باريس -ايلاف- من كاظم جهاد: مع انتهاْء القرن العشرين ودخولنا مشارف الألف الثالث، تقدٌمت الكثير من المجلات والدوريات الغربية بجردة لمكتسبات القرن الفائت ومراجعة لأهم الأحداث والانجازات التي حققتها الانسانية في هذا القرن المتناقض والموسوم بالغرابة في أكثر من جانب. قرن وطأ فيه الانسان تربة القمر وحقق اكتشافات علمية ومعرفية عديدة، ولكنه شهد أيضاًًًًً حربين عالميتين وما لا يحصى من الحروب الاقليمية. باختصار عن العدد الخاص الذي كرسته ٍّ"لوموند دي ديبا" ("عالم المناظرات") لتابعة لصحيفة "لوموند" للقرن العشرين، والذي حرره عدد من أكبر المختصين في مختلف العلوم الدقيقة والانسانية، نقدم في الحلقات الخمس التالية مراجعة لبعض الظواهر والانجازات التي طبعت بميسمها العميق القرن الآفل، (هنا الحلقة الثالثة)
الحداثة والدين يقعان على طرفي نقيض
طرحت الحداثة الغربية نفسها كممارسة عقلانية مرتبطة بالعلمانية ارتباطا وثيقا ولا يقبل الرجوع. واليوم، وبعد أكثر من قرنين من التحديث والعقلنة، يتساْءل الكثير من العلماء والمفكرين والباحثين ان كانت الحداثة توصلت بالفعل الى الغاء الشعور الديني وأحالت مسألة الايمان الى مجرد ظاهرة فردية يعيشها المرء بصورة حميمية أو باطنية بعدما كان يعيشها كظاهرة جماعية علنية. في حوار مطول مع عالم الاجتماع الفرنسي دانييل هرفية_ ليجيه نلخص هنا نتائجه الأساسية، نجد أجوبة معمقة على هذه الأسئلة.
لقي القرن العشرون في نظر الباحث تدشينه في القناعة المعممة في أن الحداثة والدين أو التدين يقعان على طرفي نقيض. القناعة بامكان تحويل الدين الى شعور فردي وليس الى قوة اجتماعية وطاقة مؤسسية فاعلة. لقد اعتقد البعض بامكان العمل على اشاعة علمانية كاملة يكون العقل الذي لا يرجع الى أية قوة سواه هو معيارها الوحيد. انطرح السؤال في شاكلتين. فمن جهة، فكر البعض بانعتاق للمجتمع يغنيها عن الرجوع الى عوالم القداسة والتحريم المميزة للمجتمعات التقليدية. انعتاق يتكلم لغة العقل والتعليل العلمي لا غير. ومن جهة ثانية، شعر البعض الآخر بالقلق من جراء زوال الشعور الديني وشيوع نوع من النشاف الروحي وأثر ذلك على تماسك المجتمع والعرى الرابطة فيه والقيم المتبادلة في داخله. حتى عالم اجتماع علماني كدوركهايم كان يعلن عن قلقه أمام هذا النشاف ويتساءل بم يمكن التعويض عن الشعور الديني في حالة زواله في الحالة المحتملة التي تنتصر فيها العلمانية المطلقة.
وفي الأوان ذاته سارعت بعض العقول القادرة علي الاستشراف الى التساؤل عن أشكال الايمان الجديدة، بما فيها الايمان الديني، في مجتمعات تبدو ظاهريا محررة من التقاليد الدينية. هكذا طرح ماكس فيبر وبعده رايمون آرون تعبير "الديانة العلمانية" لتسمية هذا الشعور الجديد الذي يشد أفرادا وجماعات الى مؤسسات وحركات سياسية وفكرية تطرح نفسها كظواهر علمانية ولكنها تعمل في العمق كديانات. ديانات أحلت نوعا من الايمان بالغد المشرق محل القول بالثواب والعقاب في العالم الآخر. قيامة تاريخية نوعا ما بمقابل القيامة الدينية.
لقي القرن العشرون في نظر الباحث تدشينه في القناعة المعممة في أن الحداثة والدين أو التدين يقعان على طرفي نقيض. القناعة بامكان تحويل الدين الى شعور فردي وليس الى قوة اجتماعية وطاقة مؤسسية فاعلة. لقد اعتقد البعض بامكان العمل على اشاعة علمانية كاملة يكون العقل الذي لا يرجع الى أية قوة سواه هو معيارها الوحيد. انطرح السؤال في شاكلتين. فمن جهة، فكر البعض بانعتاق للمجتمع يغنيها عن الرجوع الى عوالم القداسة والتحريم المميزة للمجتمعات التقليدية. انعتاق يتكلم لغة العقل والتعليل العلمي لا غير. ومن جهة ثانية، شعر البعض الآخر بالقلق من جراء زوال الشعور الديني وشيوع نوع من النشاف الروحي وأثر ذلك على تماسك المجتمع والعرى الرابطة فيه والقيم المتبادلة في داخله. حتى عالم اجتماع علماني كدوركهايم كان يعلن عن قلقه أمام هذا النشاف ويتساءل بم يمكن التعويض عن الشعور الديني في حالة زواله في الحالة المحتملة التي تنتصر فيها العلمانية المطلقة.
