حديث عن رحلة من غياهب التطرف نحو فُسحة الإعتدال:
"النقيدان" السعودي تحت نظَّارة الـPBS الأميركية


سلطان القحطاني من الرياض: الطاولة التي تفصل ما بيني وبين منصور النقيدان، الكاتب السعودي المثير للجدل، خشبية يتكئ عليها كأسان من عصير مُصنَّعٍ محلياً يُسمِّيه النادل المغربي : "حب الملوك". منصور النقيدان هو ذاته لم يتغير مذ أول لقاء لنا قبل سنوات ثلاث: النظرة ذاتها، حركةُ اليدينِ عند الحديث، الميلانُ نحو اليمين تارَّةً واليسار تارّة أخرى، والإطراقة المؤقتة إصغاءً لفكرة أو هاجس.

كل شيء على حاله لدى منصورالنقيدان سوى طارئ جديد : إنه ينتظر طفله الأول الذي يُريده أن ينشأ على حُبِّ الإنسانية، و حُبِّ الموسيقى. حين كنت أجهز أسئلتي لإجراء هذه المقابلة لصالح الـPBS الأميركية ( أُنشئت عام1969، وتشغل حالياً 349 محطة، وهي أكبر شركة بث تلفزيوني في العالم)، كانت العديدُ من الأسئلةُ تحوّم فوق رأسي كالنحل.

منصور تلقى العلم كما تلقاه العلماء. إنه عالم دين وفقيه تحرر من رسن التعصب، و لذلك كان لزاماً علي أن أنقل تلك التحولات الضخمة التي حفلت بها حياة النقيدان، سواءً عن كونه كاتباً في شؤون الجماعات الإسلامية، أوناشطاً إسلامياً متشدداً فيما مضى.

المكان الذي اخترناه لتصوير المقابلة كان مقهىً أنيقاً على شارع هادئ من شوراع العاصمة الرياض. شاشة ضخمة تتوسط مدخله الزجاجي ، و نافورتين تهبطان من مكان عليٍّ جوار السقف، وعلى جزء من الأرضية يبزغ مجرىً للمياه يعلوه جسرٌ خشبي.

تسلحنا بالماكيروفانات التي دُسّت على عجل مابين أزار ثوبينا، وتحدث منصور عن نفسه: "ترعرتُ في منطقة القصيم في مدينة بريدة وتلقيت تعليمي في المراحل الأولى في مدارسها، حتى السنة التاسعة، بعدها رأيت أن أعيش تلك الحياة التي عاشها أسلافُنا الأوائل، فضلتُ الخروج من ثقب الزمن، والعيش بين أولئك الذين عايشوا حياتهم بين القرآن وبين أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام قبل 1200 سنة.

لهذا أخذت مايقارب الخمس سنوات أتلقى العلم على يد علماء مدينة بريدة، وهم علماء حنابلة و وهابيّون، قائمون على اتباع تعاليم الشيخ محمد بن عبدالوهاب، والحرص التام على اتباع سنن أسلافهم الأوائل".

يمضي قائلا: " لكنني كنت ذا تجربة خاصة، حيث كانت الحياة التي عشتها لخمس سنوات بين أشخاص أرادوا أن يعتزلوا هذا الزمن، فعاشوا بتلك القناعات التي أطلت عليهم من ركام التاريخ، وعاشوا بين أشخاص في القرن العشرين ولكنهم كانوا منعزلين عنهم. عاشوا قريبين من مجتمعهم وعاشوا منعزلين عنهم. إنهم أولئك الذين فضلوا أن يعيشوا حياة متصوّفة قائمة على الزهد والقناعة بالقليل، والحرص على أن لا يدخل أجوافهم شيئاً إلا مما كسبت أيديهم".

* كيف كانت هذه التجربة؟
كانت تجربة إستثنائية بالنسبة إليّ. كنت في أواخر سن السادسة عشرة حين اعتنقت هذه الأفكار، وكنتُ قريباً منهم أعيش معهم، قريباً من أنفاسهم أتقلب معهم. أعيش تلك الحياة، حتى عام 1990 حيث كانت الحرب التي قامت بسبب احتلال العراق للكويت، فكانت منعطفاً كبيراً، ومرحلة جديدة في تشكيل الفكر السياسي الإسلامي وغيره من شتى الإيدولوجيات العربية. حينها شعرت أنه يتوجب علي الخروج من تلك العزلة وكسر القوقعة التي أحطت بها نفسي. حينها جاء السؤال الكبير الذي طرحه الكثير من الإسلاميين، وبما انني واحد من ذلك الطيف، ذلك التيار الذي يشمل ألواناً من الطيف في السعودية، كنت واحداً من أولئك الذين تأثروا بتلك الأسئلة.

