..نجيب عازوري: مراجعة حديثة لسيرة قديمة
اهميته تاريخية فقط.. واذا تجاوزنا علاقته المريبة مع فرنسا فلم يكن مؤثرا في احداث المنطقة العربية
لم يكن علمانيا حقا.. واقترح دولة تلفيقية.. دينية في الحجاز ومدنية في الشام.. علي غرار الدكنجية
شاع في الروايات المتداولة عن البدايات الاولي للفكرة القومية العربية ان نجيب عازوري هو احد رواد الفكر القومي العربي، وهو واحد من الذين اسهموا في صوغ جانب من المفاهيم القومية في كتابه الذي اصدره في سنة 1950 بعنوان يقظة الأمة العربية . ولعل في ذلك الكثير من الصدقية من الناحية الزمنية، مع ان التنقيب في ملفات التاريخ يشير الي ان بدايات الوعي القومي العربي شرعت بالتبرعم التدريجي مع بطرس البستاني وناصيف اليازجي عندما اسسا معا جمعية الآداب والعلوم في بيروت سنة 1842 ثم تبلورت اكثر مع ظهور الجمعية العلمية السورية في سنة 1857 في بيروت بجهد لافت من سليم بن بطرس البستاني وابراهيم بن نصيف اليازجي. واشتهرت في تلك الفترة وبالتحديد في سنة 1868 قصيدة ابراهيم اليازجي الذي يقول مطلعها:
تنبهوا واستفيقوا ايها العربُ
فقد طمي الخطبُ حتي غاصت الركبُ
اما فكرة الانفصال عن الدولة العثمانية لأسباب قومية فقد ظهرت في اثناء الحرب الروسية ـ التركية سنة 1877 لان هزيمة الدولة العثمانية في هذه الحرب والاضطراب الذي دب في اوصال الدولة جراء ذلك، اديا الي ظهور فكرة انفصال العرب عن الترك، فضلا عن افكار الاصلاح التي نشرها مدحت باشا. وكان بعض اللبنانيين والسوريين سباقين الي التحذير من مخاطر الانحطاط العثماني الذي ظهر واضحا في هزيمة الجيش امام روسيا، فبادر يوسف بك كرم الذي خشي من ان تنجح فرنسا وانكلترا في تجزئة بلاد العرب، فاتــــــصل بالامير عبد القادر الجزائري في دمشق ودعاه الي توحيد الجهد في سبيل اقامة امارة عربية مستقــــــلة يقودها الجزائري. وفي سنة 1878 عقدت حركة الاعيان السوريين مؤتمرا في دمشق، وفي منزل حسن تقي الدين الحصني بالتحديد، واتـــــفق المجتمعون علي استقلال البلاد الشامية واختيار الامير عبد القادر اميرا علي سورية. وكان قائد هذا التحــــرك احمد الصلح.
من هو؟
وُلد نجيب عازوري في بلدة عازور القريبة من جزين في تاريخ غير معروف علي وجه الدقة، والارجح انه ولد في سنة 1870. اما ما هو معروف عنه فهو انه درس في مدارس الفرير في بيروت، ثم تخرج من المدرسة السلطانية في اسطمبول وفي كلية الدراسات العليا في باريس سنة 1898 وعين فور تخرجه مساعدا لحاكم القدس كاظم بك مكافأة له علي انسحابه من جمعية تركيا الفتاة واعلان ولائه للسلطان العثماني بعدما كان انتمي الي الماسونية التي ناهضت السلطنة العثمانية. وفي سنة 1904 اعتزل منصبه وغادر فلسطين الي فرنسا لخلافات مع كاظم بك. وفي باريس اصدر في سنة 1905كتابه المشهور جامعة الوطن العربي ردا علي دعاة الجامعة الاسلامية ثم اصدر في 1907/4/24 وبالفرنسية ايضا مجلة الاستقلال العربي الشهرية. وقد توقفت هذه المجلة مع سقوط السلطان عبد الحميد الثاني واعلان الدستور العثماني في تموز (يوليو) 1908. وفي فرنسا اسس مع يوجين ينغ حركة معادية لليهود دعيت عصبة العمل الفرنسي .