وفي الأوان ذاته سارعت بعض العقول القادرة علي الاستشراف الى التساؤل عن أشكال الايمان الجديدة، بما فيها الايمان الديني، في مجتمعات تبدو ظاهريا محررة من التقاليد الدينية. هكذا طرح ماكس فيبر وبعده رايمون آرون تعبير "الديانة العلمانية" لتسمية هذا الشعور الجديد الذي يشد أفرادا وجماعات الى مؤسسات وحركات سياسية وفكرية تطرح نفسها كظواهر علمانية ولكنها تعمل في العمق كديانات. ديانات أحلت نوعا من الايمان بالغد المشرق محل القول بالثواب والعقاب في العالم الآخر. قيامة تاريخية نوعا ما بمقابل القيامة الدينية.
الديني بمعناه المتوارث لم يعد يتمتع بطاقة مؤسسية
هكذا اكتسب السؤال صفة جديدة. فصحيح ان الايمان الديني بمعناه المتوارث لم يعد يتمتع بطاقة مؤسسية ولا يشكل المحور الأساس للتعبئة الجماهيرية. لم يعد هو الذي يوجه التفكير بالأجرام السماوية والعلاقة بين الجنسين وشروط العمل ومواجهة الطبيعة، الخ. لكن هل يمكن القول أن الانسان الغربي، أو الانسان بعامة، قد حقق علمانيته الكاملة وخرج من الدين خروجا لا مراء فيه؟
الذي يلاحظه المراقبون للمجتمعات الغربية منذ سبعينيات القرن العشرين هو أن المجتمع لم يكتف بنقل الحساسية الدينية من مجال الديانات المعروفة الى نطاق الممارسات الجديدة المدعوة بالعلمانية، بل ظل يتعايش لديه ايمان متواصل بالدين بمعناه التقليدي والماورائى مع ممارسة علمانية تفرضها التكنولوجيا والاكتشافات العلمية. هكذا توجب الاعتراف بواقع مفارق يتجاور فيه الشعور الديني والانخراط العلماني جنبا الى جنب دون أن يعني أحدهما زوال الآخر، ولا حتى اضمحلاله.
فرض هذا الواقع المفارق نفسه على المراقب السوسيولوجي بصيغ عديدة. فقد لوحظ أن الممارسات التقليدية المعهودة في التدين الجماهيري أو الايمان الشعبي، من الصلوات الجماعية الى الاحتشادات الدورية ورحلات الحج وزيارة مراقد القديسين لم تختف مع تراجع المجتمع الريفي الذي كان يعتبر مصدر& هذه الممارسات ودعامتها. لوحظ أيضا أن هذه القناعات والممارسات ليست محصورة بالشرائح الفقيرة والمهمشة من المجتمع الغربي. بل تجد في ميادينها قطاعات عريضة مندمجة اجتماعيا ومهنيا. ان الكثير من المعلمين والوسطاء الثقافيين يمارسون هذه العودة الى الجذور المحلية ويجدون في الايمان المستعاد سبيلا الى تحقيق هويتهم. وهم أنفسهم من نقابل في ما يدعى بالحركات الاجتماعية الجديدة.
الذي يلاحظه المراقبون للمجتمعات الغربية منذ سبعينيات القرن العشرين هو أن المجتمع لم يكتف بنقل الحساسية الدينية من مجال الديانات المعروفة الى نطاق الممارسات الجديدة المدعوة بالعلمانية، بل ظل يتعايش لديه ايمان متواصل بالدين بمعناه التقليدي والماورائى مع ممارسة علمانية تفرضها التكنولوجيا والاكتشافات العلمية. هكذا توجب الاعتراف بواقع مفارق يتجاور فيه الشعور الديني والانخراط العلماني جنبا الى جنب دون أن يعني أحدهما زوال الآخر، ولا حتى اضمحلاله.
فرض هذا الواقع المفارق نفسه على المراقب السوسيولوجي بصيغ عديدة. فقد لوحظ أن الممارسات التقليدية المعهودة في التدين الجماهيري أو الايمان الشعبي، من الصلوات الجماعية الى الاحتشادات الدورية ورحلات الحج وزيارة مراقد القديسين لم تختف مع تراجع المجتمع الريفي الذي كان يعتبر مصدر& هذه الممارسات ودعامتها. لوحظ أيضا أن هذه القناعات والممارسات ليست محصورة بالشرائح الفقيرة والمهمشة من المجتمع الغربي. بل تجد في ميادينها قطاعات عريضة مندمجة اجتماعيا ومهنيا. ان الكثير من المعلمين والوسطاء الثقافيين يمارسون هذه العودة الى الجذور المحلية ويجدون في الايمان المستعاد سبيلا الى تحقيق هويتهم. وهم أنفسهم من نقابل في ما يدعى بالحركات الاجتماعية الجديدة.
