يبدو المشهد العام في مصر الآن؛ الربع الأخير من عام2005 بعد أسابيع من الانتخابات الرئاسية، و قبل أسابيع أخرى من الانتخابات البرلمانية، أقرب بمرجل يغلي، يحيط به الجميع، هذا ينفخ في النار و هذا يحاول إطفاءها، وذاك يجلس متربعاً و قد جاء بمغارفه و أطباقه منتظرا نصيبه من الوليمة، لكن هل هناك بالإناء ما يستحق ؟.
(1)
هناك فقط الكثير من العمل و الجهد المطلوب إيفاؤه، لا زال الطريق طويلاً لمن يرغب حقاً في العمل الجاد صوب مصر ديموقراطية، على غير ما يريد المنتظرون ممن تصوروا أن مجرد أحاديث للفضائيات و قيام تظاهرات-وهي أمور هامة في توظيفها و ليس في ذاتها - لهو أمر كافٍ لتغيير أي نظام حاكم، أما من يبالغ في تصوير المكاسب المتحصل عليها مؤخرا، و التي أتت ابتداء من تراكم أعوام نضال القوى الوطنية المصرية ضد النظام الحاكم، و آخرها العام الماضي اضطلع فيه بجهد واضح الحركة الشعبية و حركة شباب و الحملة الشعبية (و كلهم من أجل التغيير) و غيرهم بفعاليات متفاوتة أبرزها التظاهر بأنواعه، إن من يبالغ في حجم المكاسب التي حصل معارضو النظام المصري عليها عبر عام عليه أن يعيد حسابه، أو يعترف بأن هذا الحد هو أقصى ما كان يحلم به، هناك قطعا مكاسب عدة تم اقتناصها من فم النظام كالحق في التظاهر مثلاً،لكن الحكم بالمحصلة النهائية للمعركة ضد النظام ينتظر نقاطاً أكثر و أثمن لنعرف من فاز و من هُزم ؟
و لنبحث تقييماً في أكبر هذه المكاسب، على الصعيد القانوني جرى مثلاً هذا العام تغيير في مادة بالدستور المصري تتعلق بطريقة و ضوابط الترشح لمنصب رئيس الجمهورية؛ إذ نقل المشرِّع القيود القديمة على هذا الحق من شكل لآخر، فبدلا من اشتراط موافقة ثلثي نواب البرلمان على المرشح صار هناك شروط أخرى أقل لكن تبقى "تعجيزية" بالأخص للمستقلين من غير رؤساء الأحزاب (في بلد بها أكثر من 21 حزبا معظمهم بما فيهم الحزب الوطني لا يعلم سواد الشعب عنهم الكثير).
أما الطريقة التي تم بها تمرير الاستفتاء الشعبي على هذا التعديل فهي تكرار لما يقوم به الحزب الحاكم منذ عقود من "تقفيل للأصوات" و هو نوع خاص من التزوير حيث يقوم النظام بالتصويب نيابةً عنهم اعتماداً على أشهر صفات الحياة السياسية بمصر و هو انخفاض المشاركة الشعبية، و التي لم يعطها المطالبون بالتغيير العناية الكافية مركزين جهدهم للعب ضد النظام مخاطبين إياه باسم الشعب و مطالبين بإصلاحات لصالح هذا الشعب.
كما أن ما حدث يوم الاستفتاء على تعديل هذه المادة الدستورية من تهجم علني لعناصر محسوبة على النظام الحاكم على معارضين للاستفتاء (و هذا لا يعني أن مثله و أفظع منه بمراحل لا يحدث بصورة يومية في كثير من أقسام الشرطة و المعتقلات المصرية) ترك أثرا قوياً أن هذا النظام لا يأبه بأحد، و لا حتى بستر عوراته أمام الإعلام الغربي الذي صور قيام منتسبي الحزب الحاكم بهتك أعراض نسوة و فتيات مصريات في الطريق العام- فيما عرف إعلاميا بالأربعاء الأسود، بل و جرت بعض هذه الانتهاكات أمام صروح حقوقية هي نقابتا الصحافيين و المحامين و نادي القضاة، و لا يمكن فهم هذا القمع العلني الذي تكرر لاحقا بعد 3 اشهر إلا بالضد من تصور بعض الحالمين أن النظام المصري الحاكم يسعى لتجميل وجهه للمتابع الغربي، و أن علينا-أفراد و جماعات مهتمين بالتحول الديموقراطي بالبلاد- التعويل على هذا الهاجس لديه و استثماره، و هذا مطلوب لكنه ليس فاعلا بمفرده؛ فنحن نتعامل مع نظام لا يخجل بالقدر الذي تتصورونه،و هو قطعا لن يكرر قمعه العلني لمعارضيه بنفس السيناريو لكنه لن يعدم وسيلة طالما أمن أن الكاميرات ليست مصوبة عليه.