بعد سقوط السلطان عبد الحميد قرر نجيب عازوري العودة الي فلسطين وخوض الانتخابات النيابية. غير ان السلطة العثمانية كانت حكمت عليه بالاعدام بتهمة القيام بنشاط يمس امن الدولة (اي التجسس) فهرب الي القاهرة، وتولي تحرير جريدة مصر الناطقة باسم حزب مصر الفتاة واسس محفلا ماسونيا علي غرار محافل الكاربوناري ذات الاهداف التحررية القومية وتوفي في سنة 1916 فدفن في القاهرة.
تقول زاهية قدورة في تقديمها للطبعة العربية من كتاب يقظة الامة العربية ان عازوري اشترك في تنظيم مؤتمرات عربية منها المؤتمر العربي الاول في باريس سنة 1905 والمؤتمر العربي السوري سنة 1913. والحقيقة ان وثائق المؤتمر العربي السوري لا تذكر البتة اسم نجيب عازوري بين الذين حضروا هذا المؤتمر او الذين تخلفوا عن الحضور لاسباب قاهرة، او حتي ارسلوا برقيات تأييد الي المؤتمر. وفوق ذلك فان البرت حوراني في كتابه الفكر العربي في عصر النهضة يشير الي ان نجيب عازوري لم يكن متحمسا للمؤتمر العربي السوري في باريس الذي عقد في 18 حزيران (يونيو) سنة 1913. ولعلني لا اجازف بالاستنتاج ان عازوري وهذا مدعاة للغرابة حقا، لم يشارك قط في هذا المؤتمر، مع انه احد اوفي الاوفياء لفرنسا التي رتبت عقد هذا المؤتمر وتولي خلصاؤها توجيه اعماله وتحرير بياناته امثال عبد الحميد الزهراوي الذي انتخب نائبا للرئيس، فضلا عن اسكندر عمون وشكري غانم وندرة المطران ونعوم مكرزل وخير الله خير الله وشارل دباس وغيرهم.
وتكرر زاهية قدورة حكاية مشاركة عازوري في المؤتمر العربي الاول في مقالة لها بعنوان: نجيب عازوري من خلال زمانه ومكانه (مجلة تاريخ العرب والعالم ـ ثلاث حلقات ـ الاعداد 26 و27 و28 كانون الاول (ديسمبر) 1980 وكانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) 1981).
وينقل هذا الرأي الدكتور كنعان الخوري حنا استنادا الي زاهية قدورة مؤكدا ان عازوري شارك في المؤتمر العربي السوري في باريس سنة 1913 والصحيح ان عازوري كان له شأن في المؤتمر العربي الاول في باريس سنة 1905 لا في المؤتمر العربي السوري في سنة 1913.
الوعي المبكر
لا ريب في ان نجيب عازوري يعتبر واحدا من الذين تحدثوا مبكرا عن خطر الصهيونية علي فلسطين والبلدان المحيطة بها. وهو، الي جانب نجيب نصار (ثم خليل السكاكيني واحمد سامح الخالدي وابراهيم متري الرحباني في ما بعد) يعد احد اوائل الذين نبهوا، بقوة، الي المخاطر المتوقعة من صعود الحركة الصهيونية. وللأسف الشديد فان كتابه الخطر اليهودي العالمي لم يصلنا البتة، ولم يُعثر علي اي نسخة منه او حتي علي نصوص متفرقة في بطون الكتب الاخري، فقد ضاع واندثر تماما، او انه علي الارجح لم يكتب البتة. وفي اي حال، لم يصلنا من مواقفه في الصهيونية الا بعض النصوص المتناثرة في كتابه يقظة الامة العربية وها نحن نبني علي الامر مقتضاه.
