&
&
&
&

كتبت وفاء أبو شقرا : لا شيء واضحا يعرّف بمآل الحرب الدائرة حاليا. لا الاسم المنتقى، بعد طول تردد ومفاضلة، يعكس ملامح المعارك، ولا الهدف المعلن لبدء التسديد الأميركي يفصح عن ماهية وشكل وحجم الصراع، ولا التعبئة القائمة شرقا وغربا تظهر بوضوح الصورة التذكارية للحلفاء الذاهبين الى الحرب ال240 خارج تراب الولايات المتحدة (بحسب الاحصاء الأميركي). جورج بوش الأب أسس لتحالف دولي عريض في <<عاصفة الصحراء>> لردع صدام حسين، انطلاقا من أرض الخليج. وبيل كلينتون عبأ العالم في <<القوة الحليفة>> لعزل سلوبودان ميلوسيفيتش انطلاقا من سماء بلغراد و<<لإعادة الأمل>> بعد ذلك الى البلقان (!؟). وجورج بوش الابن يحشد بالترغيب والترهيب عشرات الدول في ائتلاف <<الحرية الراسخة>> لمطاردة عدو بألف وجه، عبر 60 الى 70 دولة (بحسب التقصي الأميركي)، انطلاقا من مدن أفغانستان وجبالها حيث يقيم العقل المدبر لهذه الوجوه، أسامة بن لادن.
وستدخل الولايات المتحدة في هذه <<الحرية الراسخة>> الى احدى أخطر المناطق في العالم. ففي لب خارطة آسيا الوسط تقع هذه الدولة الحاجزة (أقيمت بين الامبراطوريتين الروسية والبريطانية لمنع تصادمهما)، وقد تصبح كما كانت دوما كابوس الجنرالات وحلم قادة حرب العصابات. <<فمستنقعات فيتنام بمثابة النزهة أمام 500 ألف كيلومتر مربع تقريبا من الجبال الممتدة بارتفاع أكثر من 1800 م على ثلاثة أرباع مساحة أفغانستان>>، تشرح مريم أبو ذهب الخبيرة في الشؤون الآسيوية وأستاذة علم الاجتماع السياسي وتاريخ أفغانستان وباكستان في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية في فرنسا. الدخول الى أفغانستان سهل ربما.. الخروج منها صعب. والأميركيون، تقول، لا يعرفون هذا البلد ولم يفقهوا يوما شيئا في هذه المنطقة البعيدة وتشابكاتها الجيوسياسية، ولم يهتموا أبدا (على الرغم من السعي الأفغاني) للنظر لأفغانستان الا عندما اتجه الأفغان بأنظارهم نحو الاتحاد السوفياتي، وبعدما بات تقاتل هؤلاء وتمزيقهم لبعضهم المهدد الأساسي لاستقرار آسيا الوسطى وجمهورياتها المستقلة الغنية بالموارد الطبيعية (الغاز والنفط)، وثلاث من هذه الجمهوريات لها حدود مشتركة مع أفغانستان. الى ماذا يرمي الأميركيون اليوم من إدارة حربهم في بلاد الأفغان المدمرة والمفلسة والجائعة؟
<<كل شيء سيعتمد على حدود العمل السياسي والعسكري للولايات المتحدة في أفغانستان والدور الذي ستخصصه للأطراف التي تساندها بطريقة أو بأخرى. أما اذا خاطر الأميركيون بإنزال قواتهم ودفعوا بجنودهم لمواجهة تقليدية مباشرة مع الأفغانيين فستكون العواقب مدمرة لهم ومعاكسة تماما للأهداف الطامحين اليها>>، تتوقع أبو ذهب التي عاشت لفترات طويلة في أفغانستان (أثناء الحرب ضد الجيش الأحمر وخلال صراع الفصائل الأفغانية) راوية انطباعاتها عن شعب قاس شديد التعلق باستقلاليته، يتوحد بصلابة ضد أي عدو خارجي ويتقاتل بضراوة ضد بعضه البعض.
<<لم يكن الأفغان يكنون العداء للأميركيين (على عكس العرب الذين قاتلوا معهم) بل إن شعورهم يترجمونه بقناعة ثابتة لديهم من استخدام السياسة الأميركية لهم ومن ثم تركهم الى مصيرهم>>.
أسبوعان كانا كافيين لنجاح الولايات المتحدة في جعل أفغانستان قلعة محاصرة وعزل طالبان نهائيا استعدادا لإقصائها وإن لم يعلن ذلك كهدف رسمي في لائحة الأهداف الحربية. خطابات الرئيس الأميركي تكتفي بدعوة الأفغان للتخلص من أسيادهم الطالبان، <<والسيناريو يعيد بغرابة للأذهان شبيهاً له تردد أيام حرب الخليج (الدعوات لإطاحة الرئيس العراقي). المفارقة الكبيرة في أن ما سعت اليه الولايات المتحدة حثيثا بالأمس عبر إسناد الطالبان وتقويتهم (بالمال السعودي غالبا) كخيار أمثل لحكم أفغانستان وإعادة الاستقرار الى بلد مزقته الفوضى وزعزعت المنطقة معه، تسعى اليوم الى نقيضه عبر جعل طرد الملالي من السلطة سبيلا لصيانة الأمن العالمي>>.
