نُشرت هذه المقالة في "الجزيرة" السعودية، ضمن صفحة "موانئ" الأسبوعية، يوم 27 فبراير 1979، ويروي فيها عثمان العمير، ناشر "إيلاف" ورئيس تحريرها، قصة اتهامه بالإرهاب من قبل "دايلي ستار" البريطانية، والذي تزامن مع مشاركته في عداد الوفد الصحافي المرافق للملكة إليزابيث في جولتها الخليجية في عام 1979


لندن: فجأة!! وبلا مقدّمات أصبحت عضواً أصيلاً في منظمة التحرير الفلسطينية بل لجانبها الإرهابيّ كما ينعته الغربيون.

عدت إلى ذاكرتي، إلى الوجوه التي لقيتها... لأرى كم عدد الساعات التي قابلت فيها أبو نضال.. وجورج حبش.. ووديع حداد.. وما إذا كنت قد قابلت عضواً في منظمة بادر ماينهوف على ناصية شارع خلفي في فرانكفورت..

فعجزت!!

حاولت أن أتذكّر ما إذا كنت قد حملت متفجّرة.. أو شاركت في عملية من العمليات الفدائية التي عاشت عصرها الذهبي قبل سنوات.

فعجزت.

أصبحت مهماً جدّاً للدرجة التي تخيف البريطانيين الذين لا يحتاجون إلى مزيد من جرعات الخوف.

فالإيرلنديون على الأبواب.. والإرهاب يحيط بهم من كل جانب.

ولم يكتشف أحد أنني وأنا السعوديّ الذي عرفت لندن شارعاً شارعاً.. وبناية بناية.. وكل دقيقة من ليلها ونهارها.. أنني فعلت ذلك بحكم ارتباطاتي الإرهابية إلا حينما تكرّمت جريدة الديلي ستار اليومية البريطانية باتّهامي بالإرهاب وأن لي علاقة وثيقة بمنظمات الإرهاب بالعالم..

وتكرّمت أيضًا فنشرت على صفحتها الأولى بعناوين كبيرة بارزة وصورة بحجم كبير على عمودين معلومات مختلفة عن الموضوع إيّاه ويبدأ الموضوع يكبر..

وأنا فقط مع مجموعة من الأصدقاء..

والذين يعرفونني جيداً ومنهم البوليس البريطاني يضحكون.. حدث ذلك بشكل دراماتيكي.. فيه كثير من السخرية وعدم التصديق.

لقد كنت أتوقّع أن أتّهَم من جوانب أخرى لا علاقة لها بالإثارة والإرهاب..

فنحن كخليجيين تعوّد البعض منا أن تكون فضائحنا تبدأ بعد الساعة الواحدة ليلاً.

أمّا الإرهاب فهذا شيء لا نعلم به حتى ولو صفّقنا له!!

والقصة كالتالي.. إذا كان القارئ يجد فيها متعة التسلية والقصة..

حين تلطّف قصر باكينغهام بضمّي إلى عضوية الوفد الصحفي المرافق لجلالة الملكة إليزابيث الثانية وقد تمّ ذلك قبل أكثر من شهر من بدء زيارتها..

اعتبرت ذلك تكريماً لصحافيٍّ سعودي.. بل وعربيّ.. وتمّت الإجراءات العادية، صور العضو.. حياته الشخصية رقم جوازه.. وكذلك إجراءات روتينية مطلوبة تتمّ في مثل تلك المناسبة.

وحين أعلن عن زيارة الملكة إلى المملكة والخليج بدأت الصحف وأجهزة الإعلام.. حالة استعداد كبرى لتغطية هذا الحدث الذي يعتبر تاريخياً..

وحين تنكشف الرواية الإعلامية تجاه موضوع ما.. فإنّ كل شيء يتعرض للذكر..

ولندن مركز صحفي عالمي.. تقع داخله عشرات الطبقات والهمسات والصرخات.. فكما أنّ صانعي الأخبار كثيرون فإن الصحفيين هم أيضًا هدف ثمين من جانب زملائهم.. وهذا يتمّ في مطابخ أو بارات ناشئة تتوزع داخل المدينة الصحفية التي تعتبر الجزيرة أحد أعضائها حيث تحتل شقة متواضعة في الدور السادس من مركز الصحافة العالمي بطوابقه السبعة عشر..

وكما أنه لدينا في العالم العربي صحفيون من كل مكان يتلقّون كل شيء ويصنعون منها أخباراً ملفّقة وغير ملفّقة ويطبخونها بعناية فائقة.. فإن أوروبا تتفوّق بصحافتها الصفراء على كل محاولة تتمّ من جانبنا..

والعملية مغرية جداً!!