يقول نجيب عازوري: ان ظاهرتين هامتين متشابهتي الطبيعة، بيد انهما متعارضتان، لم تجذبا انتباه احد حتي الآن، تتضحان في هذه الآونة في تركيا الاسيوية اعني: يقظة الامة العربية وجهد اليهود الخفي لاعادة تكوين مملكة اسرائيل القديمة (..) ان مصير هاتين الحركتين هو ان تتصارعا باستمرار حتي تنتصر احداهما علي الاخري (ص 41). ومع تحفظنا التام علي عبارة متشابهتي الطبيعة الا انني اري ان عازوري لم يكن مجددا او نقديا في فهم الظاهرة اليهودية او الحركة الصهيونية، انما كان مجرد شخص اكتشف خلال توليه منصب مساعد حاكم القدس حركة الاستيطان اليهودية في فلسطين، وتجلي له خطرها الداهم، فراح يحذر منها وينبه اليها. وله في هذا فضل كبير بلا شك، اما طريقة تفكيره في فهم يهودية والصهيونية فكانت تقليدية علي غرار ما هو سائد وموروث في ذلك الحين. وعلي الرغم من ان نقد الرواية التوراتية كان بدأ في اوروبا ومع ان نجيب عازوري مثقف يتقن من اللغات الاوروبية الفرنسية علي الاقل، فيبدو انه لم يكن مطلعا علي الدراسات الحديثة في نقد التوراة وفي علم الاثار في فلسطين، بل كان يستخدم الرواية التوراتية بحذافيرها فيذكر، علي سبيل المثال ان اليهود لم يمتلكوا من فلسطين سوي الضفة الغربية لنهر الاردن وسلسلة الجبال الممتدة غربي هذا النهر من الخليل حتي بحيرة الحولة (ص 48). وفي مكان آخر يقول: كان في فلسطين تحت سيطرة داود مليون وثلاثمئة الف محارب استنادا الي الكتاب المقدس (ص 60). وهذه الارقام خرافية بطبيعة الحال، وابعد من ذلك، وكدليل علي ارتباكه وتناقضه يقول ان عدد سكان الارياف في فلسطين من الليطاني حتي هضبة بئر السبع لا يتعدي المئة ألف نسمة. فاذا اضيف اليهم سكان المدن في الخليل وغزة ويافا والقدس ونابلس وحيفا وعكا وصور والناصرة وطبرية وصفد يصل العدد الي مئة وسبعين الف نسمة، ويجب اضافة ثلاثين الف بدوي من الرحل في هضبة بئر السبع ليصبح العدد مئتي الف نسمة. ولا نحصي ضمن هذا العدد اليهود الذين يبلغون مئتي الف ايضا (ص 59 ـ 60). ان هذه الارقام تعني ـ بحسب عازوري ـ ان اعداد اليهود والعرب كانت متساوية في بدايات القرن العشرين، لكنه لفرط اضطرابه في حقل الاحصاءات يذكر في اسفل الصفحة (60) نفسها ان عدد سكان فلسطين هو 300 الف نسمة. وهذا يعني ان اليهود يشكلون 40% من سكان فلسطين وليس نصفهم. ومهما يكن الامر فان جميع هذه الحسابات خاطئة تماما، لان عدد اليهود في فلسطين وصل الي 56 نسمة قبيل الحرب العالمية الاولي ثم انخفض الي اقل من ذلك بكثير ابان الحرب. بينما كان عدد سكان فلسطين في تلك الفترة 550 الف فلسطيني علي الاقل.
في سياق اخر يقول: ان حركتنا (اي الحركة القومية العربية) تظهر في وقت توشك فيه اسرائيل ( يقصد المنظمة الصهيونية العالمية ) علي النجاح في خططها الهادفة الي السيطرة علي العالم (ص 93). وفي هذه العبارة يعيد استحلاب نظرية العبقرية اليهودية والخطط الخفية لليهود للسيطرة علي العالم كما وردت في بروتوكولات حكماء صهيون وهي نظرية زائفة تماما.