ماذا ومن بعد الطالبان؟
في إطار إعدادها لما بعد حربها القادمة، تناور واشنطن الأفغانيين بالتلويح لهم (كما في فترات سابقة) بخيار العودة الى الملكية عبر <<تنشيط>> ملكهم السابق العجوز ظاهر شاه بالتركيز على رحلات الذهاب والإياب للوفود المفاوضة الى منفاه الفيللا في روما. بالموازاة، يعزز معارضو طالبان في تحالف الشمال ضغطهم على المسؤولين الأميركيين (بالتذكير بقدرتهم على استنزاف نظام الملالي) لفرض أنفسهم كشركاء لا يمكن الالتفاف عليهم. إلا أن إعادة تنصيب هؤلاء في السلطة سيعني تكرارا للتجربة التي أذكت نار الحرب الأهلية وفتحت الباب لحكم الطالبان. <<الصدمة النفسية عند الباشتون الأفغان كانت في العام 1992 برؤية غير الباشتون في السلطة بدل نجيب الله (بعد أكثر من 200 عام من الحكم الباشتوني). فبات تهميش هذه الإثنية الأكثر عددا بين الإثنيات الأخرى في أفغانستان (40%) أمرا غير محتمل بالنسبة اليهم. وهذا ما سيحصل اليوم اذا ما جيء بالطاجيك والأوزبك والهزارة الى مقعد الطالبان>>، أبو ذهب تشير أيضا الى عامل مركزي في مبايعة خلف الطالبان: طريق البحث عن الوريث الآتي الى كابول تمر.. في إسلام أباد.
باكستان <<المريضة بطالبان>> (على حد تعبير احدى الصحف الفرنسية) بدأت تنعى أيام الملالي المعدودة بعد تغليب مصلحتها الوطنية الانضمام الى <<موكب التشييع>>، لكنها تترقب بحذر آثار الوفاة وتوزيع التركة. هناك دوافع وجيهة وموجبات للتخلي الباكستاني (الرسمي) عن الطالبان ولاهتمام الباكستانيين أكثر من غيرهم بخلفهم وبما سيجري عموما في أفغانستان. لماذا؟
تتعدى الروابط بين باكستان وأفغانستان مسألة التأييد العادي أو التحالف التقليدي، لذا يرصد الموقف الذي ستتخذه (أو أخذته أصلا) إسلام أباد، تحديدا، حيال ما يدور وراء حدودها الشمالية. تاريخ البلدين وجغرافيتهما متداخلان ومعقدان جدا.
أفغانستان، وحدها من بين كل دول العالم، لم تصوت لصالح عضوية باكستان في الامم المتحدة كدولة مستقلة عام 1947 ولم تقبل بالتالي أي معاهدة لترسيم الحدود معها، ويطالب الافغان حتى اليوم بقسم من باكستان وهو المساحة الممتدة من بالوتشستان الى هندوكوش (والتي شكلت تاريخيا كما كشمير قسما من أفغانستان) ويضم خصوصا الاقاليم الحدودية الشمالية الغربية مع المناطق القبلية في هذه المناطق القبلية (التي أقامها البريطانيون كحزام عازل) تزدهر كل صنوف التهريب ومختبرات المخدرات وتجارة الاسلحة، وفيها يمارس الملالي نفوذا مطلقا غير خاضع بتاتا للسلطة الباكستانية ورقابتها، وتحت عباءاتهم تنشط حركة ما يسمى <<بالطالبان الباكستانيين>> الذين تخرجوا و<<الطالبان الافغانيين>> من ذات المدارس الدينية (في كويتا وبيشاور). <<هؤلاء الذين زاد تأثيرهم أثناء قتال الروس، توضح مريم ابو ذهب، هم من يدعم بشكل خاص نظام كابول (الباشتون مثلهم) ويشكلون اليوم الصاعق الأول الأساسي للتفجير بالإضافة الى الصاعق الثاني المتمثل بالغالبية الباشتونية في الجيش والتي حددت دائما كل السياسة الافغانية لباكستان عبر جهاز الاستخبارات العسكري السري الشهير (ISI) الذي قاد فعليا حرب أفغانستان وكان الوسيط بين الاستخبارات المركزية الاميركية وفرق المجاهدين الافغان، وهذه الغالبية الباشتونية القبلية الموجودة دائما في صفوف العسكر والتي توالي الطالبان وتمدهم بالدعم اللوجستي والعسكري، قد تصبح تهديدا واقعيا لاستمرارية برويز مشرف الذي لا يملك قاعدة اتنية كبيرة داخل الجيش (هو مهاجر مولود في دلهي)، في حال ذهب الرئيس الباكستاني بعيدا في قبوله الاملاءات الاميركية وتحويل باكستان من قاعدة خلفية للمجاهدين الى قاعدة خلفية للمارينز الاميركي>>.
