الناقد والكاتب المغربي بنعيسي بوحمالة يتيح لنا فرصة جديدة لإعادة قراءة الشاعر السوداني الليبي المصري الكبير من خلال دراسته الجديدة عن شعره والتي تحمل عنوانا دالا هو: النزعة الزنجية في الشعر المعاصر: محمد الفيتوري نموذجا. الكاتب يستخدم مصطلح الزرادفا للدلالة الإثنية واللونية والثقافية لكلمة السواد, كما يستعمل كلمتي: الزنوج والسود للدلالة علي الجنس الأسود الموزع بين إفريقيا وأمريكا. ثم هو يتكئ في دراسته علي المجموعات الشعرية الثلاث الأولي للفيتوري وهي: أغاني إفريقيا, عاشق من ذكريني يا إفريقيا, بالاضافة إلي مسرحيته الشعرية أحزان إفريقيا, الأعمال الأربعة تتكرر فيها لازمة إفريقيا في العنوان, وفي المضمون الشعري, وفي وضع الإنسان الأسود في مواجهة الأبيض, وبالتالي مواجهة الاسترقاق والاستعمار والتمييز العنصري ومتطل والتحرير والثورة والوضع الإنساني. ويلفت نظر الباحث المغربي أن الشعر السوداني المعاصر, وبخاصة شعر الجيل الذي ينتمي إليه الفيتوري: محيي الدين فارس وتاج السر الحسن وجيلي عبدالرحمن يضج بأصداء هذه النزعة الزنجية, وأن الشعر السوداني المعاصر هو اذي يجمع ــ في توازن ــ بين الولاء للعروبة والولاء للزنجية,
محمد الفيتوري مبدع كبير, بل هو ظاهرة شعرية استثنائية, غير قابلة للتكرار, ينطوي قدره الابداعي علي حدين مسنونين, أولهما أنه حقق بطلقته الشعرية الأولي وهي ديوانه أغاني افريقيا الذي نحتفل الآن بنصف قرن علي صدوره ــ موقعا له علي القمة, لم تتالشعرية خطوات طويلة للوصول, ولد الفيتوري وفي فمه شعره الذهبي, تماما كما ولد يوسف إدريس في مجموعته الأولي أرخص ليالي في الزمن التاريخي نفسه, وفي يده قلمه الذهبي وقصته القصيرة المتجاوزة, وثاني هذين الحدين أن مسئولية الميلاد والبدء من القمة ظلالفيتوري حتي اليوم, تطالبه بالصعود المستمر, والتجاوز الدائم في مساره الشعري. وهو ما حقق كثيرا منه بالفعل, عندما تطهر من مرحلة الزنوجة أو الزنجية, وانفتح علي مجال وطني وقومي وإنساني أرحب, وعندما أتيح له أن يصغي لروافد صوفية عميقة في ته الأولي, فتلونت قصائده في دواوينه الأخيرة بأنغام وصور وتجليات, تتشابك فيها رؤي العالم الرحب الذي تتحرك فيه المشاعر بين العديد من عواصم العالم العربية والأجنبية, والتنويعات الثقافية التي تفاعل معها حيثما أقام, وإن بقيت الأصداء الإفريقية الثل إيقاعات الطبول البعيدة في خلفية المشهد الشعري الراهن للفيتوري.
الفيتوري الذي كان يصرخ ــ بأعلي درجات الصوت حدة وضراوة ــ في الخمسينيات:قلها, لاتجبن, لا تقلها في وجه البشرية
أنا زنجي وأبي زنجي الجد
وأمي زنجية
أنا أسود, لكنحر أمتلك الحرية
أرضي إفريقية, عاش
هو الذي تحول في معزوفة لدرويش متجول إلي هذا النغم الشعري المغاير:في حضرة من أهوي..حدقت بلا وجه..ورحمت براياتي..عشقي يفني عشقي..مملوكك, لكنيعبثت بي الأشواق
ورقصت بلا ساق
ولم تخل رحلته الشعرية ــ علي امتداد مسيرته ــ من ردود أفعال نقدية, في طليعتها الدراسة النقدية التي أنجزها الناقد والمفكر الكبير محمود أمين العالم وتصدرت المجموعة الشعرية الأولي أغاني إفريقيا والتي كانت بمثابة مطالبة الفيتوري بمواجهة ضرورية مع الذات فهوـ في رأي العالم ــ يعكس مأساته الخاصة علي العالم, ويصوغ لنفسه ــ لون بشرته, ومن إحساسه العميق بالمرارة والحقد ومن طبول الذكر ــ وطنا نائيا بعيدا هو إفريقيا, وعلاقته بهذا الوطن البعيد علاقة انفعالية خالصة, فأخذ يلونها بلون مشاعره, ويوحوتاريخها, ويخلع عليها مأساته الخاصة, ويبشر من خلالها بخلاصه المنشود. وصولا إلي المرحلة التي تخفف فيها الشاعر من الغنائية التي تثب أحيانا إلي حد الخطابة, لم تعد الغنائية هي القيمة الأولي للتعبير, بل أصبحت أداة لإبراز الدلالة, ولم تعدكة إفريقيا وحدها, لم تعد معركة لونية, بين أبيض وأسود, بل أصبحت ــ في رأي العالم أيضا ــ معركة قيم إنسانية عامة, معركة بين الاستعمار والشعوب, بين الطغاة والأحرار الثائرين.وليس العالم بالناقد الوحيد الذي استوقفه البركان الشعري الهادر توري. هناك كثيرون احتضنوا هذه الموهبة الشعرية الطاغية منذ طلقتها الأولي: كامل الشناوي, زكريا الحجاوي, رشدي صالح, رجاء النقاش وغيرهم, ودارسون من مصر والعالم العربي قدموا عنه دراسات ضافية ــ بعضها كتب مستقلة ــ: محمد مصطفي هدار وفيق خنسة, محمد الشرغيني, عبده بدوي ــ في دراسته عن الشعراء السود, صلاح فضل, صلاح الدين المليك, كمال عيد, رشيدة مهران, ميشال شي
وأمثال الفيتوري من كثار الموهبة, وأصحاب القدرة الفذة علي التعبير والتصوير ــ وإن كانوا قلة نادرة ــ هم الذين يقنعون القارئ العربي ــ اليوم ــ بأن الشعر العربي لايزال بخير, وأن بحيرة الشعر الواسعة ـ بالرغم مما يلقي فيها كل يوم من مخلفات وفضلات وسمومالات وادعات ـ لم تتكدر بكاملها, ولم تنفق أحياؤها المائية, وكائناتها الجميلة الباهر
التعليقات