بحق يمكن إطلاق الطفرة الاقتصادية الثانية الغير متوقعة للدول الخليجية بارتفاع أسعار النفط الذي وصل إلى حد الآن 70 دولار و مرشح للارتفاع نتيجة ظروف سياسية و اقتصادية و طبيعية، و مختصون يتوقعون أن يصل سعر البرميل نهاية العام إلى 100 دولار.

ارتفاع سعر البرميل ليس مرجعه فقط المضاربات أو كوارث طبيعية كما أشيع مؤخرا و لكن في الأساس هو زيادة الطلب على النفط نتيجة النمو الاقتصادي في بعض الدول مثل الصين و اليابان و كوريا و الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا و أيضا التخزين الإستراتيجي عند بعض الدول تحسبا لأي طارئ، كذلك صعوبة إيجاد بدائل عن النفط في المنظور القريب رغم المحاولات من الدول الصناعية مما يجعل الحاجة ماسة على النفط في الخمسة و العشرين سنة القادمة على الأقل، مع نمو الاقتصاد العالمي و زيادة عدد السكان و الاستهلاك.

معظم دول الخليج العربي وضعت موازاتها على سعر يتراوح ما بين 18 إلى 25 دولار، و لنا أن نتصور الفرق في سعر البرميل الذي أرتفع إلى 70 دولار و تأثيره على ميزانيات دول الخليج العربي التي تمثل الثقل الأكبر في منظمة أوبك المصدرة للنفط، هذه الزيادة المرتفعة لم تكن متوقعة بهذا الحجم بالرغم من اهتمام منظمة أوبك في كبح جماح ارتفاع سعر البترول من خلال زيادة الإنتاج إرضاء للدول المستهلكة، و كأن الدول المستهلكة و بالذات الصناعية راعت الدول المنتجة للنفط في سلع ضرورية أخرى التي زادت أسعارها عدة أضعاف ما كانت قبل 25 سنة. على كل حال هذا لا يمنع من تحديد سعر متوازن يحفظ حقوق الدول المنتجة و الدول المستهلكة و ينبغي مراعاة دول العالم الثالث التي تستورد كميات كبيرة من النفط.

يبقى السؤال الأهم بالنسبة لدول الخليج العربي التي لم تستفد من الطفرة الاقتصادية الأولى من عام 1975 حتى بداية الثمانينات التي اتسمت بالأزمات و عدم الاستقرار بسبب إسرائيل و الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفيتي سابقا و حرب الخليج الأولى و حرب أفغانستان إلى غزو دولة الكويت.

تلك الطفرة التي مرت بدون تنمية صناعية حقيقية خففت الاعتماد الكلي على النفط كمصدر أساسي للناتج المحلي الوطني، و اصبح اقتصاد دول الخليج رعوي و غير منتج بما فيه الكفاية، مما دفع الكل الثمن و بات اقتصاد دول الخليج في خطر حين تمر أزمة و تفاقمت البطالة و أصبحوا الآباء خائفين على مستقبل أبنائهم من البطالة المستشرية في جميع دول الخليج القليل السكان مقارنة بما يحمل من ثروة نفطية هائلة، و ترددت عند بعض الآباء مقولة " كيف تنشأ مشروعا تشغل فيه أبنائك مستقبلا ".

في هذا العام 2005 يتوقع فائض كبير في جميع دول الخليج المنتجة للنفط حتى الدول التي تنتج بكميات قليلة، السعودية أكبر منتج يتوقع الفائض فيها أكثر من 160 مليار دولار و قطر الفائض أكثر من 294 مليار ريال و الكويت أكثر من 9 مليار دولار، هذه الزيادة الهائلة الغير متوقعة تستوجب النظر إليها بتمعن و التخطيط لاستغلال هذه الفوائض الذي من المتوقع أن تستمر، و تبقى اقتصاديات دول الخليج العربي معتمد على النفط بنسبة 90%، بالرغم من مناداة المختصين و الاقتصاديين بتنويع القاعدة الاقتصادية و بناء اقتصاد تكاملي و ليس تنافسي في منطقة لا يتجاوز عدد سكانها عن 35 مليون نسمة، و في بعض دولها تصل نسبة البطالة إلى أكثر من 35% من عدد السكان، معتمدة على عمالة أجنبية تصل عددها في السعودية فقط و هي أكثر دول مجلس التعاون الخليجي سكانا 7 مليون. في وقت تنتظر دول مجلس التعاون الخليجي أنظمة و قوانين منظمة التجارة الدولية التي ستفرض تشريعات و بنود تخدم الاقتصاد العالمي و تجعل المنافسة حامية و ساخنة في السلع و الخدمات، التي سيكون من الصعب على منتجات و خدمات ببيئة اقتصادية ضعيفة أن تقف صامدة مع منتجات تتميز بالجودة و السعر المنخفض. هناك تحدي قوي و مهدد للاستثمارات المحلية هي سهولة تنقل الأموال و فتح مصارف أجنبية تملك من الخبرة و التجارب ما يهدد المصارف المحلية التي هدفها تكديس أموال و الحصول على أرباح خيالية من إبداعات جامدة لم يستفد منها القطاع الخاص في إنشاء مشاريع استثمارية صناعية تخلق فرص وظيفية و تساهم في بناء اقتصاد وطني قوي.

إن دول مجلس التعاون الخليجي أمام تحديات جسام و ينبغي الاستيقاظ من السبات العميق لبناء بنية تحتية تخدم دول المجلس، فمازالت البنية التحتية لا تلائم اقتصاد حديث معتمد على تنويع المنتجات و تشجيع الصادرات و تقديم الخدمات الأفضل. الدول الست التي تقع على رقعة أرض برية شاسعة تحتاج إلى تعبيد الطرق من جديد و بناء سكك حديدية تربط الدول بعضها ببعض لتسهيل انسياب البضائع و تنقل الأفراد بسهولة و يسر، و ينبغي إزالة العقبات و العوائق عن تنقل الموارد البشرية بين دول المجلس و السعي الجاد لإحلال عمالة خليجية محل الوافدة، كذلك سهولة تنقل رؤوس الأموال و الاستثمار في دولة خليجية بدون عقبات إدارية و قانونية.

إن دول مجلس التعاون تنتظر عودة رؤوس أموال هائلة في الخمسة عشر سنة القادمة تفوق في بعض التقديرات 10 تريليون دولار، في وقت تضيق ذرعا بالأموال الحالية التي تقدر بعشرات المليارات و لا تجد ملاذا آمنا تستثمر فيه و تنمو، ألا بمضاربات آنية في أسواق المال الضعيفة التأسيس لا تعود على الاقتصاديات الوطنية بفائدة.

"اغتنموا الفرص فأنها تمر مر السحاب "، طفرة اقتصادية مرت قبل 30 سنة لم يستفد منها بشكل فعال، و لم يكن الاقتصاد العالمي بهذا الحجم و التنافس و لم يبرز دور منظمة التجارة العالمية بعد تطويرها بنفس الدور الذي تلعبه الآن في اقتصاديات دول العالم و لم يكن سكان دول الخليج بهذا الحجم و لم تكن موجودة عمالة وافدة مدربة في عصر المعارف و المهارات و استثمار الفرص الصناعية و التجارية،

و تحول أغلب دول العالم إلى اقتصاد السوق الذي يتحكم فيه قانون العرض و الطلب و السعر و الجودة.

علي عيسى

[email protected]