خالد بن حمد المالك

ما إن يرد اسم معالي الشيخ جميل الحجيلان حتى يتبادر إلى الذهن -بابتهاج- كَمٌ هائلٌ من خبراته، وثراء معرفي كبير سبق به جيله، وتنوّع في طبيعة الأعمال القيادية التي مارسها، ونجاحه في كل موقع أُسند إليه، وأن لدى شيخنا مخزوناً مما يحسن أن يبوح به، ويُفصح عنه، ويُنادى من الآخرين للإسراع بكتابته، ووضعه في متناول الناس، غير أنه ظل متردداً، فتأخر في تلبية ما طُلب منه، وعدم التجاوب المبكر مع من كانوا يلاحقونه لإكمال كتابة مسيرته في الحياة، حتى داهمه الوقت، وسرقته الوظيفة من قبل، وتقدَّم به العمر، وظلت كتابة السيرة بموادها، ومحتوياتها، وفصولها المثيرة، تنتظر بين وثائق مبعثرة وكثيرة، وذاكرة تحتفظ بالكثير منها.

* *

في كتابة السير عادة ما تكون صفحاتها جاذبة، ومعلوماتها مثيرة، وصورها أخَّاذة، وفيها قبسات عن دور مهم تتحدث عن صاحبها، ومحطات يقتضى توثيق أهم ما حدث فيها من إنجازات وعطاءات قائلها، والأهم أنها رواية عن أحداث مرَّت، وتاريخ مضى، وصفحات فيها ما يستحق أن يُكتب ويُروى للناس فيها، وهي بمثابة رصد أمين وصادق للقدرات والمواهب والخبرات المميزة لمن نتحدث عنه، ولذوي الإبداع والتفوّق، ولمن كانوا ملء السمع والبصر لتميزهم بالعمل والوظيفة والموهبة، ولكل من لا تغيب اهتمامات الناس بهم، نسبة لأدوار لفتت الأنظار في شخصياتهم.

* *

جميل الحجيلان من بين هؤلاء، وأحدهم، كان لافتاً في كل موقع اختير له، فأبدع فيه، ووظَّف كل إمكاناته لخدمته ليترك فيه أثراً، وثم يقتدي به من خلفه، محاكياً ما كان عليه الموقع من مستوى متفوق أثناء رئاسته، عرفاناً بأثر جميل لدى من سبقه، بنجاح كبير جعل خلفه أسيراً لتجربته الغنية، وإبداع لا غنى للوظيفة وله عنه، واسترشاداً منه بما كان عليه الموقع، وقناعة بأن عليه أن يواصل العمل على نحوه وخطاه، توظيفاً لما يجب أن يكون عليه في المستقبل.

* *

عمل جميل الحجيلان وزيراً لوزارتين، وسفيراً لثلاث سفارات، وزيراً للإعلام، ووزيراً للصحة، وسفيراً في كل من الكويت وألمانيا وفرنسا، واختير قبل تقاعده أميناً عاماً لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، وفي كل موقع من هذه المواقع القيادية كانت لجميل بصمته، ورؤيته، جدّد، وطوّر، وأضاف، وعدّل، وصنع شخصية مبهرة لكل من هذه الوظائف في هذه المواقع، بإيجابية، وابتكار، وتجديد، في تجربة طويلة وغنية، في ظروف مختلفة، وفي تقلبات سياسية غاية في الأهمية والخطورة ونجح الحجيلان في الاختبار.

* *

في جزأين كتب جميل الحجيلان أخيراً مسيرته، وحدد فترتها بعهود سبعة من الملوك، وقد أسعدني بإهدائه لي نسخة من الكتاب ضم مسيرته الملهمة، ولم يكتف بذلك، وإنما خصني بنص إهدائي جميل، كما هو اسمه، وكما هو قلمه، وخطه الأنيق (الأخ الأستاذ خالد المالك، العزيز أبا بشار، لقد أتى هذا الكتاب على أحداث وطنية، عايشناها معاً، وكم يسعدني أن تكون من قراء هذه المذكرات)، وفي الكتاب تقرأون للحجيلان نصاً أدبياً عالي الجودة في أسلوبه، وانتقاء مفرداته، مع ما صاغ به سيرته الدبلوماسية والإعلامية والإدارية التي تشبَّع بها من عمله في الوزارات والسفارات ومجلس التعاون، وكثير من الوظائف الأخرى المهمة التي مرّ بها، والأحداث التي عايشها، وكان فاعلاً ومؤثِّراً في كثير من القرارات التي شهدتها بحضوره في الصالات المغلقة والاجتماعات السرية، ومشاركته على مدى عقود من الزمن.

