رحل عن دنيانا الشيخ الأديب الفاضل محمد بن عبدالله الحمدان، المعروف بأبي قيس، راعي البير وصاحب مكتبة قيس التي شكّلت لسنوات طويلة ملاذًا للباحثين عن النوادر، ووجهةً لكل عاشق للكتب والمجلات والمخطوطات النادرة. وبرحيله، يغيب وجه من وجوه الثقافة الشعبية، ورجل حمل على كتفيه ذاكرة مكان ووجدان جيل كامل.

كان أبو قيس -رحمه الله- حارسًا للمعرفة، وراويًا لقصص الزمن الجميل، ومرشدًا لكل من ضلّ طريقه في دهاليز الورق. كان يستقبل زواره بابتسامة صادقة، ويحدّثهم عن تاريخ كل كتاب كأنه يتحدث عن صديق قديم. في مكتبته الصغيرة، كانت الأرواح تجد سكينة، وكانت الكتب تستعيد قيمتها الأولى: قيمة الحكاية.

عرفه الناس بكرمه، وبساطته، وطيبته التي لا تتكلّف. كان قريبًا من الجميع، يفرح لفرحهم، ويهتم بتفاصيلهم، ويمنحهم من وقته أكثر مما يمنح نفسه. وحين يرحل أمثال هؤلاء، نشعر أن جزءًا من الذاكرة يختفي، وأن ركنًا من أركان المكان يفقد دفئه.

رحل فقيدنا عن عمر ناهز التسعين عامًا، تاركًا خلفه إرثًا ثقافيًا ثريًا في خدمة التراث والأدب. وقد وُلد في قرية البير عام 1938م، وتلقى تعليمه الأولي فيها، قبل أن ينتقل إلى معهد الدعوة العلمي، ثم إلى كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حيث تخرج عام 1963م.

بدأ مسيرته المهنية في الديوان الملكي بقسم البرقيات، ثم انتقل إلى وزارة العمل في مكتبها الرئيس بالرياض. وبعد سنوات من الخدمة، تقدّم بطلب التقاعد المبكر عام 1400هـ، لكنه لم يبتعد طويلًا؛ إذ عاد بعد ست سنوات ليعمل مستشارًا ثقافيًا في الإمارة، مواصلًا دوره في دعم المشهد الثقافي السعودي.

كان الراحل عاشقًا للقراءة والبحث، فأسس مكتبة حملت اسم ابنه قيس، لتصبح واحدة من أبرز المكتبات الخاصة في المملكة، بما ضمّته من نوادر الكتب والمجلات والمخطوطات، كما أسهم في إثراء الساحة الأدبية عبر أبحاثه ومقالاته المنشورة في الصحف المحلية والخليجية والعربية. ومن أبرز مؤلفاته: بنو الأثير، البير، حميدان الشويعر، صبا نجد، وديوان السامري والهجيني.

لقد ترك أبو قيس أثرًا لا يُمحى في قلوب من عرفوه، وفي ذاكرة كل من مرّ على مكتبته، وفي تاريخ النوادر التي حفظها من الضياع، وفي روح المكان الذي أحبه وأخلص له.

رحمه الله وجعل ما قدّمه من علم ومعرفة وطيب أثر في ميزان حسناته.

نسأل الله أن يسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان.. ويبقى العزاء الأكبر أن إرثه الإنساني والثقافي سيظل حاضرًا، يرويه كل من عرفه ذات يوم.