ان اهمية نجيب عازوري لا تكمن في طريقة التفكير التي انتهجها، او في الافكار التي انتهي اليها، بل في الوعي المبكر بخطر الهجــــرة اليـــهودية الي فلسطين، وفي فضح قعود الحكام الاتراك عن مواجهة هذا الخطر الداهم، ثم في كشفــــــه عن المساندة التي طالما قدمها القناصل الاوروبيون لليهود الـــــقادمين الي فلسطين. غير ان البـــــرت حوراني في كتابه الفكر العربي في عصر النهضة اشـــــار الي ان نجيب عازوري غير رأيه، في وقت لاحق، ورأي ان انشاء المستعمرات والمصارف اليهودية يؤدي الي تقوية القومية العربية بفضل مصالح اقطاب المال في العالم . وهذا ما جعل حوارني يستنتج ان عازوري لم يكن منسجما مع نفسه . (ص 333).
الحماية الاجنبية
دعا نجيب عازوري الي قيام أمة عربية في الجزء الاسيوي من بلاد العرب فقط. وعلي اهمية هذه الفكرة في ذلك الزمان، الا ان ثمة نهجا شديد الخطر لدي نجيب عازوري يتمثل في ان قيام كيان عربي مرهون، بحسب تصوره، بفكرة الحماية الاجنبية، وهي هنا تعني الحماية الفرنسية. فنجيب عازوري كان يؤيد بقوة نظام الحماية الفرنسي في المشرق، وطالما دافع عنه بلا كلل، ووصفه بأنه عمل خيري يقوم علي ثلاث ركائز فهو:
1 ـ يحمي المرسلين الفرنسيين.
2 ـ يحمي الكنائس الكاثوليكية الوطنية.
3 ـ يحمي المرسلين الكاثوليك الاخرين كالألمان والايطاليين والانكليز.
كان عازوري يعتقد ان فرنسا رسول نشط ومتحمس للفكر الحر، وهي مشعل الحضارة والحرية الاسطع اشعاعا الي جانب كونها حامية المقهور (...) اما انكلترا فهي المنافسة الشريفة لفرنسا، المأوي السخي للفكر والقيم الانسانية (ص 116) ولو عاش عازوري سنة واحدة فقط، اي الي سنة 1917 لظهرت له اتفاقية سايكس ـ بيكو ولخاب أمله في سياسة هاتين الدولتين اللتين، ولا سيما فرنسا التي طالما وصفها بأنها امة الفروسية، وهي التي بادرت الي الحملات الصليبية التي عادت نتائجها بفوائد علي العالم بأسره، وغزت الجزائر لا من اجل اقامة مستعمرة انتاجية لها فيها فحسب، بل وفوق ذلك من اجل تحرير المتوسط من القرصنة البربرية التي كانت تشله وتهدد التجارة الدولية (...) وقامت بحملة الي سورية وخلقت الحكم الذاتي في جبل لبنان دون ان تتمركز في البلاد كما كان يمكن لها ان تفعل (ص115).
كان عازوري يري ان من اولويات مشروعه القومي هو الانفصال عن الدولة العثمانية، فهو يقول: ان العرب والاكراد والارمن يريدون الانفصال عن الشجرة النخرة ليشكلوا دولا مستقلة حرة مشبعة بأفكار التقدم والحضارة الاوروبية (ص134). وبهذا المعني فان افكار نجيب عازوري كانت منسجمة تماما مع مشروعات وراثة الرجل المريض ومع المصالح الفرنسية بالتحديد. والمعروف ان فرنسا عملت، بقوة علي استمالة الزعماء المسلمين في سورية ولبنان، وكانت الجمعية الاصلاحية في بيروت احدي وسائلها. وضمت هذه الجمعية كلا من خليل زينية واحمد مختار بيهم وسليم علي سلام وايوب ثابت والبير سرسق والشيخ احمد طبارة وغيرهم. وفي هذا السياق اورد وجيه كوثراني في كتابه وثائق المؤتمر العربي الاول ان كوجيه القنصل العام لفرنسا في بيروت ارسل رسالة الي وزير الخارجية الفرنسية بيشون مؤرخة في 16 ايار (مايو) 1913 قال فيها ان خليل زينية برهن دائما عن كونه مخبرا متفانيا ومنبها مخلصا لهذه القنصلية، ولنا ان نعتبره بحق مواليا لفرنسا بصدق .