فهذا صحفي عربيّ ينضم لأوّل مرة للمركب الملكي. وهو من بلد مثير للأعصاب والجيوب والخيال من جانب الأوروبيين ويعامل كبريطاني بالصفة نفسها كأحد أعضاء الوفد وهنا صحف همّها الإثارة والتشويق. بالجنس تارة.. بالعرب تارة أخرى.. بالفضائح في كل مناسبة.

"والديلي ستار" جريدة جديدة خرجت من بين عدة صحف تمارس هذه المهنة الصفراء..

وتريد أن تأخذ مكانها بجانب "الديلي إكسبرس" و"الديلي ميرر" و"الصن"

وهذا قطعاً حقّ طبيعي لها لكي تستمر في الواجهة خاصة إذا كان الموضوع .. عربياً..

والعرب أكثر الأجناس شداً للناس ولفتاً للإنتباه فهم أغنياء العصر!!

وهم فحوله أيضاً!!

وهم مصدر الخيال فيه.

ومن هنا بدأت القصة فالموضوع قد لا يتكرّر على الإطلاق ولكي تتكرر الفصول.. فلا بدّ من إطلاق البالون قبل تفجيره. إذا تلطف أحد أعضاء نادي الفضائح بإبلاغ الجهات المتخصصة بتلك التهمة..

فهذا الصحفي السعودي.. سوف يخرّب رحلة الملكة.. لأنه إرهابي متمرّس وله علاقات وثيقة بفصائل الإرهاب في العالم، وقامت الجهات إيّاها بإجراء روتيني .. انتهى بمعرفة أن القصة "مجرد مزحة".

وفي المساء سهرت حتى الفجر.

وفي الصباح الباكر كانت السيارة تنهب الأرض من لندن إلى "قات ويك" ومنها على متن الطائرة الخاصة.. وكان كلّ شيء يتمّ كما كان مقرراً.

ولعلّه لذلك أحيط المحامي الخاص بي.. لكي يكون على علمٍ بكلّ ما يجري.. وأنت هناك لا تتحرك خطوة بدون محام.

في اليوم الثاني للزيارة.. كنت أتبادل النكات مع أكثر أعضاء الرحلة قرباً إلى قلبي، الصديق لوي نيفن مندوب وكالة الأنباء الفرنسية وهو شاب متزوّج يتعدّى الثلاثين، يمتاز بالحركة.. والحساسية إلى حدّ ما من الإنجليز..

كنّا نتبادل بسخرية النكات حول اهتمام الصحفيين الإنجليز بالملابس التي سترتديها الملكة هذا المساء أو التي ارتدتها البارحة وعن الفقرة التي يلقيها مندوب المراسم عن ملابسها..

وتفرّقنا ثم دخلت الغرفة..

رفعت سماعة التلفون من الغرفة 316 – في هيلتون الكويت..

وكانت على الخط – كاثي كوزنز – عضو الرحلة ومندوبة الديلي ستار..

ودار الحوار كالتالي:

- هل لديك الوقت للصعود إليك ولقائك في الغرفة؟

- مرحبًا بك.. الآن؟!

تحمّست للفكرة.. فهي امرأة قادمة إلى الخليج وفي داخلها أن العرب سوف يرون أجمل إمرأة إنجليزية..

كما أنّها تعتقد أنها أجمل عضوات الرحلة وعددهن خمس وهي أنيقة.. تغير ملابسها مرتين في اليوم.. مع تغيير ألوان الملابس.. وتحرص على أن تكون مشيتها على طريقة الإوزة ورقصها..

طرقت الباب..

اتّخذت مكانها في المقعد.. وقالت لي..

- هل تعلم أن لك قضية في لندن؟

- أي قضية؟

- فقالت نعم.. وأنت تعرفها

- قلت تلك مزحة خفيفة

اعتدلت في جلستها بينما حرص ساقها الأيمن على أن يتكوم على ساقها الأيسر فبدت امرأة تبتعد عن الثلاثين بقفزات سريعة.

ثم روت لي بعضاً من حياتي في لندن كما كانت تعرفها من قبل.. ولم أنكر الصحيح فيها... لا أخفيكم أنني أعجبت بهذا الإصرار على تتبع حياتي.. بل ربما إنها إحدى المرّات القليلة التي اكتشفت فيها أنني مشهور رغم خطأ المعلومات التي تحملها عنّي..

وسألتني في النهاية: كيف تمكّنت من الانضمام إلى الموكب الملكيّ؟!

قلت: ذلك حقّ طبيعي لي.. فأنا عضو بحكم ما أحمله من مميزات ولا يستطيع أحد أن يمنعني من ممارسة ذلك الحق.

المهم دار الحوار طويلاً.

كانت تحاول أن تلعب دورها كصحفية على زميل مثلها. وأخيراً قلت لها: على أي حال أفضّل الحديث حول هذا الموضوع مع المحامي الخاص فهو المسؤول عنّي..

