يعتبر العقيد معمر القذافي ان الولايات المتحدة "دولة مفلسة ليس لديها ما تقدمه الى العالم الا القوة والنفوذ"، لذلك يدعوها "الى شيء خيّر تصدّره الى العالم هو النظام الجماهيري"! جيّد، لا بل ممتاز سوى ان هذا كلام يشبه قائله تماما. فالعقيد القذافي الذي أنهى أخيرا تسوية بمئات الملايين من الدولارات مع كل من اميركا وبريطانيا وفرنسا حول تفجير طائرتي "بان ام" لوكربي و"يو تي آي"، لم يكتف بذلك بل تعداه الى تسليم الاميركيين برنامجه لاسلحة الدمار الشامل. ولا تخلو ليبيا من شركات نفطية عملاقة اميركية وبريطانية تسيطر على القطاع النفطي الليبي بشكل او بآخر.
بالطبع لا يستغرب المراقب صدور هذا النوع من النصائح من العقيد القذافي الذي واجه والمؤتمرات الشعبية، خلال أزمة خليج سرت عام 1986، الطائرات الاميركية بالتظاهر في شوارع طرابلس وبنغازي ضد رونالد ريغان في ظل لافتات كتب عليها "يا ريغان يا راعي البقر"! وكانت النهاية أن حاصر "رعاة البقر" الجماهيرية الى ان انتقلت من الانفاق مليارات الدولارات بذريعة الوحدة العربية، الى الانفاق بالمليارات ايضا بذريعة التحول الى الوحدة الافريقية. وأنفقت أخيرا مبالغ طائلة في محاولة محو آثار الحروب التي خاضها القذافي هنا وهناك تحت الشعارات التي ذكرنا. ولا ننسى المليارات التي بددت في سبيل التسليح لقضم أراضي تشاد الشمالية الغنية بالأورانيوم. وها هي مئات الدبابات السوفياتية الصنع مرمية في الصحراء خردة. وكذلك عشرات الطائرات المقاتلة الفرنسية من طراز ميراج 5 التي أكل الصدأمعظمها.
واذا نسينا فلا ننسى السجون وزحمة المعتقلين السياسيين فيها. كما لا ننسى الحكم التوريثي حيث يتقاسم الأبناء مفاصل الحكم والسلطة.
لا نقول هذا الكلام دفاعا عن اميركا التي يقال عن حق انها تبالغ في توسل القوة في السياسة الدولية، وانها منحازة انحيازا يكاد يكون اجراميا الى جانب اسرائيل، ولا ترى من الحرب على الارهاب سوى الجانب الامني او الانقلابي بالقوة.
ولكن ان ينصح العقيد القذافي أميركا بالتحول الى "جماهيرية" فأمر يدعو الى الضحك، ولو قليلا.
ان نصائح القذافي تذكرنا نحن اللبنانيين بنصائح بعض "الحناجر" الملتهبة في لبنان عندما دعت ردا على القرار 1559 الى حل مجلس الامن الدولي! او كلام بعض أركان الديبلوماسية العربية ان القرار 1559 تافه وان سوريا ولبنان غير معنيين به، مما يوحي كأن القذافي حاضر فكرا ومنطقا في أكثر من مكان في العالم العربي!
ان الوقوف في وجه الولايات المتحدة شيء، و"الميغالومانيا" شيء آخر. كما ان الدفاع عن القرار الوطني شيء، ودفن الرأس في الرمال شيءآخر، تماما مثلما ان الحديث عن الثوابت الوطنية والقومية شيء، وارتكاب خطايا فادحة في ممارسة السلطة والقرار الوطني شيء آخر.
أما المشكلة التي يعانيها العرب او بعضهم فمردها الى كون البون الشاسع بين الخطاب والممارسة والواقع يدفع شعوبا عربية بأسرها الى البؤس والشقاء، تارة بالسياسة وطورا بالاقتصاد.
القذافي ظاهرة ليبية؟ لا بل ظاهرة عربية... مرضية!