقى دعماً مالياً من عدة مؤسسات حكومية اميركية تعمل لدعم الديمقراطية.
تقول وجهة النظر الاميركية الأولى ان 62% من الأصوات في وقت لا وجود لاحزاب سياسية منافسة، ليست فائقة ولا تعني تفويضاً مطلقاً، لكنها ترى ان على «ابو مازن» مكافحة الارهاب وبالاخص الفساد، «اذ، ماذا ستكون شعبية حماس لو لم يكن الفساد مستشرياً في صفوف المنظمة والسلطة؟». وترى وجهة النظر هذه ألا يعتمد ابو مازن على ان مخضرمي وزارة الخارجية الأميركية يعرفونه وجيله منذ عقود، ويشعرون بالراحة في التعامل معه. وينتظر هؤلاء لمعرفة من هم اعضاء الحكومة التي سيشكلها ابو مازن، فإذا كانت كالحكومة السابقة انما بتعديل، «فكيف سيحارب الفساد؟». وهم يرون ان منظمة التحرير «حزب فاسد وكل من ليس ناشطاً فيه أو منتسباً اليه لا يحظى بشيء، الوزراء منه، اصحاب المناصب منه والمدراء العامون منه»، لذلك يرى اصحاب وجهة النظر هذه ان على ابو مازن ان يعمل على ترسيخ التعددية السياسية والمشاركة في السلطة لتقليص الفساد وتقليص التشنج، وتقليص المحسوبيات، «أما اذا عاد بنفس الوزراء او الاشخاص الذين اعتادوا على تبادل المناصب الوزارية، حسب رضى عرفات سابقا عنهم، فإننا سندخل مرحلة عرفات الجزء الثاني»!
وجهة النظر الأميركية الأخرى ترى ان انتصار محمود عباس سيغير الاشياء، وانه حصل على تفويض ليغير اوضاع الفلسطينيين، فهو لم ينتخب لملء فراغ تركه غياب ياسر عرفات فقط. انما انتخب من قبل فلسطينيين يريدون ان تتغير الأوضاع ويريدون العيش في حياة عادية. ويقول لي سياسي اميركي راقب الانتخابات الفلسطينية «كان من اللافت نتائج الاقتراع في بيرزيت التي اظهرت المدى الذي يتطلع اليه الفلسطينيون لإحداث تحسين في الاقتصاد وفي الوضع المعيشي، بالطبع لم يتخلوا عن اهداف الصراع، انما يدركون ان هذا غير متوفر فوراً، ومن اجل تحقيقه يريدون انتهاء الفوضى واعادة القانون والنظام والدوافع الاقتصادية، ونوعاً من وضع يتيح لهم التنفس الطبيعي».
ومع العلم ان الكثير من هذه الامور يتعلق او يعتمد على القضايا الاساسية: الحدود، حق العودة وقضية القدس، وهذه لم تتغير ابداً. ويقول المراقب الاميركي: اذا اردنا اعادة الشكل الطبيعي للحياة العادية، فليس علينا الانتظار لحل قضيتي حق العودة والقدس.
وخلال الاربع سنوات الأخيرة، بسبب الحرب، يعيش الفلسطينيون في حصار، واذا اردنا فك الحصار فيجب وقف الهجمات المتبادلة، وفي احدى المراحل لا بد من بدء التعاطي بمسائل الصراع الحقيقية، لكن لا بد من ترتيب الأولويات الآن، وهذا ما صار يدركه العديد من الفلسطينيين.
هناك توافق في واشنطن على ان تاريخ النضال الفلسطيني عبره زعماء كانوا دائماً رموزاً اكثر منهم قادة. وانه حان الوقت ليأتي زعماء لا يكونون فقط زعماء، انما مسؤولون ويخضعون للمحاسبة. ان الكثيرين من الفلسطينيين يقولون انهم يريدون المحاسبة، فإذا حصلوا عليها، فان هذا يغير الوضع بجذرية.