وأعطيتها اسم المحامي وعنوانه، السيد هارد..

وهو شابّ يقارب الثلاثين قبل أن يحادثك يعطيك فكرة شبه كاملة عن أنّه أرق من مهنة المحاماة بشكل كبير لكنّه أذكى وأقدر المحامين الإنجليز..

وودعتني- الإوزة- إلى التلفون حيث عبأت المعلومات وتبعتها بضحكة ساخرة!!

وذهبت أسهر مع بعض الأصدقاء..

الساعة الحادية عشرة..

طرق الباب السيد نورمن لوك مراسل الديلي إكسبرس. صحفي مشاغب.. مشاكس.. يمثل جريدته بكل الأوصاف وهو حيوي وعنيف.

- وقال دعنا نتكلم.

هل صحيح أن لك علاقة بالإرهابيين..؟

هل تسمح - أن أفتش غرفتك، وضحك بطريقة صاخبة!!

ابتسمت.. ودعوته للدخول..

- قال لقد اتصلت بي الجريدة وطلبوا مني إعطاءهم تفاصيل كاملة عن الموضوع..

وكان السيد لوك يعرف الكثير عن نشاطي في لندن وفهم أن القصة كلّها اختلاق.

لكنّه حسب واجباته الصحفية قرّر إرسال ما صرّحت به له..

وأرسل القصة عبر التلكس..

وكان جواب التلكس:

- Rubbish – قمامة -

وأكمل معي السهرة..

ثم ذهبت للنوم.. وفي الساعة الرابعة والنصف صباحاً.. طرق الباب السيد أ. فيل المندوب الديلي ميرر، دخل بثياب النوم.. رجل ضخم الجثة.. يملك كرشاً تناسب عمره الخمسين وصرخ:

- بسرعة قل لي ماذا جرى؟

- أجبت ببرود غريب لقد انتهى العالم يا سيدي!!؟

- قال: إنهم على التلفون.. لقد ظهرت الديلي ستار وطبعتها الأولى تحمل صورتك وعلاقتك بالإرهاب.

شرحت له القصة.. ثم تنفّس الصعداء وضحك ثم اعتذر..

وفي الساعة الخامسة والنصف.. كان التلفون يدقّ.. وعلى الخط مسز اليزابيث ليزي من الديلي ميل..

وقالت:

- هل أستطيع الحديث إليك؟!

- قلت أعرف عماذا.. لكنني أرجو ألا تتعبي حالك في هذا الموضوع..

لقد أشفقت على هذه المرأة التي تركت طفلها الوليد منذ أسابيع بين أحضان زوجها.. وانتقلت بجسمها الذي يميل إلى البدانة لملاحقة كيف تستقبل الملكة..

ثم ضحكت.. وقفلت السماعة.

نمت هادئاً قرير العين.. فكلّ شيء بالنسبة إليّ تمّ على ما يرام..

حادثت المحامي.. ومستشارتي عمّا إذا كان علي رفع دعوى ضد الجريدة.. بتهمة الكذب والقذف فوافقت.

صباح اليوم التالي، استيقظت الساعة العاشرة صباحاً وكان الخلق من جرّاء ذلك الموضوع يختصمون على حد تعبير المتنبي.

نزلت إلى مبنى الصحافة.

وفي المدخل كان هناك السيد كاث كريفز مراسل تلفزيون البي بي سي.. في الشرق الأوسط، وأحد المراسلين المشهورين جداً يمتاز بخفة الدم مع قليل من الحدة والمشاكسة ولحية كثيفة تغطي وجهه.

ومع عدد من أعضاء الوفد الصحفي..

قال لي:

- نحن جداً آسفون على ما حصل. إنما نعتبر ذلك إهانة لنا. كلّ ما نقوله إن هذا العمل لا يناسب أخلاقياتنا الصحفية.. وعليك استخدام حقّك القانوني.. واكتشفت أنني منذ الصباح الباكر قد تحولت إلى قضية كبرى هرع من أجلها الصحفيون إلى المتحدث الرسمي باسم القصر ليسألوا ما القصة..

فعرفوا أنّها مجرد مزحة ثقيلة فأصيبوا بالصدمة. فبعضهم توقّع أنني سوف أنسحب من الوفد احتجاجاً.. بينما كان الآخرون يتصوّرون - يا لجهل الإنجليز- أنّ وزارة الإعلام في المملكة ستتخذ إجراءات صارمة ضدهم لأن أحد مواطنيها تعرّض للإساءة..