* *

ضم الجزء الأول من الكتاب صفحات بدأت بعنوان (مفتاح الكتاب)، وهو مدخل هيأ به جميل الحجيلان القارئ ليكون نافذته للدخول إلى الكتاب بجزأيه، وبوَّبه في أحد عشر فصلاً (العقيلي المغترب، من الفرات إلى النيل، بداية المسيرة، دبلوماسياً في طهران، دبلوماسياً في باكستان، مديراً عاماً للإذاعة والصحافة والنشر، سفيراً في وزارة الخارجية، سفيراً لدى دولة الكويت، وزيراً للإعلام، وزيراً للصحة، سفيراً لدى جمهورية ألمانيا).

* *

وفي هذه الفصول تحدث بإسهاب وتفاصيل كثيرة، بدءاً من اغترابه في سوريا كواحد من العقيلات، ثم عن دراسته الجامعية بالقاهرة، ثم عن بدء عمله بعد التخرّج في الجامعة، دبلوماسياً في طهران، ودبلوماسياً في باكستان، مديراً عاماً للإذاعة والصحافة والنشر، سفيراً في وزارة الخارجية، سفيراً لدى الكويت، وزيراً للإعلام، وزيراً للصحة، سفيراً لدى جمهورية ألمانيا، وترك الحديث عن تعيينه سفيراً في فرنسا، ثم أميناً لمجلس التعاون لدول الخليج إلى الجزء الثاني من الكتاب.

* *

في الجزء الثاني من مذكِّرات الشيخ جميل الحجيلان خصَّص محتوياته للحديث عن ذكرياته في عمله سفيراً لدى فرنسا، والعلاقات السعودية الإيرانية، وعن غزو العراق للكويت، وعن عمله أميناً عاماً لمجلس التعاون، والعدوان الثلاثي على مصر، والوحدة المصرية السورية التي ما لبثت أن انهارت، والعدوان الإسرائيلي عام 1967م، وحرب أكتوبر عام 1973م، وفي كل فصل توسَّع في الحديث عنه بأسلوب جذَّاب، ومعلومات موثَّقة، وتتبع أمين لكل أحداثها، وكان صادقاً في القول، نزيهاً في الموقف، يدعم معلوماته بالصور والوثائق والخطابات، ولا تُغني كتابات الكتَّاب عن قراءة الكتاب، فقيمته أن يُقرأ بأسلوب جميل وروايته، والتفاصيل التي أوردها، والأحداث التي توسَّع في نشر أدق تفاصيلها.

* *

بلغت صفحات الجزء الأول (753) صفحة، فيما جاء الجزء الثاني بـ(709) صفحات بتفاصيل ومعلومات بعضها ينشر لأول مرة، وصور ومستندات ووثائق لا يوجد بعضها مصدر لها إلا في هذا الكتاب -على ما أعتقد- ومن يقرأ الكتاب سيجد فيه متعة، بما فيه من تسجيل لتاريخ مضى وانقضى بأحداثه وتطوراته، وبما واجهته أمتنا من انكسارات، وهزائم، ومن عزم وتصميم على عدم الاستسلام، على ما في تلك الحقب من مآس وآلام وأحزان إلى اليوم، وهذا الكتاب أراه جديراً بأن يُدرَّس بالجامعات، لا أن يُكتفى بأن يكون مرجعاً للطلاب فقط، أو أن يكون التعامل معه لا هذا ولا ذاك، شكراً لجميل الحجيلان على هذا الإنجاز الفكري الذي جمع بين الدبلوماسية والإعلام، وعلَّمنا كيف تُدار الوظيفة، وكيف تُكتب السير والمذكرات.