سيكون أرئيل شارون آخر رئيس وزراء من "الحرس القديم" المؤسس للكيان العبري،شارون واكب الاستيطان اليهودي في فلسطين منذ بداياته،وحمل السلاح وهو في الرابعة عشرة من عمره الذي يبلغ اليوم سبعا وسبعين سنة.

شارون الذي ارتبط اسمه بالعديد من المجازر والحروب وتكريس الاستيطان ورعايته،شارون المعروف بالبلدوزر الذي لا يتوقف عند أي حد،وصل وهو عجوز في خريف عمره إلى كرسي رئاسة الوزراء وبأغلبية كبيرة نسبيا،لقد تحقق حلمه في خريف عمره،علما أن بنيامين نتنياهو كان قد صرح مرة أن "مستقبل شارون بات وراء ظهره"!.

لم يدخر شارون جهدا أو أسلوبا لإخضاع الفلسطينيين و"كي وعيهم" وفق المصطلح المتداول في أروقة الدولة العبرية السياسية والإعلامية،جاءت فرصة توليه منصب رئيس الوزراء –وهو المنصب التنفيذي الفعلي في الدولة العبرية حيث أن منصب رئيس الدولة وهو حاليا موشيه كتساف هو منصب تشريفي- في بواكير انتفاضة الأقصى التي انطلقت شرارتها بسبب محاولته اقتحام المسجد الأقصى تحت شعار "رسالة سلام".

أثناء الانتفاضة صعد شارون من استخدام القوة ضد الشعب الفلسطيني وفصائله وقواه،ووعد بتحقيق الأمن خلال مئة يوم،وأعلن ان مصير تل أبيب يحدده مصير نيتساريم إحدى مستوطنات قطاع غزة،وكانت خسائر الفلسطينيين كبيرة وفادحة حيث اغتيل الكثير من القادة السياسيين والميدانيين(أبو علي مصطفى والشيخ أحمد ياسين و د.عبد العزيز الرنتيسي...) واستشهد الآلاف وجرح عشرات الآلاف،ودمرت آلاف المنازل،واقتلعت مئات الألوف من الأشجار،وانتشرت البطالة وعم الفقر،وعاد الفلسطينيون لاستخدام الدواب للتنقل عبر الجبال والوديان بسبب الحصار المحكم الذي أمر شارون بفرضه،وعلى الصعيد السياسي حصل شارون على تأييد لم يسبق له مثيل من رئيس الولايات المتحدة جورج دبليو بوش،وتم عزل رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات الحاصل على جائزة نوبل للسلام والضيف الدائم على البيت الأبيض خلال فترة حكم بيل كلينتون وحوصر في مقره حتى توفي في ظروف لا تزال غامضة!وأدرجت العديد من الفصائل الفلسطينية بما فيها الجناح السياسي لحركة حماس على لائحة "الإرهاب" الأمريكية، وشرع في بناء جدار الفصل في الضفة الغربية والذي التهم ولا يزال مساحات واسعة من الأراضي،وأصبحت القدس في بحر من المستوطنات والأحياء اليهودية.

لكن كل ذلك لم يوصل شارون إلى هدفه فلا الأمن تحقق ولا الشعب الفلسطيني رفع راية بيضاء،وتمكن المقاومون الفلسطينيون رغم محدودية إمكانياتهم وتواضعها من توجيه ضربات موجعة في قلب مدن تل أبيب والقدس ونتانيا والخضيرة وعسقلان،وطورت الفصائل المقاومة القذائف الصاروخية المصنعة محليا،والتي أمطرت بها مستوطنات قطاع غزة وبلدة أسديروت في النقب،ورغم أن تأثير هذه القذائف الصاروخية محدود إلا أنها أحدثت نوعا من توازن الخوف وأظهرت إمكانية تكيف الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية مع الظروف الميدانية لا سيما بعد بناء الجدار،وشهد الاقتصاد الإسرائيلي حالة ركود وتدهور،ولاحقت فضائح الفساد شارون ونجليه "عومري وجلعاد" وقررت النيابة أخيرا توجيه لائحة اتهام ضد عومري وهو عضو كنيست.