علينا أن لانكتفي فقط بالانعزال. لقد كنت خلال السنوات التي سبقت عام 1990، أعيش مع أولئك الذين يظنون انهم آمنون، وأن الله راض عنهم حينما ينعزلون عن مجتمعهم. في العام 90 أصبح الامر مختلفاً تماماً. إن الله ليس راضياً عنَّا حتى نقوم نحن بخطوة من أنفسنا لنغير هذا المجتمع، الذي كنا نرى أنه يهوي في هوّة سحيقة من المعاصي، والبعد عن تعاليم الله. علينا ان لا ننتظر المعجزات، وأن نخطو الخطوة الأولى، وهذا ماحصل حينها".

*وماذا بعد؟
لسبع سنوات كنت أتنقل بين أطياف هذه الدائرة، تارّة كنت أحمل فكراً متطرّفاً، وتارة رأيت أنني لابد أن أطبق تلك الأفكار ولو بالقوة حينما تكون السلطة غير قادرة على أن تكون بمستوى ماتدعو إليه من مبادئها، حينما تكون السلطة التي ننظر إليها على أنها تمثل الإسلام متوانية ومتقاعسة عن تطبيق شرع الله، وكلمة ربي في أرضه، فنحن أحباب الله وأوصياءه الذين علينا أن نقوم بذلك، وهذا ماحصل حينها، حتى عام 97. تلك كانت نعطفاً آخراً بالنسبة إليّ، حينما شعرت في لحظة معينة نسج سُداها ولحمتها تجربة شخصية قائمة على تلك الأسئلة الكبرى التي أطرحها بيني وبين نفسي: البحث عن الحقيقة، البحث عن الخلاص.

لأنني كنت أعيش صراعاً داخلياً وأبحث عن الطمأنينة، وكنت دائماً ألجأ إلى الله ليدلني على طريق الصواب، وذات يوم شعرت بأنني أنا لست أمثل الإسلام وحده، وأن تلك المفاهيم والمعتقدات التي نشأت عليها منذ نعومة أظفاري حتى سن السابعة والعشرين، لا تعدو سوى أن تكون رأي أو إجتهاد.

إننا لا نعبرعن حقيقة مطلقة. أننا لسنا أوصياء لله، والإسلام ليس إسلاماً واحداً، بل هناك إسلامات أخرى. رفد هذا التفكير وهذا التغير أشتاتٌ من القراءات والنقاشات والتحولات الفكرية وأشياء أخرى. لهذا نحن كل يوم نتشكل، وأشعر انني اليوم شخص آخر مختلف تماماً.

النسغ الواحد الذي رسخ معي أنني أطرح الأسئلة بيني وبين نفسي دائماً، وأحب دائماً أن أتسائل وأفكر تفكيراً جهرياً، ولهذا فإنني أشعر اليوم أنني مطمئن لكل ما حصل، من أخطاء ومن صواب و من حسنات ومن سيئات، كل تلك الأشياء هي التي شكلتني هذا اليوم.

*هل أنت نادم؟
لستُ نادماً. لشيء واحد: إننا لا نعبر عن الحقيقة المطلقة. إن في القرآن الكريم آية أحب ان أسمعها كثيراً: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). الكثيرون يقصرون هذا المعنى في حيز ضيّق. لكنني أشعر ان هذه طبيعة الإنسان. نحن لانعبر عن الحقيقة المطلقة، نحن لانعرف الحقيقة من شتى جوانبها، نحن لدينا قصور ذاتي، وبالتالي أنا أشعر أن النجاح الحقيقي حينما يشعر أولئك الذين مروا بنفس تجربتي - حين يشعر أمثالي - بأنهم الأقدر على فهم أولئك الذين مازالو حتى الآن يعيشون تخبطات ذلك المستنقع الذي مررتُ به أنا وأمثالي. يُفترض بنا أن نكون الأقدر على فهمهم، وأن نكون الأرحم بهم، وأن نكون متعالين عن تلك اللحظات والمشاعر التي تتداعى حينما ينكسرُ مابداخلنا من قناعات حتى لا تتحول إلى تطرف في الجانب الآخر. أتمنى اليوم أنني انتصرت على ذاتي وعلى نفسي، أنني أتعلم من أخطائي، ولكنني لست نادماً.