بينهم تجمعت النساء في زاوية واحدة. ثم أتت أشجعهنّ جي. فوربي من اتحاد الصحافة لتقول:

- هل صحيح أن هذا الخبر سيؤدي إلى منعنا من دخول السعودية؟ نحن وزميلاتي نعرف حساسيتكم ضد النساء الصحفيات وتجاربكم المرة معهن فهل عمل كوزنز سيؤدي إلى أن يشملنا العقاب..؟

لا أخفي أنني سخرت وقلت لها..

لا تتصورون أننا أغبياء إلى هذه الدرجة.. تلك مجرد زوبعة لا أحد يعطي لها بالاً. ولدينا تجارب أكبر من هذه القصة التي لا علاقة لأحد بها. فهي قضية شخصية بين الجريدة وبيني لكن كاتي كوزنر أكثرهم اضطراباً ومع هذا قابلتها الليلة.. وركزت على أسلوب الإوزة في مشيتها..

وبعد الظهر ذهبت إلى التلكس.. وبثت رسالة ناولتني نسخة منها.

قالت فيها:

عزيزي رئيس التحرير

لقد أحدثت قصتكم استغراباً في الوفد.. الاتهام بالإرهاب مسألة صعبة وليست سهلة والسيد العمير سوف يقيم دعوى ضدكم.. المتحدث الرسمي باسم باكنغهام بالاس قال إن السيد العمير لا يمكنه الإنضمام إلى الوفد بحال من الأحوال لو كانت له علاقة قريبة أو بعيدة بالإرهاب فنحن معرضون للمنع من السعودية.

أرجو دراسة القصة من جانبكم وتزويدي بما يمكن اتخاذه.. إنني في وضع حرج جداً بين أعضاء الوفد قد لا أستطيع دخول السعودية.

وقطعاً كانت القصة كما قالت المراسلة.. ذات دوي شديد داخل الوفد ومن ثم أصبحت مجال تندّر له.. كما كانت حديث الناس في بريطانيا.

فالكلّ يريد أن يعرف كيف سمح لواحد إرهابي بالسفر مع الملكة ومصافحتها والحديث معها.. ومع الأمير فيليب!!

أما في أوساط الوفد فكانت نكتة.. فأكثر من مرة سألني الزملاء إذا كنت أحمل مسدساً أو قنبلة حتى راودت أطول الأعضاء وأكثرهم ضخامة ملت فلرتون مندوب أي بي سي الأمريكية على شراء مسدس أطفال من سوق الكويت وإهدائه لي..

والصحفيون في كل مكان نوع غريب من الناس لا يملّون من الصراع والضجيج.. وإطلاق النكات. والحديث الفارغ أيضاً..

وانتهت القصة داخل الوفد على تلك الصورة. أما بالنسبة إليّ وللمحامي فشيء آخر.

فالدعوى إذا نجحت سوف تكون الأولى من نوعها التي تتم بين صحفي عربي وصحيفة بريطانية ونجاحها شبه مضمون بحكم القانون الإنجليزي لأنها كلها غير صحيحة..

فكلّ مستندات الديلي ستار حول كوني إرهابياً أن الجزيرة أقامت حفلاً سنوياً دعت إليه ممثل منظمة التحرير الفلسطينية الدكتور نبيل الرملاوي.. كما دعت إلى ذلك سعادة السفير السعودي في لندن الشيخ فيصل الحجيلان الذي كان راعي الحفل.. والسفراء العرب وعدداً من سفراء الدول الصديقة. ولأن اللقاء بممثل منظمة التحرير الفلسطينية يعتبر نوعاً من الإرهاب في قانون الإنجليز فإن تلك المصافحة وذلك اللقاء يكشفان تلك العلاقة..

وفي الرياض، قال لي الشيخ فيصل الحجيلان مازحاً:

ذلك جزاء سنمار!!

ومن جهتي الشخصية فلم أعتب من شيء خاصة أن مردود الدعوى من الناحية المادية معقول جداً.. سواء بالنسبة إليّ شخصياً أو بالنسبة إلى كتابة مثل هذا الموضوع في صحيفة إنجليزية وبيعه بمبلغ مناسب..

بل إنني سررت لأن ذلك كشف لبعض الإنجليز وسوف يكشف مضار التجني الذي تمارسه الصحافة الوطنية الإنجليزية.. على العرب لتستثمر غباء الملايين من القراء الذين يهرعون للتمتع بقصصها الخيالية!!

القصة الآن داخل المحاكم الإنجليزية..

والقضاء الإنجليزي سيناقش كل كلمة قيلت في ذلك الموضوع.. ولدي كلام آخر لم أكشف النقاب عنه حتى يبيّن كامل الحكم قد يحتاج إلى موضوع آخر.

أما من جهتي فإنني أحذركم من مصافحة أيّ فلسطيني واحد..

لأن ذلك يعني الإرهاب..

المقالة كما ظهرت في "الجزيرة" السعودية بتاريخ 27 شباط (فبراير) 1979