ياسر عبد الحافظ من القاهرة: "لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها، فأنا أقدم رجلا، وأؤخر أخرى، فمن الذى يسهل عليه أن يكتب نعى الإسلام والمسلمين، ومن الذى يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمى لم تلدنى، وياليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. إلا أنى حثنى جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت ترك ذلك لا يجدى نفعا، فنقول هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التى عقت الأيام والليالى عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتل بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها"
هذا المقتطف المأخوذ عن كتاب" فى ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام" لأبو الحسن ابن الأثير. يبدأ به د. خالد الناشف كتابه "تدمير التراث الحضارى العراقى- فصول الكارثة" والذى صدر قبل أيام قليلة عن دار الحمراء ببيروت. وهو بهذا يعد التوثيق العربى الأول- إن لم تخنا المتابعة- لما جرى للآثار العراقية جراء الحرب الأخيرة.
والكتاب كما يقول مؤلفه يقد تقييما أوليا للكارثة حتى نهاية شهر آب 2003، مستندا إلى مصادر مختلفة كالتقارير الصحفية، البيانات الرسمية، ونتائج بعثات تقصى الحقائق التى أرسلت للعراق لتقييم المعطيات على الأرض.
وهذا التقييم الأولى الذى أجراه يدفع القارئ للغضب، وربما لا يستطيع الكثيرون الذين يعوون معنى الحضارة العراقية أن يتموا تلك الفصول المؤلمة، وأنا أقرأ الكتاب قلت فى محاولة للهروب من ضغط تلك المعلومات المرعبة: أنها فى الأغلب مجرد تقارير صحفية وتصريحات تم تضخيمها، وبيانات لا تستند إلى حقائق قدر ما توجهها العواطف الساخنة، وكان الاسترسال فى هذا الاتجاه كافيا لإلقاء الكتاب بعيدا والتخلص من ذلك الشعور الذى لا نتيجة له سوى " حرقة الدم" بالتعبير العامى.
غير أن التعريف بالمؤلف أوقفنى فدراسته وتخصصه لا يتركان مجالا للشك فى عمله، فهو حاصل علي شهادة الدكتوراة من جامعة فيينا في حضارة وادي الرافدين واللغتين الآكدية، والسومرية، فلسطينى الأصل، هاجر مع عائلته إلى سوريا وتنقل بين عدة بلدان عربية وأجنبية، عمل أستاذا فى جامعة توبنغن بألمانيا، ثم جامعة الملك آل سعود فى الرياض، تولى منصب مدير معهد الآثار فى جامعة بيرزيت بفلسطين عام 1994 حتى إبعاده من قبل سلطات الاحتلال بعد بأربع سنوات، له عدد كبير من المقالات والأبحاث، وثلاثة كتب فى الجغرافيا التاريخية للعراق وشمال سوريا، قام بإصدار أول مجلة آثارية متخصصة باللغة العربية هى"مجلة الآثار الفلسطينية" وقد توقفت عن الصدور بعد إبعاده.
باختصار نحن أمام شخص تثبت سيرته العلمية جدارته بالتصدى لسرد ما حدث للحضارة العراقية وآثارها بسبب القصف الأمريكى وما تلاه -بعد دخول بغداد- من عمليات سلب ونهب واسعة النطاق، قام بها لصوص مدربون على اختيار القطع الأغلى قيمة. يشير المؤلف إلي أن التدمير طال جميع المؤسسات الثقافية العامة، من جامعات، متاحف، مكتبات، مراكز أكاديمية وفنية، مبان عامة وتاريخية، ومواقع أثرية، و تم تدمير الجامعات الخمس عشرة بشكل كامل باستثناء حرم جامعة بغداد في الجادرية حيث ترابط القوات الأمريكية، وفي بغداد نهب المتحف العراقي، وتعرضت مقتنياته إلي تخريب متعمد، وطال النهب والحرق المكتبة الوطنية ومكتبة الأوقاف، كما لم تسلم المراكز الفنية مثل مركز صدام للفنون والذى كان يضم أعمال الفنانين العراقيين من النهب وأصبحت لوحاتهم تباع فى سوق باب الشرقى. انتزعت تماثيل رموز التاريخ العراقى الحديث من الساحات العامة لتصهر وتباع كخردة. وتعرضت مراكز الأبحاث لتلك العمليات أيضا ومنها بيت الحكمة، والمجمع العلمى. كما نبشت المواقع الأثرية وخربت بالعشرات فى جميع أنحاء البلاد.
