موسوليني
باريس- ايلاف- من كاظم جهاد: مع انتهاْء القرن العشرين ودخولنا مشارف الألف الثالث، تقدٌمت الكثير من المجلات والدوريات الغربية بجردة لمكتسبات القرن الفائت ومراجعة لأهم الأحداث والانجازات التي حققتها الانسانية في هذا القرن المتناقض والموسوم بالغرابة في أكثر من جانب. قرن وطأ فيه الانسان تربة القمر وحقق اكتشافات علمية ومعرفية عديدة، ولكنه شهد أيضاًًًًً حربين عالميتين وما لا يحصى من الحروب الاقليمية. باختصار عن العدد الخاص الذي كرسته ٍّ"لوموند دي ديبا" ("عالم المناظرات") التابعة لصحيفة "لوموند" للقرن العشرين، والذي حرره عدد من أكبر المختصين في مختلف العلوم الدقيقة والانسانية، نقدم في الحلقات الخمس التالية مراجعة لبعض الظواهر والانجازات التي طبعت بميسمها العميق القرن الآفل. هنا الحلقة الثانية.

هتلر وموسوليني وفرانكو وديكتاتور البرتغال سالازا
ادولف هتلر
تشكل التوتاليتارية كممارسة سياسية وصعودها الى مجال التفكير أحد أهم ظواهر القرن العشرين. ولقد انقسم المفكرون السياسيون حول هذه الظاهرة. فبعضهم، كما يذكر به عالم السياسيات بيير هاسنر في دراسة عن الظاهرة نعرضها في ما ياتي، يتحدث عن "الفاشية" ويجمع تحت لوائها كلا من هتلر وموسوليني وفرانكو وديكتاتور البرتغال سالازار، ويرى في الستالينية ممارسة من طبيعة مختلفة. والبعض الآخر يتحدث عن "التوتاليتارية" ويجعلها تشمل جميع الممارسات الاضطهادية مهما كان باعثها أو هدفها المعلن.
وبمعزل عن المناظرات الجدلية التي دارت حول المفردة والتي سنوجز أساسيها في ما يأتي، يتفق الباحثون على أن المفردة ابتكرت في العام 1922على أيدي خصوم موسوليني والفاشية الايطالية. واستخدم موسوليني المفردة لصالحه اذ قال: "نعم، نريد دولة كلية"، وهذا هو المعنى الحرفي للمفردة. لكن يرى الباحثون أن نظام موسوليني كان ديكتاتوريا أكثر منه كليانيا، فالاستبداد مارسه في ايطاليا فرد لا دولة. كذلك كان الأمر أيضا في اسبانيا الفرانكوية والبرتغال في عهد سالازار.
حنا آرندت و"أصول التوتاليتارية
فرنكو
واعتبارا من 1933، تلقف منظرو هتلر المفردة بدورهم وصاروا يفكرون بالدولة الكلية. على أن المفردة ستشهد انتشارها الغامر والنهائي اعتبارا من خمسينيات القرن العشرين، بفضل كتاب الفيلسوفة الألمانية حنا آرندت الأساسي "أصول التوتاليتارية" الذي تحلل فيه ما تدعوه بالمنطق التوتاليتاري. ويسجل هاسنر تأخر الفرنسيين في تناول& الظاهرة. واذا كان الألمان عكفوا مبكرا على
دراسة المنطق التوتاليتاري في محاولة لفهم ما أحاق ببلادهم في أعوام النازية السوداء، فان الأمريكان انشغلوا طوال فترة الحرب الباردة بتحليل أواليات الاستبداد الستاليني، ولم تهدأ غلواؤهم الا مع بداية سياسة الانفراج. واليوم، بعدما تشرذم الاتحاد السوفياتي السابق الى فسيفساء من جمهوريات صغيرة خاضعة لسلطة المافيا، يرى بعض الباحثين في النظام الستاليني نظاما استبداديا& ما كان يمكن تطويره من الداخل ولم يكن بد من انهيار الكيان السياسي الناجم عنه، فيما يرى فيه آخرون فصلا عابرا ويذكرون بأن الاتحاد السوفياتي قام مع كل شيء باسم مباديء العدل والمساواة. ويظل جديرا& بالتنويه من هذه الناحية كتاب الأمريكيين ك. ج. فريدريك وزبغنيو بريزينسكي الحامل عنوان "الديكاتورية التوتاليتارية" الذي يقدمان فيه قائمة بالعناصر اللازم توفرها لنعت نظام بالتوتاليتارية: حزب أوحد يقف على رأسه قائد شديد التأثير، أيديولوجية تدعي الشمولية، جهاز شرطة شديد التحكم، اقتصاد منظم واحتكار لوسائل الاتصال الجماهيري، الخ.