وفي عريضة وجهتها الجمعية الاصلاحية الي الحكومة الفرنسية في 1913/1/13 ورد ما يلي: نحن الموقعين ادناه نعرض في ما يلي، مرتبة بحسب الافضلية، الحلول التالية التي تبدو لنا الحلول الوحيدة التي تلائم الوضع السياسي في سورية:
1 ـ اما بسط الحماية الفرنسية علي سورية،
2 ـ او الحكم الذاتي لولاية بيروت تحت حماية فرنسا ورقابتها،
3 ـ واما ضم ولاية بيروت الي لبنان علي ان يوضعا معا تحت الرقابة الحقيقية لفرنسا. الموقعون: خليل زينية وميشال تويني وايوب ثابت والسيدان ارقش وهاني .
ان هذه الشبهات اثارت الريبة لدي زاهية قدورة، والجأتها الي القول يصعب وضع تصوره كله (أي تصور نجيب عازوري لمستقبل سورية)، بما في ذلك فهمه للصهيونية خارج اطار الصراع الاستعماري علي المنطقة وعن الذي كان يدور بين فرنسا وانكلترا منذ قرن من الزمان (...) وقد اظهرت وثائق وزارة الخارجية الفرنسية ان نجيب عازوري كان مرتبطا بالسياسة الفرنسية، ومن هنا يأتي ارتباطه بالمشروع الاستعماري الفرنسي، ومن هنا يأتي التناقض في موقفه .
من الواضح ان افكار نجيب عازوري كانت مشوبة بلوثة طائفية، فضلا عن مقدار لا بأس به من الغفلة حيال المصالح الفرنسية والانكليزية في بلادنا. وهو عندما دعا العرب والاكراد والارمن الي طلب الدعم والحماية من الدول الاوروبية، وبالتحديد من فرنسا وانكلترا، من اجل الانفصال عن تركيا، انما كان يعبر عن ضرب من التعصب للكاثوليكية والكره الهائل لروسيا التي ما برح متهما اياها بالامعان في نشر الارثوذكسية في بقاع الارض. والحقيقة ان دعوته الي احلال مذهب كاثوليكي قومي عربي تتلي بموجبه الصلوات كلها بالعربية، وتأسيس بطريركية خاصة لهذه الكنيسة الجديدة تحتوي المذاهب الاخري كلها خلال سنوات معدودة نابعة من غيرة طائفية لا من موقف قومي علماني. فهو يعيب علي فرنسا الكاثوليكية تخليها عن الموارنة، ويحذرها من ان هؤلاء ربما يطلبون الحماية من انكلترا، ولا يتورع عن معاتبة فرنسا لأنها رفضت في سنة 1903 ارسال الاسطول البحري الي بيروت لاستعراض قوته بعد وقوع بعض الاضطرابات، وفي سنة 1904 رفض الاسطول البحري الفرنسي ان يحيي مطرانيين مارونين جاءا لتهنئة الاميرال. ويقول ان الموارنة اعتقدوا ان هذين التصرفين يشيران الي تخلي فرنسا عن حماية الكاثوليك. وهنا يرفع عازوري عقيرته بالتصريح التالي: لا يستطيع المسيحيون العيش بأمان بعد هذا التخلي الرسمي عن حمايتهم، ووجب عليهم التفتيش عن مُدافع. ومن الطبيعي ان يرتموا في احضان انكلترا (ص 133). لكنه. مع ذلك يؤكد ان لا احد يملك الحق في حكمنا غير فرنسا، ولن يهتف احد بحرارة لاية دولة غيرها في الاقطار العربية يوم يتقرر تجزئة الامبراطورية التركية (ص 133).
وعلي الرغم من انتهازية عازوري الواضحة، فان ذلك لم يمنع كنعان الخوري حنا من الاشارة الي ان تعصب عازوري لمسيحيته او حتي لكاثوليكيته تجاه المذاهب الاخري لا يجعل دعوته الي الفصل بين الدين والدولة عديمة الفائدة (ص 367).