وتراهن واشنطن على ان ابو مازن سيبذل جهداً لوقف العنف، ولا تعتقد انه سيجنح في هذا الى مواجهة حماس، بل سيعمل على استيعابها، ذلك ان حماس ترى ان التفويض الذي حصل عليه ابو مازن سيدفعها الى التعاون معه، ولأن لها برنامجها السياسي تجاه الشعب الفلسطيني فهي لا تريد ان تبدو وكأنها الرقم المعاكس في المعادلة الجديدة.
وكانت واشنطن ضغطت على اسرائيل للتنازل عن شرطها بأن يكون اول عمل لقيادة ابو مازن لم اسلحة الاطراف الفلسطينية المقاتلة، لان المواجهة بين ابو مازن مع تلك الاطراف بما فيها حماس، ستؤذي تحركه في اقناع هذه الاطراف في الوصول إلى اتفاق لوقف اطلاق النار.
ان موقف اسرائيل الجديد هو بمثابة نقلة نوعية عن مواقفها السابقة التي كانت تصر على ان وقف اطلاق النار ليس بكاف، فهو يسمح للمقاتلين الفلسطينيين باستعادة انفاسهم وملء ترساناتهم، وكانت تصر على نزع كامل لاسلحة حماس مثلا قبل استئناف الحوار مع السلطة الفلسطينية. وبضغوط من واشنطن، بعد تذكيرها بأنها ساهمت في افشال ابو مازن في الفترة السابقة، اقتنعت تل ابيب بأن نزع السلاح لا يتم في يوم، لهذا كان ردها على واشنطن بأن يمنع ابو مازن حمل السلاح لغير الاعضاء في قوات الشرطة الفلسطينية ويبدأ لاحقاً لم السلاح. ولانجاح مهمة رئيس السلطة الفلسطينية الجديد، ستكون الخطة كالتالي: وقف اطلاق نار احادي من جانب الفلسطينيين، تقابله اسرائيل بوضع حد لعملياتها ضد قادة المقاتلين، ولاحقا تستأنف اسرائيل التنسيق الأمني مع الاجهزة الأمنية الفلسطينية، ثم تكثف من اتصالاتها السياسية مع السلطة الفلسطينية وتقلص من وجودها العسكري في الضفة الغربية.
بعد اتخاذ هذه الخطوات المتبادلة، توسع اسرائيل التنسيق مع السلطة الفلسطينية وتدريجياً تسحب حواجزها الأمنية من الضفة الغربية وتسمح بحرية التحرك للفلسطينيين والبضائع لتسهيل تطبيق الخطط الدولية في اعادة انعاش الاقتصاد الفلسطيني.
وكان محمود عباس قبل انتخابه ابلغ ديبلوماسيين اميركيين انه مقابل وقف اطلاق النار الفلسطيني يريد من اميركا ان ترعى اتفاق تفاهم، اذا لم يكن اتفاقاً سياسياً، يفرض على اسرائيل وقف كل العمليات العسكرية في الاراضي المحتلة، لأن وقف اطلاق نار هادئ يتيح له الفرصة والمجال لاعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي ستساعده على فرض النظام والقانون.
ومع اعتراف واشنطن بأن ابو مازن هو واحد من الرعيل القديم، إلا انها قررت اعتباره مختلفاً، لأنه رفض العنف باستمرار، ولأنه يدرك الحاجة لاجراء اصلاحات، وتلحظ ان الاصلاحيين الفلسطينيين متفقون على دعمه رغم انه من الرعيل القديم وليس من الجيل الجديد، وترى انه ليس متعطشاً الى التمسك بالسلطة وحده بل لاشراك الاخرين بها، ويريد اعادة بناء المؤسسات وحكم القانون.
كل هذه العناصر ايجابية للفلسطينيين، ومهمة للعالم الخارجي، وتشكل اسساً قوية للعمل على تفاهم مع الاسرائيليين. ويتوقع بعض المراقبين ان تأخذ الجهود الأميركية الجديدة شكلها الحقيقي الواعد بعد ان تتسلم كوندوليسا رايس وزارة الخارجية، خصوصاً ان الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش قال انه يريد ان يستثمر رأسمالا سياسيا في القضية الفلسطينية ـ الاسرائيلية، وهو دعا اسرائيل، اثر انتخاب ابو مازن، إلى البدء في تطبيق التزاماتها.