&
لا يمكن، او الاصح، لم يعد ممكناً مقاربة موضوع واقع العلاقات الاسلامية - المسيحية ومستقبلها في لبنان في بمعزل عن واقع هذه العلاقات ومستقبلها اقليمياً، والى حد ما دولياً أيضاً (...)
ان الصراعات السياسية في العالم، والتي تأخذ صيغة طائفية اسلامية - مسيحية تحديداً، من نيجيريا في افريقيا، الى اندونيسيا في آسيا، مروراً بالبلقان والقوقاز، تترك بصمات سلبية على العلاقات الاسلامية - المسيحية في صورة عامة، ويتباين حجم الضرر الذي تخلفه هذه البصمات من مجتمع الى آخر تبعاً لضعف هذه المجتمعات او مناعتها، ولقدرتها على مواجهتها والتصدي لها، او الانجرار الغريزي وراءها.
يتزامن ذلك مع ظاهرتين خطيرتين تتمثلان بصعود حركة التطرف السياسي باسم الدين. تتمثل الظاهرة الاولى بما بات يُعرف باسم الاصولية الاسلامية (وهي تسمية مشوهة لمعنى العودة الى الاصول)، إلا ان الخطير فيها هو انها كأي حركة تطرف أخرى - دينية او عقائدية او فكرية - تحتكر لنفسها معرفة الحق والطريق اليه، وتلغي كل من لا يوافقها الرأي ويواكبها المسير.
اما الظاهرة الثانية فتتمثل في ما يُعرف باسم الاصولية اليهودية المتمثلة بأحزاب اليمين، وبالاحزاب الدينية الاسرائيلية الاخرى; فهي تلغي كل ما هو غير يهودي في اسرائيل وتدعو الى مزيد من التوسع في الارض العربية، والى مزيد من عمليات تهجير العرب، مسلمين ومسيحيين، والى استقدام المزيد من اليهود من مختلف دول العالم.
هناك شعور مسيحي متنامٍ بأن هاتين الظاهرتين تشكلان مطرقة وسنداناً يخشى المسيحيون الشرقيون ان يجدوا انفسهم في دائرة صدامهما.
يضاف الى هذه العوامل عامل سلبي آخر هو في حد ذاته نتيجة طبيعية لاستمرار الصراع العربي - الاسرائيلي وتالياً لاستمرار حالة الاضطراب الامني والسياسي في المنطقة. ويتمثل هذا العامل في التدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي تعاني منه الدول العربية وخصوصاً لبنان.
أدت هذه العوامل مجتمعة الى الظاهرة الخطيرة المتمثلة في التناقص في عدد المسيحيين الشرقيين. صحيح ان الهجرة من الدول العربية بما فيها لبنان تشمل مسلمين ومسيحيين معاً، الا ان اثارها السلبية اشد حدة بين المسيحيين واكثر وضوحاً.
لا تشكل هذه الظاهرة مصدر قلق للكنيسة العربية والشرقية وحدها، ولكنها تشكل مصدر قلق للمسلمين أيضاً، الذين يعتبرون انهم يشكلون مع المسيحيين امة واحدة واتنية واحدة، والذين يثمنون عالياً الدور التاريخي للمسيحيين في المشاركة بانتاج الحضارة العربية وفي صون اللغة العربية وادابها، والذين، وهذا الاهم، ينعمون بثمرات العيش المشترك وطنياً وانسانياً ويؤثرون هذه الصيغة الحضارية على كل ما عداها من صيغ الفرز والاستبعاد والانكار والالغاء.
تاريخياً ما كان لبنان ليقوم دولة ووطناً، وما كان له ان يستمر، لولا انه يستجيب في وجوده الى حاجة مسيحية لبنانية.
وعندما اصبح لبنان حاجة اسلامية لبنانية أيضاً، كان لا بد من تغيير النظام السياسي بما يتوافق مع هذا التحوّل الجوهري.
لم تمر عملية التغيير بسهولة وهذا أمر طبيعي، فقد اثارت من الاجتهادات والاجتهادات المعاكسة، ما أثار حالة من الخلاف السياسي الداخلي سرعان ما وُظّف اسوأ توظيف في الصراعات الاقليمية والدولية.
ان التداخل بين التباين في وجهات النظر اللبنانية حول التغيير وحدوده، وهذه الصراعات الخارجية، أفشل كل صيغ التفاهم ومشاريعه والتي كانت القوى اللبنانية تتوصل اليها. حتى اذا وضعت الحرب الباردة اوزارها، وسقط جدار برلين عام ،1989 واستنفدت الصراعات الخارجية مصالحها في استغلال لبنان مسرحاً لها، فتحت الطريق امام لقاء الطائف حيث جرى اقرار مبادئ وفاقية سبق لها ان طرحت مراراً في السابق ولكن لم تسمح الظروف غير اللبنانية بتبنيها واقرارها.
كان يفترض ان يشكل اتفاق الطائف اللبناني - اللبناني ببعديه الدولي والعربي صفحة جديدة في تاريخ لبنان الحديث. الا انه رغم كل ما فيه من ايجابيات لم يستخدم كرافعة لبلوغ المستوى المنشود من الوفاق الوطني.
إن انفجار حرب الخليج اثر غزو العراق الكويت أدى الى فرض معادلات اقليمية ودولية جديدة تنصلت بموجبها اسرائيل من الانسحاب من جنوب لبنان تنفيذاً لقرار مجلس الامن الدولي ،425 وتنصلت الولايات المتحدة - والمجموعة الاوروبية - من الضغط على اسرائيل لحملها على الانسحاب. كما تنصلت الدول العربية من التزاماتها بمساعدة لبنان على ترميم بنيته التحتية تحت ضغط الحاجة لتمويل الحرب الجديدة ومواجهة مسؤولياتها.
وفي ضوء هذه المعادلات أيضاً اخرت سوريا اعادة نشر قواتها في لبنان حتى الشهر الماضي مما اثار الكثير من اللغط الذي رسم بدوره علامات استفهام حول صدقية التفاهم الاسلامي - المسيحي في شأن قضايا وطنية تتعلق بالسيادة والاستقلال والقرار الحر.
ساهمت هذه العوامل في تأخير تطبيق اتفاق الطائف تطبيقاً كاملاً. وفُسّر التطبيق الاجتزائي على انه تطبيق انحيازي. الامر الذي عمّق الهوة بدلاً من ان يساهم في ردمها.
امران ايجابيان لم نحسن توظيفهما بما يعزز جسور التلاقي والتفاهم والتآخي في الوطن بين المسلمين والمسيحيين. اما الامر الاول فهو الموقف الموحد من المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي الذي جعل من المجتمع اللبناني كله مجتمع مقاومة متحملاً كله الاعباء المادية والمعنوية للعمليات الانتقامية التي قامت بها اسرائيل.
اما الامر الثاني فهو الانجاز الوطني بانسحاب قوات الاحتلال الاسرائيلية من الجنوب والبقاع الغربي. فقد تعثّرنا في التعامل مع أهل الشريط المحتل كما تعثّرنا في التعامل مع الالتزامات الامنية للدولة بعد الانسحاب، وبعد رسم الخط الازرق.
القت هذه الثغر بثقلها على واقع الحياة المشتركة، وشجعت علي رسم علامة استفهام حول ما اذا كانت الالتزامات بحماية هذه الصيغة تحظى بما تستحقه من احترام وفق ما نصّ عليه اتفاق الطائف نفسه من انه لا شرعية لما يتناقض مع العيش المشترك (...)
ان المسافة لا تزال بعيدة بين واقعنا، دولة ومجتمعاً، والمثل العليا التي تعنيها صيغة العيش المشترك والتي تقوم على اساسها. وفي يقيني ان البابا يوحنا بولس الثاني عندما قال ان لبنان رسالة وليس مجرد دولة، انما كان يتغنى بالصيغة التي ارتضاها اللبنانيون لأنفسهم وليس بالواقع الذي يتذمرون منه.
ولقد آن الأوان لكي نعمل بجد وبإخلاص للخروج من هذا الواقع وللارتفاع بمجتمعنا الى المستوى الذي يجعل من وطننا رسالة يُحتذى بها للعيش الوطني الواحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عضو لجنة الحوار المسيحي - الاسلامي (النهار اللبنانية)