في اي حال فان نجيب عازوري، اذا تجاوزنا قصة علاقاته الخاصة والمريبة بوزارة الخارجية الفرنسية، لم يكن له، علي الارجح، اي حضور سياسي فاعل في تلك الفترة المضطربة من تاريخ المنطقة العربية. ولعل اهميته تكمن في الجانب التاريخي فقط، تماما كما نستعيده الان كأحد رواد الفكر القومي العربي، واحد الذين عرفوا مبكرا خطر الصهيونية والهجرة اليهودية الي فلسطين. اما جهده الفكري والسياسي الذي بذله طوال اربعة عشر عاما (1904 ـ 1916) فقد ظل هامشيا وبلا تأثير او فاعلية، فهو، كما يقول عنه البرت حوراني، وقف عند حد تعريف الفرنسيين بقضية العرب القومية من دون ان يحدث اثرا يذكر في ارض الواقع في المشرق العربي (البرت حوراني، مصدر سبق ذكره).
الأمة بين مفهومين
في تصوره للدولة العربية المقترحة استبعد نجيب عازوري مصر من اطار هذه الدولة.
لماذا؟
لان المصريين (في رأيه) لا ينتمون الي العرق العربي، فهم من عائلة البرابرة الافريقيين، واللغة التي كانوا يتكلمونها قبل الاسلام لا تشبه العربية قط (ص 219).
اذن، يبني نجيب عازوري تصوره للأمة العربية علي اساسين: العرق واللغة. وهو يخرج المصريين من دائرة العروبة استنادا الي انهم من عرق غير عربي، اي بربري افريقي، ولانهم كانوا يتكلمون قبل الاسلام لغة غير عربية.
ما باله ينسي ان سكان لبنان وبلاد الشام ايضا كانوا يتكلمون قبل الفتح العربي اللغة السريانية، وهي لغة تنتمي، مع العربية، الي مجموعة لغوية واحدة! وفي اي حال فقد برهنت الدراسات الصوتية الحديثة ان اللغة المصرية القديمة تشترك مع اللغة العربية القديمة في ابنية وتراكيب واشتقاقات تجعلهما ينتميان الي مجموعة لغوية واحدة تقريبا، او متجاورة علي الاقل. ويبدو ان نجيب عازوري تأثر بأفكار مصطفي كامل، وبجمعــية مصر الفتاة وكلاهما ينكر عروبة مصر.
لنلاحظ كيف ان مفهوم الامة لدي عازوري متخلف وغير معاصر، ويقوم علي عنصر العرق. ومع انه كان يرفض فكرة تأسيس الامم علي اساس الدين، الاانه لم يتمكن من التقدم خطوة واحدة في هذا الحقل المعرفي لانه لم يكن صاحب تفكير نظري، بل صاحب مشروع سياسي اولا واخيرا. وابعد من ذلك فان تصور عازوري للدولة العربية الموعودة لا تختلف عما هو حال العرب اليوم الا قليلا. ان هذه الدولة ستنشطر الي قسمين: قسم في الحجاز، وهو دولة دينية تمنح لشريف مكة، وقسم في الشام والعراق تنفصل فيه السلطة الدينية عن السلطة المدنية ويمنح لاحد ابناء سلالة محمد علي. وفوق ذلك ستنشأ كيانات اخري متمتعة بالاستقلال الذاتي وبالحماية الدولية معا مثل امارة نجد (تمنح لابن سعود)، وامارة المحمرة (تمنح لشيخ الخزاعلة) ولبنان والقدس واليمن، وكذلك امارات الخليج الفارسي بحسب مصطلح عازوري نفسه.
ان هذه الدولة توليفة ملفقة تماما. وهي مجرد خطة تراعي مصالح اطراف كثيرة في الوقت الذي لا تراعي فيه مصالح السكان ابدا. وهذه الفكرة انما تستجيب، بحسب صاحبها بالذات، للمصالح الفرنسية بالدرجة الاولي، وللمصالح الانكليزية بالدرجة الثانية، والهدف هو تفكيك الدولة العثمانية والوقوف امام التمدد الروسي في ذلك الوقت.
