يأتي العام الجديد وقد تزيّن لبنان بحلل جديدة ليست كلها حزن وبؤس وشقاء، ولو أن أجواء هذه لا تزال تخيّم عليه لتمنع الفرحة من أن تكتمل والأمل من أن ينطلق.

يأتي العام الجديد هذه السنة وقد فقد لبنان من أركانه رئيساً من الحالمين بالتطور، والعاملين بالبناء، والمنفتحين على الغير في الداخل والخارج. وقد قضت عليه أيادي المحتل وزبانيته بالوسائل التي تعرفها جيداً، ولا تعرف غيرها، ليضاف إلى قائمة المجد التي ضمت قبله زعماء ورؤساء، علماء دين ودنيا، بينهم أهل القلم.

يأتي العام الجديد وقد تحلى لبنان بالاستقلال والتخلص من الوصاية quot;الشقيقةquot; التي أحكمت القبض عليه وعلى طموحاته أكثر من ثلاثة عقود متتالية، فسجنت وأبعدت وقتلت زعماء وأحرار ومنظورين. وقد خرج الشعب رافضاً الاستمرار في الرضوخ، مطالباً برحيل المحتل، مستنداً إلى دعم دولي رافق مسيرته لأول مرة منذ عقود. ولكن رواسب الاحتلال في النفوس وبقايا العملاء المزروعين هنا وهناك استمروا بالعمل لمنع الوحدة وتهديد الأحرار وكم أفواههم.

يأتي العام الجديد وحلم لبنان لم يكتمل بالسيادة الشاملة حيث ساهم قصر نظر ترافق مع مصالح محدودة، كالعادة، في ضرب الرؤية المستقبلية وكبح جماح الطموحات لتراوح الحال، كما في السابق، وتتغير بعض الأسماء فقط، وينتشر من جديد خوف على المصالح لا على الوطن، وعقم في الرؤى، ومحدودية في التعاطي مع الطروحات الكبرى ومشروع الدولة الناجزة، في شرق يتخبّط بين أنظمة النظرة الواحدة المفروضة بالقوة، أو فوضى الإرهاب الشامل المتأصل في الرجعية والتخلف، والحالم بالسيوف والدماء، وأمجاد ماض لا يزينه سوى الحقد والانغلاق.

يأتي العام الجديد بانقلابات شتى في المواقف والتحالفات، ولكنها تقصّر كلها عن أحلام الناس بالطمأنينة والاستقرار ونهاية المآسي، ولا تزيد المعهود سوى يأساً أكبر بالرموز الوطنية والعاملين بالسياسة، أكانوا من المنتخبين طوعاً أم من المفروضين على الناس، بفضل أخطاء زعماء، وجبانة آخرين، وغباوة بعض العامة التي تعودت الولاء دون السؤال، والمبايعة دون الانتقاد.

يأتي العام الجديد ليفرض حقيقة واحدة وهي أن الوطن الكبير بقدرات بنيه وتاريخ التحرر فيه تعوّد زعماؤه ذل التبعية والانصياع إلى الغير، وهم لا يرون الخروج من سلطة محتل إلا للدخول تحت سلطة آخر، وكأنهم نسوا معاني الاستقلال والعزة واستغربوا أن يعطوا حرية القرار وحق الاختيار والتعاطي مع الآخرين والتعاون بكرامة ومساواة.

يأتي العام الجديد ليصبح القاضي الألماني ميليس الذي كان نجم العام الماضي في التفتيش عن quot;الحقيقةquot; خارج اللعبة الحقيقية، وبدل أن يهدد نظام دمشق لأفعاله السيئة وماضيه الدموي، يهدد كيان لبنان ووحدة بنيه. وبدل أن يسأم اللبنانيون الحروب وما تجره، يدخل عنصر جديد الساحة الفالتة ليقصف بالصواريخ ويقابل بالطيران، وكأن لبنان كان ينقصه الزرقاوي ليكتمل النصاب في جماعة الإرهاب.

يأتي العام الجديد، ويا ليته لا يأتي، لأننا خسرنا الدعم الدولي، والعربي أيضاً، وخسرنا الوحدة الوطنية ووضوح المطالب، وخسرنا الرهان على سقوط نظام دمشق، وخسرنا وهرة الدولة، ولم نعرف أن نستغل فرصة غضب العالم والشعب على سلاخينا، لنبني حصناً منيعاً، ودولة قادرة، تقبض وحدها على مفاتيح الأمن، وتقينا الشر متى تألب علينا من جديد، ولم نبن رؤية واحدة وصريحة للوطن، تحمينا من التشرذم، ولا يعكرها تكاذب ولا يضعفها استعلاء.

