عبودية في بلاد الحرية، وثراء سريع لكن بثمن!


هاني عبد اللهمن السويد: لم يخطر ببال سمير محمد الجباري، مهندس ( 35 ) عاما، وهو يفكر بالهجرة للسويد من العراق، إنه سيُضطر أن يعمل في عم للبـيتزة، لمدة 12 ساعة من العمل الشاق المتواصل يوميا، مقابل 100 كرونة سويدية في اليوم الواحد، لاتتعدى قيمتها 10 دولارات أمريكية!!
يقول لـ " إيلاف " : " بالطبع العمل ليس عيبا، وانا على رغم أنني مهندس لا أستنكف غسل الصحون وتنظيف التواليتات، ولا تحضير مواد البيتزة، لكن ما يؤلمني حقا، هو قبول أستغلال رب العمل لي بفضاعة، أشبه ما تكون الى، عبودية في بلاد الحرية"!!
يضيف: " وصلت السويد قبل ثلاث سنوات، ولم أتمكن من الحصول على أقامة في هذا البلد، الأمر الذي حرمني من العمل بطريقة رسمية، ورغم انني أتقاضى من دائرة الهجرة مساعدات مالية بسيطة، إلا أنها بالتاكيد ليست كافية، خاصة انني أنفقت كل ماكنت أملكه للوصول الى هذا البلد، وأعطيته الى عصابات التهريب، لذلك لم يكن هناك خيارا آخر أمامي غير " العمل الأسود" في مطعم للبيتزا، عند رب عمل شرقي". ( أغلب أصحاب مطاعم البيتزا هم من المهاجرين الشرقيين ).
يتحدث الجباري بمرارة عن الأهانات التي يسكت عنها من صاحب العمل، الذي يدفع له مبلغا يقل بعشرات المرات عما يُفترض أن يدفعه له كأجر، بحسب القوانين السويدية، لو تعاقد معه للعمل رسميا.
قصة الجباري، هي مثال لمئات بل الاف من المهاجرين الذين يضطرون للعمل الأسود خصوصا في قطاعات الخدمات والمطاعم والفنادق، تهربا من دفع الضرائب، وتوفير مبالغ بدون علم الجهات الرسمية وأستغلال المساعدات الأجتماعية وضمان عدم قطعها، إضافة الى اسباب كثيرة أخرى.
وعلى رغم أن " البيتزا " أشتُهرت في أيطاليا، وهي موطنها الأصلي، إلا أنها أرتبطت في السويد بالأجانب، خصوصا الشرقيين منهم.
وللـ " بيتزا " وقع غير عادي عند الكثيرين!! فهي تُقدم في المطاعم كوجبة رئيسية تسد الجوع، حتى مثلا بالنسبة الى شره أمضى ساعات طويلة من العمل الشاق! وهي مفضلة ايضا من قبل الشباب الخارجين من الديسكوات ايام العطل، مثلما هي كذلك من قبل الكثير من الناس العاديين.
لكن " البيتزة " لها وقع آخر مختلف، عند صاحب العمل الذي يجد فيها، أكثر الطرق شيوعا للثراء!
واذا كان الحال بالنسبة الى سمير يختلف عن آخرين، إلا إن العمل الأسود لا يقتصر أطلاقا على غير المقيمين. بل يشمل الكثير من المهاجرين المقيمين وحتى السويديين أنفسهم!

