شهدتُ بمسقط، عُمان، محاضرتين احداهما لتشايز روبنسون أستاذ التاريخ الاسلامي بجامعة أوكسفورد، والأخرى لجيل كيبيل، أستاذ العلوم السياسية بمعهد العلوم السياسية بباريس. أما الأول فقد تحدث عن مشروع بجامعة كيمبردج لاعادة كتابة تاريخ الاسلام. وأما الثاني فقد تحدث عن الصراعات الراهنة داخل الاسلام. وليست بين الرجلين مشتركات كثيرة في المنهج أو في الاهتمام؛ باستثناء اصرارهما على رفض تسمية "المستشرق" وزعم الأول انه مختص بالتاريخ، وقول الثاني إنه استاذ للعلوم السياسية وله اهتمام خاص بالشرق الأوسط.
تشايز روبنسون، تخرج بجامعة هارفارد، وكان استاذه روي متحدة. لكن منهجه مختلف عنه تماماً! اذ هو يميل للمراجعين الجدد؛ أي الى وانسبورو وكوك وكرون وتسمرمان. الذين يقولون إننا لا نعرف شيئاً عن بدايات ظهور الاسلام، والقرن الهجري الأول.. وذلك لأن المصادر المكتوبة متأخرة بمقدار قرنين، ثم إن بنيتها اسطورية، ولذلك لن يبقى منها شيء حتى لو تأملناها نقدياً. لكن: هل نترك القرن الأول وشأنه؟ لا! بل نلجأ للمصادر اليهودية والمسيحية من القرنين السابع والثامن! انما: لماذا نثق بها أكثر مما نثق بمصادر الاسلام؟ ألأنها محايدة؟ انها ليست محايدة، فهي معادية للدين الجديد، وتعتبره هرطقة وخروجاً على الشريعة الموسوية والعيسوية! ثم انه اذا كانت بنية الطبري اسطورية فلماذا لا تكون بنية النصوص الآرامية والسريانية والعبرية اسطورية أيضاً؟! وخلاصة الأمر أن هؤلاء انقسموا مطلع التسعينات من القرن الماضي الى تيارين: تيار يقول. إنه لا يمكن كتابة التاريخ الاسلامي للقرنين الأولين، كما لا يمكن كتابة أي تاريخ قديم، إنما الأمر أمر لعبة في النصوص المكتوبة، وينتهي الأمر عند هذا الحد. والفريق الثاني يقول بامكان كتابةالتاريخ الاسلامي بعد منتصف القرن الثاني الهجري، انما بعد نقد شديد وغربلة للمصادر لا تبقي ولا تذر أو لا يبقى منها تحت الغربال إلا القليل. ولقد كان من حسن حظنا وحظ الاسلام (!) ان الاستاذ تشايز روبنسون من اتباع هذا الفريق الثاني! وهو يقسم التاريخ الاسلامي الى قسمين: مرحلة التكوين، التي لا نعرف عنها شيئاً تقريباً، ومرحلة الامبراطورية التي نعرف عنها في بداياتها القليل جداً. ثم تتزايد معرفتنا بعد العصر العباسي الأول. نبدأ بمعرفة القليل أيام عبد الملك بن مروان، وتعريب الدواوين، ووجود النقود، وبعض الكتابات الباقية على أوراق البردى بمصر، وبعض الكتابات على الصخور، مثل الآيات القرآنية على مسجد قبة الصخرة، الذي بناه عبد الملك، بالقدس. أما المرحلة الإمبراطورية فتنقسم الى قسمين، مرحلة الدولة الواحدة وهي تنتهي في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، ومرحلة التحطم والانهيار، وتمتد على مدى عدة قرون. ولكل من المرحلتين طرائقها واشكالياتها لجهة الكتابة التاريخية عنها. وإنما تبقى المشكلة في مرحلة التكوين فالسيد تشايز روبنسون حفيد المراجعين الجدد كما يقول، لا يرى امكان معرفة شيء عن عصر النبي والراشدين وأوائل الأمويين. واذا كان الأمر كذلك، فكيف سيشرف على اصدار تاريخ كمبردج عن الاسلام، والجزء الأول بالذات، أي منذ العام 550 للميلاد، وإلى العام 800 للميلاد، ما يغطي المرحلة السابقة على الاسلام، ومرحلة النبوة والفتوحات والأمويين والعباسيين الأوائل. وتاريخ كمبردج هذا كان قد صدر مطلع السبعينات في أربعة أجزاء، وتعرض لحملات كبرى من المراجعين هؤلاء بحجة ايجابيته وسذاجته تجاه تصديق ما يقوله المسلمون عن تاريخهم الأول!
والأمر ليس بهذا السوء مع جيل كيبيل. فقد عرفنا له دراسات كثيرة عن الاحيائية الاسلامية منذ أواسط الثمانينات، من النبي والفرعون، عن قتلة الرئيس السادات وإلى "ضواحي الاسلام" عن الأرياف البائسة في العالم الاسلامي، وإلى "يوم الله" عن الحركات الأصولية في الأديان التوحيدية (1990) فالله في الغرب، عن الدور السياسي الجديد للدين في أميركا وأوروبا؛ فالجهاد عن الحركات الاسلامية العنيفة (2000)، فالفتنة (2004) عن الصراع داخل الاسلام أو عليه، وعلائقه بالحرب الأميركية على الإرهاب.
المشكلة مع جيل كيبيل في المنهج؛ اذ ينهمك الرجل في سرديات أنثروبولوجية وسوسيولوجية. بحيث لا يبدو أثر لدور الأيديولوجيا في اذهان الأصوليين وتصرفاتهم؛ ذلك ان الخطاب الاجتماعي اليساري، والذي يسرف في البحث عن السياقات، يجعل من كل شيء داعية للسخرية أو لهز الرأس بحسبان ان الرجل فهم كل شيء. بيد أن مشكلاتنا مع كيبيل، والفرنسيين المختصين بشكل عام؛ هي قضايا في المنهج، وليس في الفكرة الحاكمة، كما عند المراجعين الراديكاليين. لكن هل هذا وذاك استشراق؟ هناك مشابهات ظاهرة. لكن المستجدات كثيرة، ولا بد من قراءة الوضع الحاضر بدقة لا تتيحها هذه العجالة.