لا يمكن أن يفهم هذا التعديل الدستوري أيضاً على كونه رغبة صادقة في الإصلاح، و من ثم علينا دعم الجناح الإصلاحي بالنظام كما ينادي بعض المعارضين الآن، ببساطة:حدوث تعديل الدستور المصري بالشكل الذي تم به يعني سقوط افتراض أن النظام قام متواضعا ليراجع نفسه؛ فالتعديل الذي تم لم يكن لحسن نية النظام، بل هو حق ينسب للضغط الدولي الممارس عليه- نقول عليه و ليس بالضرورة أن يكون ضده، ينسب هذا التعديل أيضاً لعشرات السنين التي ناضل فيها ساسة و ناشطون معارضون للتسلط و الديكتاتورية، لكن أيا من هؤلاء لم يتبنى التعديل بصيغته الحكومية لأنه أقل مما يرفعونه من مطالب، و لأن أحدا لم يستشرهم قبل أن يفجر مبارك مفاجأته بالدعوة لتعديل مادة الدستور مقتنصا شرف المبادرة لنفسه، ليبدو بمظهر المتفضل الحكيم، و مرة ثانية لم تنطلي الخدعة على أحد؛ فلو كان ما ألقاه الرئيس المصري للشعب يستحق أو يلاقي قبولا، لما سعى لفبركة و تزوير تأييد شعبي لتعديله الأعرج للدستور؛ فنسبة المشاركة حسب تقرير نادي القضاة المصري لا تتعدى الـ 3%، و نحن نصدق هؤلاء و لا نصدق النسبة التي أعلنتها وزارة داخلية النظام 53% المختارة بعناية (أكثر من النصف)، ثم يناقض النظام نفسه بالإعلان عن تصويت ما نسبته 23% فقط من الناخبين في الانتخابات الرئاسية،فكيف يتحمس نصف الناخبين المصريين لتعديل الدستور، ثم لا يكلفون أنفسهم بالخروج للتصويت وفقا للنظام الانتخابي الجديد الذي أعطوه أصواتهم قبل أشهر في استفتاء.
(2)
سؤ إدراك بعض الداعيين للتغيير لطبيعة العلاقة بين النظام المصري الحالي و أمريكا يجعلهم يهللون تارةً لتصريحات كوندليزا رايس و بوش الشاجبة لانتهاكات و قمع المتظاهرين الأربعاء الأسود، و لكن عندما يكرر النظام الأمر ذاته في تظاهرة السبت 30تموز2005 ضد متظاهرين خرجوا اعتراضاً على ترشيح مبارك لنفسه، و لا يعترض مسئول أمريكي على قمع المتظاهرين، تعود الأصوات ذاتها للصراخ قائلة "إن أمريكا تتحالف مع النظام"، و كأنهم اكتشفوا هذا لتوهم، ثم بعد 3 أيام من قمع هؤلاء المتظاهرين، و عندما يخرج سكرتير ثانٍ أو ثالث في الخارجية الأمريكية ليدين الانتهاكات، تحتج الأصوات نفسها على ضآلة رتبة هذا المتحدث الأمريكي، و على تأخر أمريكا في الاستنكار و الشجب!!.
في الحقيقة يمكن استيعاب هذه النقطة مع أمثلة أخرى عندما نفهم عدم وجود إطار نظري أو حتى منهج عمل لدى بعض الناشطين في العمل المعارض بمصر، يجعلهم يعارضون النظام دون قدرة على تشخيص هذا النظام و معرفة طبيعة تناقضاته الداخلية و الخارجية، و من ثم يخطئون كثيرا في التخطيط لما من شأنه تغيير النظام، مثلما يعجزون أحيانا عن توقع مسار الأحداث بالبلاد و ردود فعل النظام أو موقف دوائر في المحيط الإقليمي و الدولي؛ لو نظرت لأدبيات الكثير من المعارضة بالعالم العربي مثالا لوجدتها تقوم ابتداء بتشخيص النظام الذي تختلف معه، هل هو فاشي أم قمعي أم عنصري الخ،هل قابل للإصلاح من داخل؟ هل هو يعمل لصالح القوى الدولية أم يعمل لصالح نفسه ابتداء و يخدم بأخطائه و استبداده مصالح القوى الكبرى سواء بالمنطقة أو بالعالم؟هل النظام متمركز حول أشخاص و بالتالي فإن الإطاحة بهؤلاء الرؤوس كافية لإصلاح الأمور، أم أن الفساد نخر حتى العصا التي نتكيء عليها..الخ.
