تاريخ طويل من التفسير المؤامراتي لكل تفاصيل حياتنا العربية، فقد صُمت آذاننا طيلة خمسين عاماً وأكثر من ترديد نظرية »المؤامرة« المقيتة، حينما وجدت بها معظم الأنظمة العربية ضالتها للتواري عن خيباتها أمام شعوبها وصارت تنأى بنفسها عن كل ما صنعت يداها ليصبح تاريخنا كله
مؤامرات، وصرنا مستهدفين من العالم والحضارات الأخرى.

كل الأحداث الجسام التي واجهتها الأمة العربية هي مؤامرات بدءاً من نكسة 67 إلى الحرب الأهلية في لبنان مروراً بالانقلابات العسكرية وإسقاط بعض أشكال الحكم المدني في بعض البلدان العربية إلى
الحرب العراقية الإيرانية وغزو الكويت واحتلال العراق واغتيال الحريري، ناهيك عن جملة من التصفيات والاغتيالات لشخصيات سياسية ونخبوية في بعض العواصم تحت دعاوى قطع دابر التدخل الخارجي وإخماد بؤر الفتن الداخلية وحماية المجتمعات من الاختراقات الأيديولوجية!

والأنكى من ذلك لجوء النظام الرسمي العربي إلى تأجيل المشروع الديمقراطي وإعلاء القيم الشمولية خلال السنوات الماضية تحت مزاعم التفرغ لمناصرة القضية الفلسطينية ودعم الفكر القومي التحرري!
خمسون عاماً والمواطن العربي محروم من حقوقه الديمقراطية والسياسية والاجتماعية في مواجهة أنظمة استبدادية قمعية استمرأت الحكم الفردي التسلطي لسنوات طويلة.
التخلف السياسي والاجتماعي والمعاناة الاقتصادية وانتشار البطالة يجري تحميلها صباح مساء لمؤامرات خارجية تستهدف كينونة الأمة وتاريخها المضيء، شيء عجيب ذلك الأمر، وكأننا بذلك نلغي وجودنا وإرادتنا وإمكانياتنا الجبارة البشرية منها والمادية ليصبح معها الوطن العربي متلقياً للأوامر من الخارج ويدار بالريموت كنترول وفق ذات النظرية.
نظرية المؤامرة »Conspiracy Theory« ببساطة هي عدم تفسير الأمور حسب المعطيات الواقعية والمنطقية المتوفرة أو المستنتجة وتفسيرها على أساس أنها من فعل شخص أو جهة منافسة
تبقى دائماً محصورة بفكرة يحملها معه في كل وقت.وقد يقع بعض الحكام أو الأفراد أو ربما
شعوب بأكملها تحت تأثير هذا الفكر أو هذه النظرية عن قصد لتثبيت أمرهم وتبرير أخطائهم أو عن غير قصد لقصور في تركيبة شخصيتهم أو طريقة تفكيرهم وتحليلهم للأمور.

لقد كُتب الكثير عن الوعي الخرافي عند العرب وعن تعلقهم بنظرية المؤامرة، وعن ميولهم الطفولية إلى إنكار مسؤوليتهم، ولأن عقلية المؤامرة حاضرة في الثقافة، كما هي في السياسة فنحن نميل إلى تصديق أي كلام يقال دونما إثبات أو تمحيص طالما أنه يلاقي هوى في النفس.
في بعض البلدان العربية ذات التجارب الديمقراطية الناشئة أو بالأصح ذات النظم الديمقراطية الشكلية أو »التجميلية« تجري عملية تزوير الانتخابات على مرأى ومسمع من العالم .ويتم تحدي إرادة الناخب وسلب حقوقه السياسية والمجتمعية بزعم حماية المجتمع من وصول المغرضين والمشبوهين والمتطرفين إلى البرلمان وتفويت الفرصة على مؤامرة ضرب الوحدة الوطنية وتحقيق مرامي
الأجنبي!وهكذا نجد سيناريو حياتنا اليومية يدور في إطار من القهر والرفض الرسمي ويتم سلب حقوق الإنسان تسطيح أفكار عامة الشعب وشغلهم عن قضاياه، ومعاناتهم اليومية في كلام كبير عن مؤامرات الخارج واستهدافاته، وطبقاً لهذا المنطق، وهذه الفلسفة العجيبة، يجري تعطيل كل الفرص المتاحة لإصلاحات حقيقية تبدأ بالاعتراف بالآخر واحترام آدمية البشر ومنحهم حقوقهم وتنتهي
ببناء أوطان على أسس علمية صحيحة تعلي من شأن العلم والمعرفة وتقوم على التحديث والعصرنة وتعظيم الممارسة الديمقراطية الحقة التي تؤكد على المواطنة المتساوية والمشاركة الشعبية ودعم التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

في الغرب والدول المتقدمة عموماً يبدو المشهد مختلفاً تماماً، حيث يتجلى التداول السلمي للسلطة بأبهى صوره وتمارس منظمات المجتمع المدني أنشطتها بكل حرية وتعمل مؤسسات الدولة بكل شفافية في ظل علاقة متوازنة بين الحاكم والمحكوم تستند إلى قوانين وتشريعات واضحة لا لبس فيها، في أجواء كهذه لا وجود لنظرية المؤامرة ولا داعي لها لأن حيثيات المعادلة سليمة.

صالح القاضي
* صحافي يمني - دبي