إن كل ذلك التاريخ الذي عشته هو الذي يُشكلني.

*أكان لديك حينها موقف أيدولوجي من التعليم الرسمي؟
ذات يوم كنت في درس لأحد العلماء والمشائخ. أذكر انني خرجت من الدرس قبيل مغيب الشمس، فقابلني رجل في الستين من عمره. كنت أنظر إليه كما أنظر إلى شخص عاش في حقبة عاشها الصحابة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم. أمسك بي وقال: "أتعتقد أن التعليم الذي تتلقاه في المدارس الحكومية هو مايرضاه الله؟ لأ، أنت لست على الصواب.. لن تكون على الصواب حتى تتخلى عن هذا التعليم، وتتلقى العلم كما تلقاه أسلافنا الأوائل قبل ألف سنة، وحين تشعر أن العالم كلهم ضدك، وأن أباك وأمك سيقفان ضدك، عليك أن تعلم أنك حين تصبر على جحيم أذاهم في الدنيا، أومضايقاتهم وحزنهم على تركك التعليم الحكومي هذا أهون عليك من أن تتحمل عذاب الله يوم القيامة".

تلك الكلمات التي سمعتاه ارتجف بها فؤادي، وحينما عدت إلى البيت لم أستطع أن أنام تلك الليلة، وكما نفعل دائماً نحن المؤمنين والمسلمين : توضأت وصليت لله ركعتين، وفي الثلث الأخير من الليل لجأت إلى الله واستخرته، وحينما صليت الفجر شعرت بأنني الآن أعيش حياة جديدة.

*وكيف تلقى والداك تلك الرغبة؟
كانت صدمةً بالنسبة إليهم. عُقد لي إجتماع في البيت، حضره أخوتي ووالدي وأمي. أمي التي كانت تمزّق القلب ببكائها. ومع الجدال والخصام كنت متأثراً وكنت أبكي أقول: "لا شأن لأحد بي.. أنا سأتخذ الطريق الذي أراه الصوابا" وحسمها والدي حينما بالقول: "حسناً ماذا تريد أن تكون؟ أجبته:"عالماً في الدين، أريد أن أكون أحد فقهاء الإسلام". قال:"حسناً .. افعل ماتشاء".

*وبعدها؟
بعدها لبثت سنوات خمساً كنت أقضيها في طلب العلم في المساجد، وكانت لي مجموعة لا تتجاوز الـ300 شخصاً، معروفون بـ" اخوان بريدة". كانوا حنابلة و وهابيين، لم يكونوا من الاخوان المسلمين، لكنهم أطلقوا على أنفسهم إسم الاخوان لأنهم أخوان متحابون في الله. إنهم يريدون تطبيق تلك الآية القرآنية التي تقول: (فأصبحتم بنعمته أخوانا)، وأن الدين هو الذي يؤلفهم، و لهم مدرسة لا تتبع لوزارة التعليم.

التحقت فيها، وكانت 8 صفوف، و كانت تدرس شتى العلوم الشرعية، و هم يضعون مناهجها، ويدرسونها الطلاب، و يتخرج الطالب بعد الثامنة، ويكون مؤهلاً ليكون له تلاميذ ويدرس في المدرسة ذاتها، أو ماسواها. ولكنهم لا يمنحون الشهادات بإعتبار أن العلم لايُطلب إلا لوجه الله على حسب فهمهم، لا من أجل الوظائف.

*انتقلت بعدها إلى الرياض..
الرياض.. الرياض كانت زيارات متقطعة مابين 89 حتى عام 99، لكنني لم أستقر في الرياض، إلا في عام99.

*ووالداك.. كيف كان إيمانهم؟
كانا تقيين مؤمنين بالله. أبي كان تاجراً من تجار المواشي في بريدة، و كان يصلي الصلوات الخمس، ويؤمن بالله، و يستمع إلى إذاعة القرآن الكريم وإلى إذاعة الرياض. وكانت اذاعة الرياض (الراديو) الوسيلة الوحيدة التي يعرف بها مايحصل في العام. كانت نافذته على الأحداث، كانا شخصين بسيطين.