يأتي العام الجديد ولنا أكثر من دولة داخل الدولة، وأكثر من جيش داخل الحدود، وأكثر من توجه في الأمور الكبرى، وأكثر من اختلاف على المصير، وأكثر من جهاز أمني للتخريب لا للحماية. وهناك مناطق آمنة ومناطق مستهدفة، وهناك زعماء للاغتيال وزعماء للتهديد، وهناك أحزاب وتنظيمات تعلن الحروب والدولة والشعب يدفعان الفواتير. فإلى أين نحن ذاهبون؟

يأتي العام الجديد والحكم منقسم إلى شرائح متصارعة تذكرنا بأيام عنجر، حيث الأوامر تصدر من هناك للتفاهم وإلا فالطبيعي هو الانقسام والتشرذم، فهل انتقلت عنجر إلى دمشق وبقيت الأوامر نفسها والوضع عينه؟

فماذا يخبئ لنا العام الجديد؟

هل يخبئ لنا صراع فعلي أم تفاهم على تقاسم المناطق والسلطات؟ هل تعود الفيدرالية التي خرجت من التداول مع تجمّع اللبنانيين حول الاستقلال، أم أنه ممنوع على اللبنانيين الحلم بالسلم والاستقرار؟ هل يخبئ لنا عودة إلى الصراع الإقليمي ودورة عنف جديدة تزينها الصواريخ والطائرات ويدعمها إرهابيو القاعدة بدل حزب الله، إذ قد يجد هذا الحزب نفسه محشوراً أمام مواطنيه والعالم وقد أصبح جزءا من الدولة فلم يعد مسموحاً له بالغلط الفاضح، ولذا فيجب الاستغناء عنه واستبداله بغيره للترحم عليه؟ أم أن لبنان الحديث الذي قام مع الدروز أيام فخر الدين، ومع السنة أيام رياض الصلح، سيقوم مع الشيعة هذه المرة، وسيمنع نصر الله أو بري، الزرقاوي وغيره، من العبث بالأمن، وسينظم البلد للكل وتوزع الحقوق للجميع، كيف لا وهم quot;شيعة الحقquot; يعرفون معاني الظلم، وقد عاشوا الحرمان، وقاتلوا في سبيل الوطن، ولن يفرّطوا به ولا بأمنه، ولن يقبلوا أن يعود إلى حالة الخراب، لا لأجل عيون دمشق ولا طهران ولا غيرهما من العواصم، وهم الأولى بقيادة السلم كما قادوا الحرب. وإذا كان العرب قد أجمعوا على وقف حالة الحرب مع إسرائيل وتوجهوا، وعلى رأسهم الفلسطينيون، إلى السلم فهم سيكونون أفضل من يفاوض كما كانوا أقدر من يقاتل.

هل هي أحلام أم تمنيات؟ وهل هي هواجس أم هلوسات؟ لا نستطيع أن نجزم اليوم ما يحضّره لنا الغد، ولكننا نعرف أن لبنان باق، لكل أهله باق، وبكل أبنائه باق ولن يقدر أحد منهم على التخلي عن واجبه لكي يبقى لبنان.

فكل عام وأنتم بخير، وبما أن ما تمنيناه في العام الماضي قد تحقق، من عودة الاستقلال إلى الربوع وعودة المنفيين والمسجونين إلى القيادة، نأمل في العام الجديد أن يعود لبنان الواحد القوي، والقادر على حماية أمن بنيه ووجهه المعتدل والمنفتح، ونظامه التعددي الديمقراطي الذي لا يقبل الغبن ولا القهر، والذي لا يقبل الاستعداء ولا الاستقواء، والذي تراثه محبة وعدل وانفتاح، وثقافته تنوع وتكتل وتعاون، أن يزين الشرق بنوره، ويساهم في استقرار العالم بحكمته وبخبراته في الصراعات وحلها.

فهل نترحم على عام شهدنا فيه عودة الاستقلال، ولكن ممزوجة بدماء خيرة أبنائنا، وغصة لعدم التفاهم على تقوية البلد، بدل التنافس حتى التقاتل في سبيل مزيد من التفرد والتشاوف، بينما الوطن يسير كسفينة في بحر هائج دون دفة أو ربان؟ أم أن العام الجديد سيزهر طرحاً جديداً يسهم في خلق تعاون وتفاهم بين اللبنانيين يؤدي إلى خلاص البلد وتقدمه وينهي عهد المزرعة التي، هي أيضا، بحاجة لعناية ودراية في زمن الانفتاح الدولي؟

الكولونيل شربل بركات

كندا - تورنتو 31- كانون أول- 2005