ان فكرة قيام خلافة عربية يكون خديوي مصر رئيسها الزمني وشريف مكة رئيسها الروحي هي فكرة الخديوي عباس حلمي في الاصل، وهي استمرار لدعوة محمد علي وابنه ابراهيم باشا اللذين حاولا تأسيس امبراطورية عربية علي هذا الطراز. ثم ان بعض افكار نجيب عازوري المتصلة بالدولة العربية المقترحة مسروقة تماما من عبد الرحمن الكواكبي (1849 ـ 1903) الذي طالما دعا في كتابه طبائع الاستبداد وفي كتابه الاخر أم القري الي ان يتولي العرب بأنفسهم ادارة بلادهم، والي نزع الخلافة من الاتراك واعادتها الي العرب، مشترطا ان يكون الخليفة قرشيا وان تشمل سلطته الروحية كافة المسلمين، علي ان يقتصر سلطانه الزمني علي الحجاز. وكانت تلك أول مرة يتقدم فيها مفكر عربي مسلم بمشروع لانشاء دولة وطنية تفصل فيها السلطة التنفيذية عن الدين (انظر: سليمان موسي، الحركة العربية 1908 ـ 1924).
انها بالفعل فكرة ملفقة تماما وصاحبها نجيب عازوري لم يكن علمانيا حقا، لانه يدعو الي كيان عربي مزدوج الهوية: دولة دينية في الحجاز، ودولة مدنية في الشام والعراق. انها فكرة توفيقية صيغت بحسابات الدكنجية فصاحب الفكرة اراد منها ان يرضي معظم الاطراف الفاعلة في تلك الفترة، ولهذا جاءت لتوفق، في احد جوانبها، بين مفهوم السلطة الدينية والسلطة المدنية، فتعطي امير مكة سلطة زمنية وسلطة دينية علي الحجاز، وسلطة دينية فقط علي عموم المسلمين في العالم. ثم توفق بين الاستقلال التام عن الاتراك وبقاء النفوذ الغربي قائما. وهي توفق ايضا بين دور مصر المركزي في المنطقة واخراج مصر من الجسم العربي في الوقت نفسه.
وهذه الفكرة نفسها تلامس طموحات الاميرين فيصل بن الحسين وشقيقه عبد الله اللذين طالما تطلعا، قبل ان يهزمهما عبد العزيز بن سعود، الي قيام خلافة عربية تكون الحجاز قاعدة لها. وعلاوة علي ذلك، فانها توفــــــق بين فكرة اللامركزية عند رفيق العظم (اي استقلال امارات نجد والحجاز والعراق واليمن والخليج ولبنان) وفكرة الكواكبي عن وجوب قيام خلافة عـربية تقود العالم الاسلامي.
ـ كاتب فلسطيني مقيم في بيروت.
المراجع:
البرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة بيروت، دار النهار، 1977
حسام طوقان، حالة نجيب عازوري وتناقضاتها السفير، 2004/3/5
زاهية قدورة نجيب عازوري من خلال زمانه ومكانه ، مجلة تاريخ العرب والعالم (بيروت)، العدد 26 كانون الاول (ديسمبر) 1980 والعددان 27 و28 كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) 1981.
سركيس ابو زيد، عروبة يوسف بك كرم بيروت، دار ابعاد 1997.
سليمان موسي، الحركة العربية 1908 ـ 1924 بيروت دار النهار 1977.
عصام شبارو ثورة العرب ضد الاتراك (تحقيق)، بيروت: دار مصباح الفكر، 1987.
فريتس شتيبات، الاسلام شريكا الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب (سلسلة عالم المعرفة، العدد 302) نيسان (ابريل) 2004.
كنعان الخوري حنا، الدين والدولة في الفكر العربي الحديث بيروت دار الركن 2004.
مجيد خدوري الاتجاهات السياسية في العالم العربي بيروت: الدار المتحدة للنشر، 1972.
نجيب عازوري يقظة الامة العربية بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بلا تاريخ.
وجيه كوثراني، وثائق المؤتمر العربي الاول بيروت: دار الحداثة 1980.
التعليقات