الانقلاب الكبير

شارون ظل منسجما مع نفسه ولطالما تفاخر بتربية والدته له على كره العرب وكيف أنها كانت تنام والبلطة تحت سريرها،وشارون هو أب الاستيطان بمعنى الكلمة،فالمستوطنون وجناح اليمين في إسرائيل اصطفوا خلفه وصفقوا له وباركوا أعماله وهجماته ضد المناطق الفلسطينية،كان شارون كما قلت من الجيل الذي أسس دعائم الكيان العبري عبر الاستيلاء على الأراضي وتنفيذ الهجمات على القرى الفلسطينية لبث الرعب في صفوف المواطنين الفلسطينيين لإجبارهم على الرحيل وهو ما حدث في الكثير من المناطق،بن غوريون وصف شارون بأنه ولد لطيف وجندي جيد،هذا الجندي كبر وكبرت معه الأهداف،لكن الزمن غير الزمن ففي الوقت الذي أصبح فيه شارون رئيساً للوزراء في إسرائيل كان الفلسطينيون قد بلغوا درجة من الوعي والنضوج والاعتماد على النفس واستحضار الدروس من التجارب المريرة وازدياد الصلابة عند شبابهم الذين ولدوا في عصر الاحتلال وذاقوا مرارة الإهانة من الجنود الاسرائيلين،فخسر شارون تماماً حلمه بكي الوعي أو الحصول على استسلام الشعب الفلسطيني بأساليبه المعهودة منذ شبابه،شارون ظل قوياً وأفلت من كل أفخاخ أحزاب المعارضة التي ضم أكبرها (حزب العمل) إلى ائتلافه الحكومي ونجا من كل المؤامرات داخل حزب الليكود وحصل على علاقات مع عدة دول عربية لم يستطع حتى قادة اليسار الحصول عليها.

ورغم ذلك كان الانقلاب الكبير في نهج الجنرال العجوز الذي كرس حياته لتوطين اليهود في أرض فلسطين التاريخية ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط وعزل وتشريد المواطنين الفلسطينيين سكان البلاد الأصليين، الانقلاب على مشروعه وعلى نهجه عبر إعلانه أولا ثم بدئه ثانيا بتفكيك مستوطنات قطاع غزة ورغم أن الاستيطان في الضفة سيتعزز وفقما صرح به شارون ووزير دفاعه موفاز ورغم عزل القدس وتطويقها بكتل استيطانية رهيبة،إلا أن تفكيك مستوطنات قطاع غزة يشكل انقلابا تاما في فكر شارون ومسيرة حياته،وهذا ما دفع جموع المستوطنين إلى اتهامه بالتخلي عنهم ووصمه حتى بالخيانة،فهو الذي شجع وسهل وحارب لكي يغرسهم في القطاع والضفة وهو الذي أخلاهم أخيرا بقوة الجيش والشرطة المدعمة بغطاء قانوني عمل على استصداره،علما بأن بعض المصادر أشارت أن هناك اتفاقا بين شارون وبين المستوطنين على أن يظهر الاخلاء بالصورة التي رأيناها،لكن الاخلاء ينم عن "كي وعي" شارون الذي أراد كي وعي الشعب الفلسطيني.

شارون الذي لا يظهر الانفعال مثل رابين،شارون يظهر التماسك وينفذ ما يدور في رأسه،شارون امبراطور إسرائيل ان جاز التعبير،وعندما اندلعت انتفاضة عام 1987(انتفاضة الحجارة) كان شامير هو الإمبراطور وهو أيضا من الحرس القديم ومرتبط بعصابة شتيرن وغيرها من التنظيمات الصهيونية التي شنت هجمات دموية ضد العرب والبريطانيين قبل تأسيس الدولة العبرية سنة 1948م،ورحل وهو الآن بين الحياة والموت،وخلف شامير رابين المقاتل في مجموعات البلماخ وصاحب سياسة تكسير العظام وهو وأيضا من الحرس القديم ليقتل على يد أحد غلاة اليمين،وخلف رابين بيرس الذي ظل خائفا ومترددا وخسر الانتخابات أمام نتنياهو سنة 1996م،ولم يكن نتنياهو الذي ينافس شارون اليوم على زعامة الليكود وبالتالي على رئاسة الوزراء من الحرس القديم وكان ائتلافه الحكومي ضعيفا وظل محاصرا من اليمين المتطرف ولم يتمكن من البقاء في منصبه أكثر من ثلاث سنوات،وتغلب عليه باراك صاحب الأوسمة العسكرية الرفيعة التي حصل عليها بسبب اشتراكه المباشر في اغتيال القادة الفلسطينيين في لبنان وتونس،وتمكن باراك من الخروج من جنوب لبنان كمنقذ للجيش الإسرائيلي من حرب استنزاف طويلة،ولكن مرارة الهزيمة كانت واضحة حيث أن الانسحاب من جنوب لبنان جاء تحت نيران حزب الله،باراك سلم الراية مرغما لشارون الذي ظل حتى اللحظة إمبراطورا بميزة واضحة وهي أنه الإمبراطور الأخير لدولة إسرائيل ولا نستطيع تحديد مصير الرجل،ولكن بالتأكيد نستطيع الجزم أن رئيس وزراء إسرائيل القادم أو من سيليه سيكون من "الصابرا" أي الجيل الذي ولد بعد قيام إسرائيل وسيشهد عهده (وعهدهم) انشقاقا وترددا وعجزا عن تحديد الرؤى والسير في خط معين،في الوقت الذي ستكون فيه الضحية الفلسطينية أكثر ثقة بالنفس ووعيا وتطورا...والله تعالى أعلم!

،،،،،،،،،،،،،،،،،

سري سمور

عضو تجمع الأدباء والكتاب الفلسطينيين

[email protected]

جنين-فلسطين