أمي مازالت على قيد الحياة، و هي امرأة تقية تعبد الله في الليل والنهار، تُصاب بالحزن حينما تسمع الموسيقى. يصيبها الألم حينما تنظر إلى التغير الذي طرأ على الناس في علاقاتهم الإجتماعية. تحن إلى ايامها السالفة، وحينما تتطلع إلى سنوات ماضية عاشتها بين أقارب لها يتناقصون يوماً بعد يوم تشعر بالحزن الدفين عليهم. ولكنها كل يوم تعوّض عن إنكسارها بإيمانها وحبها لرب العالمين.

يمثل أبي وأمي شريحة من مئات الألوف عاشوا على هذه الأرض، وقنعوا بأن الله رزقهم نعمة عظيمة حين انتشلهم من المجاعة التي يتحدث عنها أباؤهم وأجدادهم، والفقر والخوف الذي كانت تعيشه المنطقة في حينها، وأن النظام الذي يحكمهم هو أفضل الأنظمة على وجه الأرض، وان مايحصل من قصور فيه فهو خير مما عداه، ولذلك هم يرفعون أكفهم بالدعاء ليحفظ لهم ولي أمر المسلمين، وأن يديم عليهم النعمة.

*أكان لديهم ميول سياسيّة؟
إنك لو سألتهم ما السياسة فلن يعرفوا ما هي. إن عقيدتهم السياسية لا تعبر سوى مفاهيم بسيطة. العقيدة السياسية التي يتمتعون بها هي طاعة ولي أمر المسلمين والدعاء له، إنهم يدعون أن لايُبدل الله ملوكهم وولاة امورهم.

*وطفولتك ماذا عنها؟
كانت سعيدة، لأنني كنت الإبن البكر للزوجة الثانية، لذلك كنت أحظى بمعاملة خاصة. وحينما قلت لأبي ذات يوم أنني أريد أن أصبح من علماء المسلمين قال لي: "حسناً.. ولكن ماذا ستفعل بعدها؟". ولكنه أخذ مايقارب السنة ونصف، وهي التي تبقت من رصيده في الحياة، كان يغدق علي الأموال لشراء الكتب. (يُطلق تنهيدة حبيسة).

*ماذا تفعل هذه الأيام؟
أنا في حالة ترقّب، أشعر فيها أنني مقبل على مرحلة حاسمة في حياتي. كما أنني أقرأ أحياناً، وأتابع الأفلام أكثر، وأقابل الأصدقاء.. وآكلُ كثيراً.

*ترقّب لأي شي ؟
الأوضاع ليست مطمئنة بالنسبة إلي. إنني دائماً أؤمن بأن الإنسان يُغيّرُ قدره. نعم، نحن نعيش في مجتمعات لم نخترها، ولم نختر أن نكون في هذه البيئة، ولم نختر آبائنا، ولم يؤخذ رأينا في الأرض التي نشأنا عليها. لكنني أؤمن بأن الإنسان قادر على أن يغير كل ذلك، حينما يضع هدفا نصب عينيه، ويعزم على أن يسعى إليه، وأنا أؤمن بما ذكره صاحب رواية الخيميائي: أن الإنسان حينما يعزم على شئ ويضعه هدفا له فإن كل نواميس الكون، وكل مايحيط به من هذا الكون سيساعده على بلوغ غايته. والمشكلة أنني أنظر إلى الجيل الذي بعدي، فأنا أنتظر طفلي الأول، ولا أريده أن يعيش في بيئة قد تكون سبباً في أن تعيقه فكرياً، أو ان تمنعه عن الإبداع، أو ان يعيش بائساً لايعرف إلا ثقافة القبور والموت. أريده ان يعيش مبتهجاً، وينشأ على حب الموسيقى وحب الآخرين، ولا يفرق بين مسلم ويهودي ومسيحي، وأن يشعر بأن الإيمان الحقيقي أن يحمل الحب للإنسانية، وأن الإنسان أهم من كل الإيدولوجيات، والمعتقدات. الإنسان قبل كل شيء ..

(يتبع)