انتشار الحركات الأصولية في الأوساط البروتستانتية
لوحظ كذلك أن الشعور الديني الفردي صار يطرح نفسه في الميدان العام ويكتسي صبغة جماعية مستعادة لا في مجتمعات لم تنتشر عليها أنوار الحداثة بما فيه الكفاية، بل حتى في مجتمعات تظل هي نفسها رائدة الحداثة وتساهم في صنعها الى حد بعيد. فعندما ننظر الى انتشار الحركات الأصولية في الأوساط البروتستانتية في الولايات المتحدة الأمريكية بعدما بقيت قابعة طوال أربعين عاما خارج المعترك السياسي، لا يسعنا حقا القول أنها ظاهرة محصورة بشرائح فقيرة متشبهة بالحداثة. انها ظاهرة فريدة نرى فيها الى تدخل الدين في القرار الاجتماعي والسياسي انطلاقا من منظورات تتعلق تارة بالهوية وتميل طورا الى تأكيد فوارق عرقية مزعومة ولكنها تنطلق في أحيان أخرى من خوف معمم وبحث عن عالم ثابت وسرمدي به يواجهون عالما فرضت عليه الاستحداثات التكنولوجية ايقاعات متغيرة ومذهلة في سرعتها.
الحداثة خرجت المجتمع من سيطرة المؤسسة الدينية، ولم تتمكن من اخراج الفرد من الايمان الديني
هكذا نجد أنفسنا بعيدين عن أيديولوجيات الحداثة التي واصلت طوال ثلاثة أرباع القرن التفكير بامكان الخلاص العقلاني واستقلالية الذات وامكان حصر الشعور الديني في حدود فردية. بمجرد أن اتضح أن الحداثة تتميز بالقلق لا بالتطامن المتسمر، وبالبحث الدائم عن المشروعية في واقع متعرض في كل لحظه الى هزة المستجدات والمبتكرات، صار يلزم طرح مسالة الشعور الديني على نحو آخر.
لكن هذا لا يعني أن الحداثة العلمية والفكرية وممارستهما انطلاقا من أفق علماني لم يؤثرا على أشكال الايمان أو على شاكلة اعتناق التجربة الدينية. فالملاحظ الآن هو عودة واسعة الى التجربة الدينية لم تعد تمر بالمؤسسات القديمة، من كنائس وسواها، التي نعرف أنها صارت شبه مهجورة من قبل أتباعها. بل يتخذ الشعور الديني المستعاد صيغة جماعية أكثر تنوعا ومرونة. صار يمر بحركات دينية جديدة ومجاميع للتفكير الديني تتعايش مع الحركات الايكولوجية أو البيئوية وتستوعبها أحيانا. بهذا المعنى يمكن الكلام لا عن عودة للدين وانما عن رجوع للشعور الديني. الكلام لا عن عودة للمؤسسة الدينية، بل عن انتعاش متزايد للحركات الدينية. وبهذا المعنى يمكن القول أن الحداثة تكمنت من اخراج المجتمع من سيطرة المؤسسة الدينية، لكنها لم تتمكن من اخراج الفرد من الايمان الديني وقد لن تتمكن من ذلك كليا أبدا. وبدورها، لم تبق المؤسسة الدينية بمعزل عن هذه التطورات التي أجبرتها على اعادة التفكير بممارستها نفسها. صارت توجه نصائح أكثر& مما تطلق أوامر وتعليمات، ولم يعد يهمها فرض معرفة دينية على الفرد بقدرما تسعى الى تعزيز الشعور الديني عنده.
لكن هذا لا يعني أن الحداثة العلمية والفكرية وممارستهما انطلاقا من أفق علماني لم يؤثرا على أشكال الايمان أو على شاكلة اعتناق التجربة الدينية. فالملاحظ الآن هو عودة واسعة الى التجربة الدينية لم تعد تمر بالمؤسسات القديمة، من كنائس وسواها، التي نعرف أنها صارت شبه مهجورة من قبل أتباعها. بل يتخذ الشعور الديني المستعاد صيغة جماعية أكثر تنوعا ومرونة. صار يمر بحركات دينية جديدة ومجاميع للتفكير الديني تتعايش مع الحركات الايكولوجية أو البيئوية وتستوعبها أحيانا. بهذا المعنى يمكن الكلام لا عن عودة للدين وانما عن رجوع للشعور الديني. الكلام لا عن عودة للمؤسسة الدينية، بل عن انتعاش متزايد للحركات الدينية. وبهذا المعنى يمكن القول أن الحداثة تكمنت من اخراج المجتمع من سيطرة المؤسسة الدينية، لكنها لم تتمكن من اخراج الفرد من الايمان الديني وقد لن تتمكن من ذلك كليا أبدا. وبدورها، لم تبق المؤسسة الدينية بمعزل عن هذه التطورات التي أجبرتها على اعادة التفكير بممارستها نفسها. صارت توجه نصائح أكثر& مما تطلق أوامر وتعليمات، ولم يعد يهمها فرض معرفة دينية على الفرد بقدرما تسعى الى تعزيز الشعور الديني عنده.
عرض كاظم جهاد
التعليقات