إن توصيف النظام الدائر ضده الصراع بدقة هو الذي جعل الحزب الشيوعي العراقي مثلا يختار بالثمانينات النضال بالجبال-حركة الأنصار- ثم في فترة أخرى ينتقل للنضال السلبي، تشخيص طبيعة النظام السوداني و محيطه الإقليمي و تناقضاته الخارجية و الداخلية هو الذي جعل العمل العسكري في قطاعات بشرق و جنوب البلاد مقبولا في فترة و مرفوضا في أخرى.
هذه الأمور غائبة مصرياً عن تفكير البعض - و المفترض أن تشغل مساحة كبرى من تفكيرهم قبل رفع أصواتهم بالمعارضة؛ لأن تحديد الخصم أساسي لمعاداته و هام لتحديد قواعد اللعب ضده، لكن الأعلى صوتا لم يبذلوا القدر الكافي من التفكير في هذه النقطة، نحن نثق تماما في وجود معارضين مبدئيين لنظام مبارك،و أن شكاواهم من التسلط و الفساد صادقة، لكن هذا مجرد جانب من الصورة،أي مجرد توصيف لعرض و ليس تشخيصا للمرض،و الحل أو العلاج المتوقع يفترض أن يأتي شاملا، لا يترك أخطاء دون إصلاحها و لا مساحة لانقلاب مضاد من الفئة المتحكمة في عهد مبارك مستغلين معطيات داخلية أو علاقات إقليمية أو دولية لم ينظر لها المعنيون بالتغيير بجدية كافية.
(3)
المواطنون، و هم المعنيون أساساً بخطاب التغيير بمصر و الجمهور الحقيقي لسلة المطالبات و الاعتراضات للقوى السياسية المعارضة بمصر،ليس لهم الدور الكبير المفترض في عمل أحزاب و حركات المعارضة بمصر،راجع مثلا أعداد أعضاء الأحزاب المعارضة بمصر عبر سنوات عشر لتكتشف تراجعا خطيراً، أما التظاهرات بدءً من أول تظاهرة جرت بالشارع ديسمبر الماضي دون إذن من السلطات المعنية و ما تلاها من تظاهرات خرجت تتحدث باسم الفقراء و المقموعين فقد ركنت طويلا في أماكن لا يرتادها هؤلاء، أو أمام هيئات ذات صلة بنزاع المعارضة مع النظام الحاكم،كمجلس الشعب أو دار القضاء العالي، لتمنعهم قوى الأمن فتتحول التجمعات إلى مقر نقابة الصحافيين،لاحقاً و بفعل آراء البعض الأبعد نظراً و بسبب حماس شباب من أجل التغيير انتقلت تظاهرات معارضة النظام للأماكن التي يفترض أن بها جمهورها الحقيقي، كالمناطق الشعبية مثلا، المدهش قبل هذه الانتقالة المحمودة بقليل أن قرأت مطالبة البعض من محبي التظاهر للسلطات المصرية بإغلاق شارع عبدالخالق ثروت بوسط القاهرة-حيث مقرات نقابتي المحامين و الصحافيين و نادي القضاة- للتظاهر فيه،و حيث يواجهك فقط مبنى مدرسة خاصة،و.... فراغ سرمدي لا شبابيك و لا شرف يطل فيها أحد عليك، مثل هذه المطالب الغريبة بسقفها المنخفض تجعلك تسأل: لمن سيوجه هؤلاء هتافاتهم إذن؟
نقطة أخرى يلمسها المراقب لأجندة الحركات المطالبة بالتغيير بمصر، و هو غلبة المطالبة بالحقوق المدنية و السياسية على ما عداها و نخص الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فحسب طبائع البشر لا تملك أن تستصرخ المواطن للمشاركة السياسية و الإدلاء برأيه في الشأن العام، و أن صوته يسرق لصالح الحزب الحاكم، هذه أمور لا تشغل مساحة متقدمة في وعي المواطن البسيط – غير المسيس بحكم المعطى التاريخي – و المنتهكة حقوقه الأساسية كحق السكن و العمل الخ، كما أن ذروة انخراط المواطن المصري عبر التاريخ في قضايا العمل السياسي كان يترافق معها غالباً "القضية الوطنية" كاحتلال لكل أو جزء من تراب البلاد، أو تيقن المواطن بصورة تامة أن الحاكم يعمل لصالح دولة أخرى، مصرياً: لا تستطيع أن تقول ذلك الآن على مصر بصورة مباشرة،لدينا سيادة على إقليم الدولة، صحيح هي في أماكن منها سيادة غير مكتملة لكنها مرتبة قانونياً و لم تصل الأمور للقول أن جزءً من بلادنا محتل، كذلك فإن الحاكم يعمل بما تستفيد منه قوى أجنبية، لكن لا تستطيع أيضا القول بثقة أنه يعمل فلصالحها "ابتداءً " و لصالحها فقط، إلا لو توافرت لك الأدلة على هذه الصفقات و امتلكت القدرة للإعلان عنها لشحذ المواطن، إذن الظرف المهيء- القضية الوطنية- لانخراط المواطن المصري في الشأن السياسي غائباً بصورة ما.