الشباب أكثر ميلا للعمل الأسود

بحسب أحصائيات مصلحة الضرائب السويدية، في تقريرها الذي أصدرته شهر نيسان ( أبريل ) من العام الماضي 2003، فإن الشباب هم أكثر تحمسا لأخفاء قسم من مداخيلهم عن المصلحة، وأن الرجالأكثر في ذلك من النساء.
لكن بيتر رودين، مسؤول مشروع " الحملة من أجل العمل الأبيض " الذي تموله مصلحة الضرائب السويدية، يقول لصحيفة " أخبار اليوم " ( داكنز نيهيتر ) السويدية واسعة الأنتشار، إن "الأنسان يخدع نفسه عندما يعتقد انه يربح أكثر من خلال العمل الأسود".
ويضيف: " فمثلا ان حدثت مشكلة بين رب العمل والعامل، فان الأخير لاحق له للدفاع عن نفسه وحقوقه. كذلك فأن فترة عمله لا تُحسب له كخدمة، ولن يحصل على شهادة لأستخدامها في أعمال أخرى، ولن يتمكن من الحصول على أجازات صيفية ولا مرضية، إضافة الى انه لن يحصل على الأجر المضاعف في حال أدائه عملا مضافا، ومن الوارد جدا أن يتم طرده من العمل في أي لحظة.
وأستنادا الى أرقام دائرة سوق العمل فإن 17 % من الشباب بين سن العشرين والرابعة والعشرين يعانون من البطالة، ولايملكون شهادات الثانوية!
ويسعى المسؤولون في دائرة سوق العمل الى خفض هذه النسبة بسبب حاجة سوق العمل لأيدي الشباب العاملة في السنوات القادمة، خصوصا أن جيلا من العمال يتقاعد كل سنة!
وقدمت وزيرة الشباب السويدي لينا هالغرين، في ندوة نظمها مكتب الأحصاء المركزي في العاصمة السويدية ستوكهولم، في التاسع من كانون الأول الجاري، قدمت موقف الحكومة ورؤيتها فيما يتعلق بتحسين فرص العمل للشباب.
اكدت الوزيرة لينا على أهمية المرحلة الثانوية وتشجيع المقاولة ومراكز القيادة للشباب في البلديات ( الكومونات ) حيث يدخل الشباب العاطلين عن العمل في ورش تساعدهم على إيجاد فرص مناسبة لهم.


الضرائب الكبيرة سبب رئيسي للعمل الأسود

تأتي السويد في صدارة دول العالم من ناحية فرض الضرائب على دخول المواطنين.
وعلى رغم تميزها بنظام متطور جدا للضمان الأجتماعي، إلا أن مستوى الضرائب كان ولايزال مثار جدل في اوساط المجتمع والسياسيين ورجال الأعمال، وحتى الرياضيين.
فالكثير من كبار أثرياء البلد لايعيشون في السويد، وأنما يديرون أعمالهم من خارجها، تخلصا من الضرائب الضخمة.
ونسبة الضرائب هي تصاعدية بحسب الدخل. فكلما زاد الدخل تزداد الضرائب. وهي تبدا من حوالي 30 % من الدخل الشهري بالنسبة الى الأفراد،. لكن هذه النسبة تزيد أكثر بكثير عندما يتعلق الأمر بالشركات وتصل الى أكثر من 50 %!! وهي نسبة ضريبة عالية جدا، دفعت بالكثيرين الى العيش في بلدان أخرى!
وبسبب من ذلك كله، تحاول الكثير من الشركات وأصحاب المطاعم والفنادق وغيرها، التخلص من بعض هذه الضرائب من خلال اللجوء الى توظيف أيدي عاملة رخيصة، دون تسجيلها رسميا.
والقانون السويدي يمنع منعا باتا مايسمى بالعمل الأسود، كما في الكثير من البلدان، لكن السلطات المعنية تتغاضى في حالات كثيرة عن الذين يخفون بعض من مداخيلهم، لاسباب يعتقد بعض الأقتصاديين انها مدروسة.
فمنع العمل الأسود كليا سيؤدي الى أزدياد كبير في الأسعار الأمر الذي من المحتمل ان يؤدي الى ظواهر اقتصادية سلبية.

لماذا العمل الأسود؟

هناك الكثير من الأسباب التي تدفع البعض الى العمل غير الرسمي، تختلف بأختلاف وضع الشخص وظروفه وموقفه الرسمي.
فاللاجئ غير المقيم في البلد، يرى فترة بقائه في السويد بأنها فرصة لجني ما يستطيع من مبالغ يعوّض فيها ما دفعه الى المهربين او يُرسلها كمساعدات الى عائلته. في حين يجد المقيم العاطل عن العمل والذي يتلقى المساعادت الأجتماعية من البلدية ( الكومون )، في العمل الأسود فرصة لأقتناص مبالغ أضافية دون علم السلطات التي بالتاكيد ستقطع عنه المعونة المالية لو علمت بعمله!
والعمل الأسود يتخذه البعض وسيلة للثراء السريع! لكن طبعا ليس دون ثمن!!
فالعامل الذي يعمل لأول مرة في مطعم مثلا، يتعرض في أغلب الأحيان، الى أقسى انواع الأستغلال من رب العمل، لنقص خبرته، وعدم المامه بالعمل، فتكون الفرصة لبعض فاقدي الضمير سانحة " لضرب ضربتهم " !!
وهكذا يُضطر الكثير من العمال ان يقبلوا بـ 8 كرونات – مثلا - كأجر للساعة الواحدة، وأن كان لعدة أشهر، في حين ان المالوف في سوق العمل الرسمي أن يدفع صاحب العمل ما لايقل عن 70 كرونة للساعة الواحدة!!
وكثيرون يؤكدون أنهم عملوا لعدة اشهر مجانا دون أي أجر، بذريعة انهم لايمتهنون الصنعة! حتى أن بعض أرباب العمل يعتبرون قبولهم للعامل العمل في مطعمه مجانا من باب الخدمة والأنسانية، ويضعونها في أطار " الصَدَقّة "!! في حين ان الحقيقة هي عكس ذلك تماما.

أرباب عمل بضمائر ميتة!

يقول شريف عباس، فلسطيني، ( 28 ) عاما: " صحيح ان صنع البيتزا وأمتهان طبخها، يتطلب بعض الوقت، ويختلف من شخص الى آخر، لكن عمل المطعم ليس كل ذلك، فمثلا هناك غسل الصحون والتنظيف وتحضير السلطات وقطع الجبن واللحم وتقطيع البصل والطماطة والخيار، والكثير من الأعمال الأخرى، لذلك فأن صاحب العمل، يجب ان يتوفر له من يقوم بهذه الأعمال التي لاتحتاج الى وقت كبير لتعلمها، لكن رب العمل يتغاضى عن ذلك، ويستغل العامل أبشع استغلال، ولا يدعه أصلا يتعلم طريقة صنع البيتزا وطبخها، منعا لمطالبة العامل بزيادة راتبه الأسود! وفوق هذا يعتبر هذا العمل سهلا، لكنه لن يجرؤ على عرضه على عامل سويدي مثلا، لانه بالطبع من المستحيل أن يقبل بذلك!!
يجد رب العمل الأسود في تشغيل عمال بأجور بسيطة تخلصا من حقوق تترتب عليه في حال العمل الرسمي، منها العطل والأجازات المرضية، والخطورة، وحقوق كثيرة للعامل نص عليها القانون، اضافة طبعا الى الضرائب، ورسوم ارباب العمل التي تشكل مجتمعة 60 % من الراتب.
ينعدم ضمير بعض من هؤلاء ويصل أدنى مرتبة في حالات كثيرة! يقول شريف : " قبل ايام تمرضت بسبب الأفلونزا، ولم أتمكن من مواصلة العمل ليومين، وعندما تقاضيت الراتب الشحيح اصلا وجدت ان صاحب المطعم قطع من راتبي 200 كرونة هي ثمن اليومين "!!
شريف يأمل من استمراره في هذا العمل كسب المزيد من الخبرة وان كانت مغمسة بشعور تقبل الأستغلال، حتى يصبح يوما، " معلم بيتزة " ويُضطر صاحب العمل الى زيادة راتبه!
( عصام ) صاحب محل للبيتزا يرفض ذكر أسمه الحقيقي الكامل، قال لنا: " رب العمل مضطر ان يجد عمالا يعملون بالأسود، لانه لايوجد مطعم يجني ربحا معقولا اذا لم يفعل ذلك، فالضرائب كبيرة جدا"! يضيف : " انا لا اعتبر كل ذلك استغلال، فهذا عمل، وسوق العمل هو هكذا"!!

هل من وازع ضمير؟

وازع الضمير مطلوب بألحاح في هذه المعادلة. فسوق العمل صحيح قائم على العرض والطلب والمنافسة لكن هناك قوانين تنظم ذلك، وحقوق للعمال يجب مراعاتها كما يتم مراعاة حق رب العمل. واي شي غير ذلك يعتبر جريمة أقتصادية وحتى انسانية لايمكن تبريرها، خاصة وان هناك الكثير من العمال يسكتون عن أهانات كثيرة من رب العمل، حتى لايُطردون عندها لن يكون هناك من يدافع عنهم!
يشكل المهاجرون الشرقيون خصوصا العرب منهم نسبة كبيرة جدا من اصحاب المطاعم في السويد. والأغلبية الساحقة منهم بداوا كعمال يتقاضون أجرة عمل أسود ومّروا بأستغلال مشابه لما يقومون به الأن ضد عمالهم.
وهؤلاء عانوا في بلادهم من العوز والفقر والظلم، وبسب من ذلك هاجروا بلدانهم الى السويد. وهنا قاسوا كثيرا من مشقة العمل ولسنوات حتى وصلوا الى ماهم عليه الان، لذلك ليس مستغربا أن يجد المرء بينهم من يتحول من " ضحية " سابق، الى " جلاد " حالي. وما أقسى جلاد كان ضحية!