باكستان حصلت على مبتغاها من طالبان التي أنهت الحرب الاهلية في أفغانستان وأقصت نفوذ الموالين لإيران والهند، ورعت إنشاء وتدريب مجموعات مسلحة لمحاربة النظام الهندي في كشمير (القضية المقدسة الوحيدة التي تحظى بإجماع كل الشعب الباكستاني). لكنها دفعت الثمن باقترابها من المجموعات الاسلامية المعادية للغرب (ومن ضمنهم بن لادن) كما فعلت ذلك قبل عشرة أعوام حين قاتل الافغان الاجتياح الروسي في الثمانينات. لا يمكن لباكستان ان تتجاهل اليوم تهديد الطالبان بمهاجمة أي قوة تشارك في ضرب أفغانستان <<الرئيس مشرف يدرك (أكثر من غيره) قدرة نظام كابول على زعزعة نظامه عبر العوامل المتوفرة لخلق عدم الاستقرار في شارع باكستاني ميال الى ورثة المجاهدين ومعاد للاميركيين ومصان من مليوني أفغاني يسيطرون على قطاعات كبيرة بالكامل في البلاد (المواصلات، البازار..) سيزكيه بالمشاكل لا ريب نزوح جديد منتظر اذا ما بدأت الصواريخ بدك الاراضي الافغانية>>. تشرح ابو ذهب التي عاشت في باكستان تجربة الانقلاب العسكري الذي أطاح بنواز شريف.
باكستان تعمل للحصول على أفضل الشروط في أسوأ مساومة (بحسب ما كتبت احدى صحف اسلام اباد)، ولكن هل لا يزال الوقت متاحا للمساومات؟ <<باكستان هي الخاسر الاكيد (الاكبر) كيفما جاء السيناريو لإخراج الحرب القادمة على أفغانستان>>، تتوقع الباحثة الفرنسية، فمأزق البلد أنها حليف الخصمين في آن، وتخشى عواقب عقاب كل منهما عليها. الجنرال مشرف اختار ان ينقل قدميه الى خندق واحد، والتخلي عن الطالبان حتمي، برأيها، ما تريده الآن باكستان من <<الثمار>> الاميركية لهذا الخيار الصعب يتلخص في: ضمان وجود حكومة صديقة لها في كابول لا ترتبط بتحالف مع الهند وتحفظ العمق الاستراتيجي لها في آسيا الوسطى، ضمان الولايات المتحدة للامن القومي، التدخل لصالح اسلام اباد في النزاع على كشمير خصوصا مع سعي الهند لتعزيز موقعها في التحالف الدولي مستفيدة من المأزق الباكستاني، نيل تسهيلات برنامج تقليص الفقر وتشجيع النمو الذي تقوم عليه كل الاستراتيجية الاقتصادية لباكستان. هل يغير رفض اسلام اباد التعاون مع الاميركيين شيئا في الخطط الحربية لواشنطن؟
<<يمكن ضرب أفغانستان من دون موافقة باكستان، وذلك من بوابة جمهوريات طاجكستان وتركمانستان واوزباكستان، لكن من الناحية الجغرافية سيكون هذا أصعب بكثير على تحرك القوات الاميركية. فإن قرب باكستان الشديد من الخليج هو ما يهم الاميركيين تحديدا بالاضافة الى التفوق الباكستاني في المجال الاستخباراتي في هذه الحرب.
اذا عند الباكستانيين وحدهم الخبر اليقين عن توزع وتمركز قواعد <<المطلوبين>> أميركيا في أفغانستان>>.
الرئيس جورج بوش يعد شعبه بحرب طويلة النفس يؤيدها (حتى الآن) 9 من كل 10 أميركيين، ويصف اسامة بن لادن بأنه <<أبشع البشعين>> لكنه ليس الزعيم الارهابي الوحيد. أعود في نهاية حديثي مع الباحثة الفرنسية مريم ابو ذهب لأسألها عن إقامتها في جبال أفغانستان في الثمانينات، وعما اذا كانت التقت من بين من التقتهم من <<المجاهدين>> بأسامة بن لادن؟ <<نعم.. صادفته>>. والله!؟ أستفهم متعجبة.. تضحك لتردف <<لم يكن يومها ثمينا لهذه الدرجة>>. هل تتوقعين تسليمه للاميركيين؟ <<إطلاقا...! سيقتل هذا وارد، خصوصا اذا ما سخا الاميركيون ومخبروهم في الدفع للوصول اليه.(السفير اللبنانية)&
&