هناك ظرف آخر يتحرك فيه المواطن بمصر و هو وصول الأمور الحياتية اليومية لدرجة خانقة له بحيث يخرج مطالبا بالتغيير، تغيير النظام أو فقط تغيير الأوضاع الاقتصادية العسيرة، لكن ليس هناك معرفة يقينية بدرجة الغليان و النقمة على الأوضاع ننتظر عندها أن يتحرك المواطنون، خاصة أن الاقتصاد الموازي و "التحايل على المعايش" يقوم بمصالحة المواطن على أوضاعه الاقتصادية المتدنية، و أن ميراثا ثقافيا يشجع لحد كبير على التأني حتى في الثورة على الظلم، بالإضافة لأن الهبات الشعبية في مثل هذه الظروف إما أن تشوه أو تُخمد بضراوة، أو يتلاشى أثرها كما في انتفاضة 1977 إذ لم تتبناها قوى متفهمة لمطالب هؤلاءو أمينة عليها، علينا ألا ننتظر فقط مثل هذه الظروف، و أن ندفع المواطن المصري لمزيد من الوعي و المشاركة، البسطاء و المهمشون هم الوقود الحقيقي لحركة تغيير تتكلم باسم الشعب طالما أن غالب الشعب يعيش حياة تعسة ملؤها البطالة و القمع، أي حزب أو حركة تشفق على نفسها من تعب الوصول للمواطن العادي تستحق على الفور أن تحوذ لقب كيان نخبوي و لتتوقع لنفسها قريبا الموت السياسي، فالدعوة للمقاطعة الانتخابات مثلاً مفهوم منطقها أن هذه الانتخابات تمت وفقا لاستفتاء مشكوك في صحة نتائجه، لكن الدعوة للمشاركة وإبطال الصوت الانتخابي كانت أفضل لتفويت الفرصة على النظام لإظهار مبارك بأنه فاز مكتسحاً، الدعوة لرفع قضايا ضد الجداول الانتخابية لوجود أخطاء بها أو أسماء مكررة أو أسماء لمتوفيين أمر جيد و مطلوب، لكن الأكثر فعالية هو دعوة المواطنين للحصول على بطاقاتهم الانتخابية - خاصة أن موعد هذا الإجراء يبدأ في الشهرالقادم- ليفوتوا على النظام استغلال غيابهم الدائم في استخراج بطاقات يصوت بها موظفو الحكومة لمرشحي الحزب الحاكم في الانتخابات النيابية القادمة.
لا يمكن التذرع أن حركات التغيير تسعى لمجرد تحريك الراكد، و لا يمكن أن يبقى برنامج التغيير هو التغيير في ذاته، فليس أصعب من الإشارة للخطأ إلا عدم تقديم البديل المكتمل الأركان والمعتقد في صوابه، و إلا كانت النتيجة فوضى عارمة- رجاء تذكروا الحاصل بالعراق، و كيف كان واردا تجنب كثير منه لو أن حكومة منفى وطنية على الأقل شكلت قبيل إسقاط النظام، أحيل لمقولة شكسبير"كنت أعلم جيدا ما الذي سيتهدم لكنني لم أعلم قط ما الذي سيقوم فوق هذه الأنقاض" أو شيء من هذا القبيل!.
الساحة السياسية في مصر الآن مفتوحة للجميع، لم تعد هناك حجة لأحد بعدم المشاركة في الزخم الحاصل بالبلاد، مثلما لم يعد الغطاء القانوني أو الحزبي شرطا للعمل السياسي، و تبقى المشاركة الشعبية هي كلمة الحل السحرية لكثير من مشاكلنا، و التي مع ذلك يخاصمها البعض ممن دأبوا على الحديث باسم الشعب ربما إشفاقا على أنفسهم من متطلباتها أو تبعاتها، تموج البلاد بلحظة تاريخية قد لا تتكرر، تملي علينا جميعاً مراجعة ونقد أنفسنا، فلم يعد هناك وقت لمزيد من الأخطاء.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات