كنت اعتزمت الكف عن الكتابة للصحافة اليومية، وتكريس ما تبقى لي من ساعات محدودات على هذه الارض لمشاريع ادبية احسبها خيرا من نشر مقالات متفرقة قل من يقرؤها، واذا قرأها الجمهور فقل ان يكون لها الاثر الذي اتوخاه.
ولكن تطرأ في مجتمعنا العربي احداث ضخام تتطلب حلولا ذات خطر بالغ في تكوين مستقبل الفرد والمجتمع. وما اشاهده في عالمنا العربي اليوم، بل ما شهدته طوال حياتي، ان ردود افعال الناس، بمن فيهم حكام العرب وذوو الحل والعقد فيه، ردود تمليها العاطفة والاندفاع، وان من النادر ان ترى ان للروية والحكمة دورا فيما نتخذه من قرارات!.. والحلول اذا صدرت عن الهوى ترتب عليها نتائج محظورة ضارة، تستدعي بدورها المعالجة، وهلم جرا.
ومحاكمة صدام كانت ولا تزال حديث الساعة،وقد اسهم في بحثها كثيرون، واريد ان اخرج من عزلتي التي فرضتها على نفسي لاشترك في ما يدور في هذا الامر من نقاش، وما تتداوله الصحف من آراء مصدرها الجهل والعاطفة والتشفي، وشعور الرضا بما آل اليه هذا الطاغية والطغمة التي اجتباها واحاط نفسه به منها. ولا غرابة في هذا، فإن بحر الآلام الذي خلفه حكم صدام لن يزول، وسيبقى كفصل اسود من فصول التاريخ العربي والعراقي بصورة خاصة.
ولكن قبل المبادرة للدخول في صلب الموضوع، اريد ان اورد فكرة اخرى ينبغي ان تتقدم كل نقاش حول محاكمة صدام. وهي هذه: هل يستحق هذا الرجل محاكمة عادلة مثله مثل اي متهم في مجتمع منصف؟ أليس من الاجدر ان يعامل بالقواعد التي اتبعها هو نفسه في معاملة خصومه ومنتقدي نظامه؟
والرد على هذه الفكرة واضح: اذا كان في عزم العراقيين بناء مجتمع جديد يكفر بمبادئ صدام الغاشمة واسلوبه الاهوج المستبد، فلا بد لنا من اتباع مبادئ خلقية يمليها العقل ويوجبها منطق السلوك المتحضر والا انتهى المجتمع الى قبول سلوك اشبه بسلوك المجتمع الذي خلقه صدام.
واذا لم يتح صدام فرصة عادلة لخصومه للدفاع عن انفسهم، وكان عقابه يقع على من كتب لهم سوء الطالع بالوقوع في يديه، فليس معنى هذا ان نقلد سلوكه ونسلك قانونه ونتبع هواه، والا لانتهى الامر بالمجتمع الجديد ان يكون كسابقه مبنيا على الظلم والطغيان، وعلى تحكيم العاطفة والاهواء.
واذا صح هذا، فمحاكمة صدام امر منطقي وعادل. ولهذا الحل فائدة عملية اخرى، فهي درس جديد لكل حاكم يسعى الى اطالة عهده وقد بدأه بالمجيء الى دست الحكم بالقوة، وامنيته الابقاء على السلطة بالتعسف، او التمسك بها بالنصب والاحتيال والتزوير، وان هذا جريمة لا تغتفر، وان من السلامة تجنبها، فلو كان صدام قد وصل الى الحكم حسب قواعد معروفة، لكان خروجه محتشماً ولترك منصبه مكرما ولما كان امر محاكمته موضوعا للنقاش.
ولكن صدام جاء الى الحكم متآمرا، وبقي متمسكا به متآمرا، وخرج منه بذلة وشماتة عظميين.
فمحاكمة صدام امر منطقي، وانا اتفق مع جيلي في هذا كله، وامشي في هذا المنطق حتى هذه النقطة، ثم اختلف مع ما يقال عما يتلو هذه النقطة من النقاش.
يجمع من كتب عن الموضوع ان تكون المحاكمة في العراق، وان تتم على ايدي قضاة عراقيين. والتخريج المنطقي لهذا الاستنتاج ان العراق هو المكان الذي ارتكب صدام فيه ما نسب اليه من جرائم، وان العراقيين وقد قاسوا على يديه وفي عهده الامرين، ومروا بعهد لا تشبهه في ظلمته حقبة اخرى، هم اولى الناس بتولي تطبيق قانونهم عليه.
وهذا في نظري رأي سقيم عقيم لا أراه صادرا عن روية ولا طول نظر. وظاهره مقنع ولكن المتأمل فيه يرى ان له مآخذ جمة اورد منها ما يلي:
1- ان محاكمة تجري بوجود الاميركان في العراق (وارجو ان يثق القراء بأن وجود الاميركان ظاهرة من المستحسن تقبلها، فهي ستبقى معنا طويلاً) سيكون تأويلها حتماً ان الاميركيين قد امتنعوا عن محاكمة صدام لأن العراقيين المؤتمرين بأمرهم نفذوا لهم ما أرادوا، وان المحاكمة ستتم بوحي من المحتل وان احكامها ستكون طبقاً لما يهوى، فهي محاكمة غير عادلة لأنها ستجري من المحتل، وبذلك تخلق للبعث الجديد أسساً جديدة لظهور افكاره تارة أخرى.
2 ـ لقد قرأت في الصحف الكويتية ان الكويت ستستضيف جماعة من القضاة العراقيين لاعادة تدريبهم وتعريفهم بنظام قضائي غير ما عهدوا في العراق في عهد الحكم الجائر السابق. فإن صح هذا أفلا يدل على ان قضاة العراق، بل النظام القضائي فيه، تعوزه الخبرة والكفاءات، وينقصه ما تتمتع به النظم القضائية العادلة في المجتمعات المتحضرة؟
3 ـ محاكمة صدام من قبل العراقيين معناها ان الحكم والخصم هم جماعة واحدة وكأنك قد أسلمته الى جمع من الغوغاء لصلبه.
4 ـ وعقوبة الاعدام موضع للتساؤل!... إذا كان المجتمع الديموقراطي الجديد سيتبنى مبادئ العدالة المطبقة في ولاية تكساس التي وقع فيها حاكمها قبل مغادرة وظيفته نيف ومائتي حكم اعدام في عشية أو ضحاها، أفلا ينزلنا عن مستوى المجتمع الاوروبي الذي ألغى عقوبة الاعدام ونزلت عند حكم دستوره الجديد خمس وعشرون دولة كلها أجمعت شعوبها على ان الاعدام همجية وان تطبيق ما نفذه الجاني بضحاياه بحقه هو ليس مبدأ حضارياً مقبولاً. لقد سمم صدام وقطع وقتل اناساً كثيرين، من بينهم شقيق هذا الكاتب ولكن ذلك لا يجيز تطبيق الوحشية نفسها في الحكم عليه.
ان اعدام صدام سيخلد اسمه وسيكلل عهده بخرافة استشهاده ومن الحمق ارتكابها!
5- ان المتضررين بشرور الحكم في العراق لا يتقصرون على العراقيين، وان كان هؤلاء البؤساء قد دفعوا ابهظ الاثمان واغلاها، واحتملوا من الشقاء والقسوة والتخلف الحضاري ما لا يمكن وصفه، ولكن ايران اولا ثم الكويت طرفان في الخصومة!
فمحاكمة صدام بنيغي ان تأخذ بنظر الاعتبار البعد الدولي لما اقترف او لما سيوجه اليه والى زمرته من تهم.. وعندي ان الحل الامثل ان تتم المحاكمة على الارض العراقية، وان تختار الحكومة العراقية قضاة عربا من لبنان ومصر والشمال الافريقي يشرف عليهم او يرعاهم او ينصحهم قضاة عالميون من محكمة العدل الدولية وعلى الا يكون من هؤلاء عضو اميركي او بريطاني او يهودي من اي جنسية.
وفي مصر قضاة بالمستوى العالمي ولا شك في ذلك، وفيها علماء في القانون كانوا في ايامي يرقون الى اسمى المستويات العالمية كعبدالعزيز فهمي باشا رحمه الله والسنهور رحمه الله وغيرهم كثيرون. فلم لا يتم الاختيار من النخبة التي ورثت مكانتهم على ان تتولى الجامعة العربية اختيارهم وتزكيتهم؟
ومن المهم الا يكون للقوى المحتلة يد في الامر من قريب او من بعيد، والا فان الاسطورة التي احذر منها ستولد وتترعرع وتنمو. أَفمِنْ سامع منصف حكيم يعي ما أقول؟