أمام هذه المراجعة التاريخية، يرى الباحث أنه يجب التمييز بين الأنظمة والحركات ومختلف الأهواء التوتاليتارية. ويجب التفكير أيضا بأن استمرار الأنظمة التوتاليتارية بات أكثر فأكثر صعوبة بباعث من انتشار شبكات الاعلامياء الجديدة (فاكس، أنترنيت، بريد ألكتروني، الخ.) التي تمد الأفراد بقدرات واسعة على الافلات من الصمت والعزلة الفكرية.
تمتاز الحركات التوتاليتارية الحالية بصغرها وتشرذمها
وأمام غياب الدولة التوتاليتارية، ينشأ اليوم في الغرب خطر الحركات التوتاليتارية. لفهم هذا، ينبغي البدء بتحديد معني التوتاليتارية. هي في نظر الباحث كل حركة تدعي حيازة الحقيقة المطلقة وتبشر بها كمعتقد جازم وصارم وتلزم أتباعها بالخضوع المطلق. انها كل حركة تقيم معارضة حاسمة بين "نحن" و"الآخرين" وتزيل جميع الموانع الأخلاقية والمثل العليا التي كانت الديانات والفلسفات المختلفة، بما فيها العلمانية، أفرزتها وأرستها& في الموروث الثقافي والسلوكي للانسانية. بايجاز، هي كل حركة تنهض كديانة جديدة تلزم أتباعها بالامتثال المطلق والتنفيذ الحرفي والأعمى لتعاليم تصدر عن "الرأس" وتطبقها "القاعدة" في بناء يظل هرميا ومراتبيا. وتشكل ملة "أوم" اليابانية التي نشرت الغازات في أنفاق القطار الجوفي (المترو) في طوكيو مثالا حديثا على هذا النوع من الحركات التوتاليتارية.
حتى تقوم حركة توتاليتارية، يلزم أن يتوفر ما يدعوه الباحث بالهوى التوتاليتاري أو العصبية التوتاليتارية. وهي تتلخص برفض كل نسبية والايمان بحقيقة مفردة لا تقبل النقاش والقول بوجود أخيار ينبغي استمالتهم ولو بالعنف وأشرار يجب ابادتهم. هذه الأهواء التوتاليتارية تتمخض، لدي دخولها حيز التنفيذ، عن دينامية توتاليتارية. وتستمد هذه الحركات قوتها من تلاعبها بشعارات نبيلة كرفض عدم المساواة والنفعية المادية. كما تقوم على فراغ الساحة الفكرية وخلو الحياة في الغرب من القناعات الروحية. انها تستغل ارادة في التغيير وتطلعا الى الانعتاق وتوجههما نحو العنف. وتمتاز الحركات التوتاليتارية الحالية بصغرها وتشرذمها، فهي تعوض أساسا عن غياب الدولة التوتاليتارية والأيديولوجيات الاستبدادية الكبرى كالنازية.
"عدو كلي، حرب كلية، دولة كلية"
ان فكرة الدينامية التوتاليتارية هذه هي الابتكار الرئيس لآرندت. فلم يعد من المهم أن تتقدم دولة ما أو حركة ما بآيديولوجية توتاليتارية وأن تتوفر على الشروط الخمسة التي ذكرها ك. ج. فريدريك وزبغنيو بريزنسكي أم لا. المهم هو أن تتوفر هذه الدينامية التوتاليتارية وما يرافقها من عنف لا يرتدع أمام جميع النوازع الدينية والأخلاقية والفكرية. يكفي أن تؤمن حركة بامتلاكها& السبيل الى الخلاص الأمثل وسعيها الى تعجيل مسار التاريخ من أجل ذلك. هذه الأشياء التي كان الفيلسوف والحقوقي الألماني كارل شميت قد لخصها منذ 1937 في مقالة حملت العنوان شديد الدلالة: "عدو كلي، حرب كلية، دولة كلية". انه تصور عدو شامل يمكن أن يكون طبقة معينة أو أمة أو نمطا من البشر، تجب ابادته في حرب شاملة سعيا الى هيمنة كلية.

عرض كاظم جهاد