يصف خالد الناشف عمليات السلب والنهب التى طالت المتحف العراقى- والذى تبلغ مساحته 47 ألف متر- فى حراسة القوات الأمريكية أحيانا وبغيابها المتعمد أحيانا مؤكدا أن أحدا لا يستطيع الآن التأكيد على عدد القطع التى نهبت أو تم تخريبها، يقول أن وسائل& الإعلام في البداية حددت الرقم بأنه 170000 ، لكنه لا يتفق مع هذه المعلومة ففى ظنه أن هذا الرقم لا يعبر عن الحجم الفعلي للموجودات، كما انه وللآن لا يعرف مصير أكثر من 5000 قطعة أرسلت من متحف الموصل إلي المتحف العراقي قبل الحرب لحمايتها.
يحاول المؤلف من خلال تتبع التصريحات التى أدلى بها المختصون حول الكارثةالوصول للمعلومات الصحيحة حول عدد القطع المختفية ونوعها.يقول جابر خليل إبراهيم مدير عام هيئة الآثار والمتاحف العراقية إن عدد القطع المميزة المفقودة هو 38، من بينها 'الإناء النذري' و'الرأس البرونزي' للحاكم الاكدي، بينما القطع الأخرى قد تصل بعد الجرد إلي أرقام خيالية.
&وفى رأى ماجواير جبسون رئيس الرابطة الأمريكية للأبحاث في بغداد فإن هناك 6000 قطعة مفقودة وذلك حسب التحقيق الأمريكي، وأن هذا العدد في ارتفاع مستمر، حتي بداية يوليو كانت 32 قطعة ما تزال مفقودة من قاعات العرض، بما في ذلك التمثال البرونزي للحاكم الاكدي، وتمثال برونزي لشاب جالس من الفترة الاكدية، بالإضافة إلي الآلاف من القطع.
&وعلى الجانب الآخر هناك تصريحات تحاول التقليل من شأن الخسائر التى تعرض لها المتحف، كما أن هناك بعض القطع التى تم استعادتها مثل "كنز نمرود" والذى أتضح أن المسئولون العراقيون كانوا قد نقلوه فى أوائل التسعينات إلى أحد سراديب البنك المركزى، أيضا تبين أن كنوز "المقابر الملكية لأور" كانت قد حفظت هى الأخرى فى نفس السراديب، وتم استعادة" الإناء النذرى" من أوروك، فقد أعاده ثلاثة أشخاص للمتحف فى حالة معقولة.
يرصد الناشف كذلك ما جرى فى متحف الموصل الذي تعرض للنهب والتخريب بعد اقتحامه من البوابة الرئيسية والنوافذ، استمرت عملية النهب 12 ساعة انتزعت من المتحف خلالها المئات من القطع الفريدة بما في ذلك اللوحات الجدارية والرقم الطينية ، وبعضها لم يقرأ بعد.
وقدر عدد القطع المنهوبة من قاعات العرض ب34 قطعة علي الأقل، وعدد كبير من القطع المخربة، ولم يترك اللصوص إلا القطع الكبيرة والثقيلة كفرن فخار في البهو، وثمانية مذابح حجرية لها قوائم علي شكل مخالب أسد تعود إلي 680 ق. م كانت في الساحة الخارجية.
ويرصد المؤلف الخسارة التى تعرضت لها العديد من المكتبات العراقية، ومن أهمها" المكتبة الوطنية"، "مكتبة الأوقاف"، المكتبة المستنصرية ببغداد، وفى البصرة" المكتبة المركزية العامة" و"المكتبة المركزية" للجامعة، وفى الموصل نهبت مكتبة جامعتها والتى تحتوى على مخطوطات نادرة ويشير تقرير أرنو أن حوالى 30% من محتوياتها تعرض للتدمير أو النهب.
وهكذا يتتبع خالد الناشف كل ما حدث للمراكز والمتاحف والمكتبات فى العراق، ثم يورد تصريحات المسئولين الأمريكيين، ومسئولى الهيئات الدولية التى هى أقرب للدقة والواقع.
" تدمير التراث الحضارى العراقى" كتاب وثائقى وليس مجرد معلومات صحفية، وهو ينبه إلى أننا لن نفقد الحاضر والمستقبل فقط بل إننا على وشك الخروج أيضا من ذاكرة التاريخ، فالدلائل على وجودنا السابق والفاعل فيه تختفى. فهل هى مؤامرة مثلما يذهب المؤلف؟!